قضايا وآراء

السُّعَار الصُّهيوني في فلسطين

1300x600

بعد تأكيد الرئيس الأمريكي بايدن صهيونيته، وتوقيعه مع لابيد ما سُمي "إعلان القدس" في الرابع عشر من تموز (يوليو) 2022، بدأ استثمارُ "إسرائيل" واختبارُها للالتزامات التي وُصِفَت في الإعلان بأنها "مقدسة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وأنها ليست التزامات أخلاقية فحسب، بل أيضا التزامات إستراتيجية ذات أهمية حيوية للأمن القومي للولايات المتحدة نفسها. وأن جزءاً لا يتجزأ منها هو الالتزام بعدم السماح لإيران مطلقاً بامتلاك سلاح نووي، والعمل مع الشركاء الآخرين لمواجهة العدوان الإيراني والأنشطة المزعزعة للاستقرار، سواء أكانت مدفوعة بشكل مباشر أو من خلال وكلاء ومنظمات إرهابية مثل حزب الله اللبناني وحركتي المقاومة الإسلامية (حماس) والجهاد الإسلامي في فلسطين"،  حيث كثفت مداهماتها الهمجية للمدن والمخيمات في القدس والضفة الغربية، وقتلت واعتقلت عدداً كبيراً من الفلسطينيين، وشنت عدواناً وحشياً مدبراً على غزة بين 5 و7 آب/ أغسطس 2022، أي بعد عشرين يوماً على "إعلان القدس"، مستهدفة حركة الجهاد الإسلامي تحديداً.. وكرر الأمريكي وتابعُه الأوروبي معزوفة: "من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها".

لم يكن الاستهداف الصهيوني المعلن لحركة "الجهاد الإسلامي"، والتركيز على استهدافها وحدها، بتركيز سياسي وإعلامي مكثف، يرمي إلى الوقيعة بين فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة فقط، لا سيما بين "حماس" والجهاد، وإلى التنافس على أصوات اليهود في انتخابات الكنيست، بين يمين صهيوني قذر وآخر أكثر قذارة، بإراقة الدم الفلسطيني بوحشية متجذرة في السلوك العنصري الصهيوني، بل كان يرمي أيضاً إلى أهداف أخرى تدخل في إطار البناء على ذلك الإعلان "إعلان القدس"، واختباره، والاستثمار فيه، والابتزاز باسمه، ابتزازاً متأصلاً في أولئك العنصريين منذ القدم، بتفرُّد وتميز يمثله تاجر البندقية الصهيوني شايلوك.
    
كان المشهد السياسي واضحاً وضاغطاً بسبب الحرب الروسية ـ الأُوكرانية، والولايات المتحدة الأمريكية تمضي باتجاه التوقيع على العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران لأن الحلفاء الأوروبيين يحتاجون إلى الطاقة، "النفط والغاز"، قبل فصل الشتاء، وإيران أحد أهم مصادر الطاقة الضرورية البديلة في ظل تحكم روسيا الاتحادية بالنفط والغاز وتوجه الغرب إلى إيجاد بدائل لها استمراراً للعقوبات.. 

لذا فإن الفرصة سانحة "لإسرائيل" لتلعب ضد الاتفاق الوشيك وإيران العدو وتحقق أهدافاً وتجني مكاسب.. فشنت عدواناً على غزة للقضاء على ذراع من أذرعة إيران في فلسطين أي "الجهاد الإسلامي"، فهذا يحقق هدفاً إسرائيلياً، ومكسباً انتخابياً للابيد وفريقه، ويحمل رسائل لجهات عدة على رأسها إيران التي قد يستفزها استهداف حركة الجهاد الاسلامي، لا سيما وأن رئيس الحركة الجهاد الإسلامي "زياد النخَّالة" في زيارة لطهران، فتقوم برد فعل تختبر "إسرائيل" في ضوئه ردَّ فعل إيران في ضوء تأييد الأمريكيين والأوروبيين لحربها على غزة "فهي تدافع عن نفسها؟!"، ويكون لها موقف سلبي من المفاوضات على عودة العمل بالاتفاق النووي في "فيينا".. وزيادة في الاستفزاز وجهت إسرائيل في أثناء العدوان على غزة ضربة لسورية تقول عادة إنها تستهدف الإيرانيين هناك.

وإلى جانب هذا الهدف الرئيس، أو الرسالة الأم، فإن "إسرائيل" باستهدافها ذاك، تشد إليها عرب "اتفاق إبراهيم"، وتعزز موقفها وتوجهها ومصداقيتها لديهم ولدى عرب اجتماع "سديه بوكر" الذين جمعهم لابيد في النقب الفلسطيني المحتل بهدف إقامة تحالف تقوده "إسرائيل" برعاية أمريكية للسيطرة على البحر الأحمر باسم مقاومة إيران، وتقديم ما يغريهم بقوتها وصلابة موقفها وقدرتها العسكرية على تحجيم إيران والنيل من أذرعها في المنطقة، والنيل أيضاً من منظمات إسلامية يحاربونها، وجعلهم يعززون التطبيع معها ويُغرون دولاً عربية أخرى بالانضمام لذلك الركب الذي تراه الجماهير العربية ركب تخاذل وخُذلان، وأبأس ما في تاريخ قضية العرب المركزية، قضية فلسطين.

 

في الثلاثة الأيام من القصف الوحشي لغزة بأحدث الأسلحة، أوقع الجيش الصهيوني المجرد من الأخلاق ٤٧ شهيداً فلسطينياً بينهم ١٥ طفلاً ونساء وقياديين من سرايا القدس، وأكثر من ٣٦٠ جريحاً، عدا ما ألحقه بالمنطقة المنكوبة من دمار يضاف إلى ما دمره فيها في اعتداءات وحشية سابقة، فتراكم الدمار على الدمار من دون إعادة إعمار، مع استمرار الحصار منذ أكثر من خمسة عشر عاماً.

 



كما رمت إسرائيل من ذلك الاستهداف والاستفراد بحركة الجهاد في غزة، وما سبقه وتلاه من تصعيد وحشي مستمر، حيث تتم التصفيات والاعتقالات والمداهمات الليلية والنهارية في القدس وجنين ومخيمها ونابلس وطول كرم وبيت لحم والخليل وبلدات وقرى في الضفة الغربية المحتلة كلها.. إلى القضاء على كل صلة بين فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة والشعب الفلسطيني، ووزرع الفتنة بين الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة، وإحكام السيطرة على القدس والواقعين تحت الاحتلال، والقضاء على تحركاتهم واحتجاجاتهم وجعلهم يفقدون الأمل بأي نصير لهم، فلسطيني أو عربي أو مسلم أو أممي، ويستسلمون للاحتلال الصهيوني، ويكفون عن المقاومة والحلم بانتفاضة، والمطالبة بإنصاف وحقوق، ويتوقفون عن التوجه إلى العالم بقضيتهم. 

ولا يشمل التصعيد الوحشي والهمجي الصهيوني المستمر المقاومةَ الفلسطينية والشبان الذين يتصدون لجيش الاحتلال بلحمهم ودمهم، ويدافعون عن أنفسهم وأهلهم ومدنهم ومخيماتهم ومقدساتهم ويتحدون الظلم والقهر والاحتلال ويطلبون الحياة الحرة والعيش بكرامة، بل يشمل الأطفال والنساء والشيوخ، والصحفيين والعاملين على توثيق جرائم الاحتلال، ومصادرة وثائق وإغلاق جمعيات وأندية ومراكز توثيق وتنظيمات نسائية وعاملين في مجال حقوق الإنسان.. وكل ذلك ليطمس الصهاينة جرائمهم الفظيعة، ولينتشر الرعب، ويرين الدم والصمت على الغرقى في البؤس والقهر والحصار منذ خمس وسبعين سنة بانتظار عدالة لا تجيئ، ورؤية أخلاقية ـ إنسانية بعيدة عن الازدواجية والتواطؤ وتزييف الحقائق وقلب والوقائع وتقديم المعتدي مدافعاً عن نفسه والضحية جلاداًبنظر دول كبرى ووسكوت مؤسسات دولية معنية بحقوق الشعوب وحرية الإنسان وحياته وكرامته.

في الثلاثة الأيام من القصف الوحشي لغزة بأحدث الأسلحة، أوقع الجيش الصهيوني المجرد من الأخلاق 47 شهيداً فلسطينياً بينهم 15 طفلاً ونساء وقياديين من سرايا القدس، وأكثر من 360 جريحاً، عدا ما ألحقه بالمنطقة المنكوبة من دمار يضاف إلى ما دمره فيها في اعتداءات وحشية سابقة، فتراكم الدمار على الدمار من دون إعادة إعمار، مع استمرار الحصار منذ أكثر من خمسة عشر عاماً. 

هل كانت "إسرائيل تدافع عن نفسها" حين اعتدت على غزة، كما قال المفلسون أخلاقياً ومزدوجو المعايير من السياسيين الغربيين؟! لقد بدأت العدوان دون سبب، وأنتهى من دون أن يسقط لها خلاله قتيلٌ واحد، ولم يجرح لها سوى اثنين بجراح طفيفة؟! بينما قتلت وجرحت من الفلسطينيين ما سبقت الإشارة إليه، فهل ذاك هو " الدفاع عن النفس" وبأحدث أنواع الأسلحة وبكل أشكال التآمر والتواطؤ الخسيس، ضد شعب أعزل، شعب فلسطينيٍّ سُرِق منه وطنه وشرد معظمه، ومازال القسم المتبقي منه تحت أبشع احتلال يحاصر، ويعتقل، ويقتَل أبناؤه، وتجدد مأساته منذ خمسة وسبعين عاماً يتعرض خلالها لمسلسل إبادة جسدية ومعنوية وروحية.. يشكو ويصبر وينتظر العدالة الدولية، فيُفتَرى عليه، ويوصَم بالإرهاب حين يدافع بلحمه ودمه عن نفسه ووطنه وحقه في الحياة.. 

خمسة وسبعون سنة وهو في المعتقلات والمحارق، محرقة بعد محرقة، ويذبحه مَن يتاجرون بالمحرقة من اليهود ويؤيدهم عالم فسد ضميره وولغ في دم الضحايا الحقيقيين ويخاف الذين يتاجرون بضحايا استمرت مأساتهم بين سنتين وثلاث سنوات، بينما الشعب الفلسطيني ضحية مستمرة العذاب والتعذيب والإبادة طيلة خمس وسبعين سنة.. فيا له من عالم نعيش يه.. أهو أعمى، أطرش، أبكم.. أم هو فاسد فاقد للقيم؟!

 

ما نراه من أجيالنا الناهضة في فلسطين خاصة وفي بعض مواقع المعاناة والنضال في وطننا العربي عامة يجعلنا على يقين بأن الشعب الفلسطيني لن يستسلم ولن يفنى، وأنه سيستعيد أمته وأن أمته ستنصره وتنتصر، فما يَغْطِشُ شمس الأمة العربية لن يدوم، وهذا الليل إلى اضمحلال وزوال..

 



لكن.. لمَ نعتب على العالم ونتهمه بالفساد وقد فسدَ رحِمُنا نحن العرب؟! فقد كان للشعب الفلسطيني أمَّة يحتمي بها وتقول إن قضية فلسطين هي "قضيتها المركزية"، لكن.. لم يبق له اليوم من أمته سوى القليل الذي يبدي تعاطفاً ويرى أن القضية قضيته، وما بيده حيلة.. لقد تحول كثيرون ممن يملكون القرار إمَّا إلى متفرجين، وإماً إلى "وسطاء"، وإمَّا إلى حلفاء للصهاينة القتلة المحتلين، يستثمرون لديهم، ويمولون عدوانهم، ويتآمرون على أبناء أمتهم ودينهم ويوالون الأعداء، وهم بذلك شركاء في الجرائم التي تُرتكب يومياً بحق الفلسطينيين.

مؤلم ومؤسف ما نمر فيه من زمن، ومؤلم مؤسف أن يتحول ساسة عرباً، وأن تتحول دول عربية هذا التحول، فتفتح على الأمة أبواباً يصعب إغلاقها، وتسلك مسالك تُشَرْعنها فيَكثُرُ طُرَّاقها وهي مسالك لا تُحْمَدُ عقباها، ومَن يفعل ذلك يَفسُدُ ويُفْسِدُ، ويجعل الذاتي فوق الجَمْعِيِّ، ويشرْعن الانبتات والخيانة وجهة نظر، وتلك نظرات أصحاب مصالح ومآرب من قصار النظر وأهل البطر، جلابي الضّرر.. لكن هذا هو الواقع الذي نمر به.. وما نراه ونلمسه من ذلك الواقع وفيه يساهم في ضعفنا وإضعافنا وتمزُّقنا، ويزيد الطامعين بنا طمعاً، ويجعل البُغاث تَسْتَنسرُ في أرضنا، ويزيد شراذم اليهود سُعاراً تنشره موتاً وفتنة بين ظهرانينا، فتتمدَّد في أرضنا، ويطال حقدها القتال أَعزَّة من أبناء أمتنا؟!
  
إنه هذا بعض واقعنا.. لكن ما نراه من أجيالنا الناهضة في فلسطين خاصة وفي بعض مواقع المعاناة والنضال في وطننا العربي عامة يجعلنا على يقين بأن الشعب الفلسطيني لن يستسلم ولن يفنى، وأنه سيستعيد أمته وأن أمته ستنصره وتنتصر، فما يَغْطِشُ شمس الأمة العربية لن يدوم، وهذا الليل إلى اضمحلال وزوال، فبعد كل ليل نهار، وفوق كل قاهر قهَّار، ولن تغيب شمس العرب، ولن يأفل نور الإسلام، وفي التمسك بالعروبة والإسلام، بالحق والعدل والأمل نصرٌ قادم بإذن الله، مهما طال الزمن وتراكمت المحن.
 
وإنَّ غداً لناظره لقريب.