كيف انتهت تجربة ديمقراطية عريقة بمعايير العالم العربي إلى حالة استبدادية رثة، دون حامل سياسي وفق مفهوم حنة أرندت وميشيل فوكو، ودون حامل أيديولوجي، سياسي ـ ثقافي؟
تبدو الإجابة سهلة بقدر ما هي صعبة في الوقت ذاته، فقد بينت التجربة التونسية منذ وصول قيس سعيد إلى سدة الرئاسة، كم كانت المؤسسات السيادية في هذا البلد رخوة، وكم كانت مؤسسات المجتمع المدني رخوة أيضا، وفي مقدمها الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي وضع مصالحه الخاصة فوق الاعتبارات الوطنية واللحظة التاريخية الفارقة التي تتطلب منه موقفا يعلو على الصراعات الشخصية والسياسية والأيديولوجية، لصالح ترسيخ وتطوير الديمقراطية في مرحلة ما بعد الاستبداد.
كما بينت تجربة العام الأخير افتقار الشعب التونسي للوعي الديمقراطي وللحظة التاريخية التي تمر بها البلاد، فانجرف القسم الأعظم من الشعب وراء سعيد خلال أشهر حكمه الأولى، فيما بقي قسم لا بأس به داعما لأطروحاته، كرد فعل على التيار الإسلامي ممثلا بحركة النهضة أولا، وكرد فعل على الأخطاء السياسية القاتلة خلال السنوات العشر الماضية ثانيا، وكرد فعل على التردي الاقتصادي ثالثا.
تبين الحالة التونسية ضعف الثقافة الديمقراطية في مجتمعاتنا، فلم تكون الهبة الديمقراطية أو الثورة السياسية، نتاجا لوعي طبقي واجتماعي بأهمية الديمقراطية ومخاطرها في الوقت نفسه خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي.
كان الهدف هو إسقاط النظام الاستبدادي ممثلا بالدولة البوليسية التي ترأسها بن علي، إنه رد فعل سلبي كاف لإسقاط أنظمة، لكنه غير كاف لبناء أنظمة ديمقراطية.
هنا، تحددت الديمقراطية سلبا في الوعي، طالما هي الحد المقابل للاستبداد، وليست هدفا وغاية في حد ذاتها.
تبين الحالة التونسية ضعف الثقافة الديمقراطية في مجتمعاتنا، فلم تكون الهبة الديمقراطية أو الثورة السياسية، نتاجا لوعي طبقي واجتماعي بأهمية الديمقراطية ومخاطرها في الوقت نفسه خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي.
لقد نشأ وعي شعبي زائف، متمثل في أن عودة تونس إلى المسار الصحيح تتطلب الانقلاب التام على مسار الثورة بكامله.. إنها ثورة مضادة يترأسها رئيس شعبوي يمتلك خطابا شعبويا رثا، في مرحلة بدا الشارع التونسي فيها على استعداد ليس لتقبل هذا الخطاب فحسب، بل إلى دعمه.
في هذا المقام، تظهر الثورة المضادة التونسية أكثر نزقا، فهي بخلاف الثورات المضادة التي تنشأ من رحم الثورات، كعملية تصحيح لها أو تخفيف من حدتها، كما حدث في فرنسا بين عامي 1793 ـ 1794، حين ثار الفلاحون في فانديه ضد اليسار الراديكالي والبورجوازية على السواء، وحين قام الجيرونديون واللامتسرولون ضد عهد الرعب الذي أقامه اليعاقبة على مدار ثلاث سنوات.
وكما حدث في تونس ذاتها، حين قامت قوى من رحم النظام القديم بإعادة ضبط أيديولوجيتها يما يتلاءم مع مرحلة الثورة، ومثال ذلك حزب نداء تونس برئاسة الباجي قائد السبسي.
تشكل الثورة المضادة ممثلة بقيس سعيد، ومجموع شعبي هائج مخاطر جمة على التجربة الديمقراطية الناشئة، لا سيما أن شرعية سعيد، أو نظرته الشرعية إلى نفسه كرئيس منتخب، تسمح له بتجاوز المؤسسات السيادية وبتجاوز الدستور وروحه.
هنا، لم يعد يأبه سعيد بحجم التأييد الشعبي له وقوته، ولنا في النسبة المؤيدة للاستفتاء الأخير ما يؤكد ذلك، فقد اعتبر الرئيس التونسي تأييد نحو 30 % من مجمل المسجلين، درس أبدع الشعب التونسي في توجيهه إلى العالم.
لقد نشأ وعي شعبي زائف، متمثل في أن عودة تونس إلى المسار الصحيح تتطلب الانقلاب التام على مسار الثورة بكامله.. إنها ثورة مضادة يترأسها رئيس شعبوي يمتلك خطابا شعبويا رثا، في مرحلة بدا الشارع التونسي فيها على استعداد ليس لتقبل هذا الخطاب فحسب، بل إلى دعمه.
يستمر سعيد في مساره السياسي الذي بدأ كما قال عزمي بشارة بطريقة غير شرعية، ولم يكتسب الشرعية، بقدر ما تفاقمت لا شرعيته.
ومع ذلك، فإن الطريق السياسي لن يكون في مرحلة ما بعد الاستفتاء معبدا بسهولة كما يظن سعيد، فالمشاركة الشعبية الضئيلة في الاستفتاء تؤشر إلى تغير في بوصلة الاهتمام الشعبي، في ظل اتساع الشارع المعارض، وتراكم الإخفاقات في الملفات الاقتصادية والاجتماعية، وتردي الخدمات، وتدهور مستوى المعيشة، وتنامي الدين العام للدولة، وموقف دولي حذر من تراجع الحريات المدنية والسياسية، ونشوء أوليغارشية سياسية.
ومهما بدا أن ثورة سعيد المضادة ذات زخم قوي وماضية في مفعولها، فإنها لن تنجح في نهاية المطاف بتحقيق أهدافها، لأن الجديد الذي أنتجته الثورة الأصلية هو اقتحام الجماهير الحيز العام لأول مرة، وهذا المتغير فرض واقعا اجتماعيا ـ سياسيا جديدا، لذلك، فإن ثورة سعيد المضادة ستنتهي بالفشل مهما تأخر الوقت، لأن الأنساق السياسية التي تحاول إعادة فرضها تتناقض مع الظروف السياسية القائمة تناقضا عميقا في مرحلة التغيير الاجتماعي السريع، وفق كلمات المفكر الألماني إريك هوبسبام أثناء تنظيره للثورة الفرنسية عام 1789، والمراحل التي أعقبتها.
هل يعود قطار تونس إلى سكة الديمقراطية؟
في أسباب تدهور دور الاتحاد العام التونسي للشغل