آراء ثقافية

مواطن الجمال بفلمين من الهند: "جاي بهيم" و"المليونير المتشرد"

الهند التي تمدح في مقالات العرب السياسية بأنها أكبر ديمقراطية في العالم بلد قائم على ركن ركين من العنصرية
يندر أن تجد فلمًا هنديًا مقنعًا وصادقًا، فالفلم الهندي خدعة دينية وسلطوية، الأفلام الهندية خيالية يعتورها غالبًا عيوب منطقية، لن تجد فلمًا جيدًا في قائمة الأفلام العشرة الأوائل الهندية، فالسينما وظيفتها في الهند التنويم وليس الإيقاظ، التسلية وليس التحريض، العزاء وليس البناء، المعبد الأكبر في الهند هو السينما، والآلهة الحقيقيون هم نجوم السينما.

وقد نال فلم "المليونير المتشرد" 8 أوسكارات و78 جائزة أخرى، وهو من إنتاج إنجليزي، ومقتبس عن رواية للكاتب والدبلوماسي الهندي فيكاس سوارب، وأخرجه أمريكي اسمه داني بويل، إنه فلم جمع حبكات السينما الهندية في قصة أمريكية مهنّدة، عن البطل الفرد الكاوبوي (بطله بائع شاي): شاي بوي.

اجتهد مؤلفو الفلم على عنصر الإقناع فيه، بطله فقير متشرد ثقفته الحياة، يصل إلى خريطة كنز من خلال برنامج من يربح المليون، صدفةً، الصدف صنعت كثيرًا من التاريخ، الغباء صنع انتصارات ومجدا أكثر من الصدفة.

وفلم "جاي بهيم" هو فلم هندي وبأيدٍ هندية، نال استحسانًا كبيرًا، وتتوفر فيه كل عناصر الدراما الهندية: الفقد، والحب، والإخلاص، والنصر، وهو عنوان الفلم، ومعنى "جاي بهيم": النصر.

الاستدماع أحد شروط نجاح السينما الهندية، لعل له صلة بالشفقة والتسول، يقول متسول هندي أعمى أفقدته العصابات التي تتاجر بالأطفال بصره من أجل التسول في "المليونير المتشرد": بالبكاء تستطيع أن تكسب ثلاثة أضعاف ما تكسبه بالغناء. وقد جمع الاثنين، الغناء والبكاء.

ومن أهم أركان صناعة السينما الهندية: الغناء، فلا بد من الغناء، وغناء "جاي بهيم" مختلف عن الغناء في الأفلام الهندية. فالبطل الوسيم، والوسيم نادر في الهند، وكذلك البطلة المليحة يغنيان عادة، وأحيانا بأصوات عدة مطربين في الفلم الواحد، والمطربون سعداء بأن نجومًا أدّوا بأصواتهم الأغاني! فالنجم يؤديها وكأنه صاحبها، وتنسب له في وسائل الإعلام، وفيها عيب منطقي كبير وظلم بيّن.

القصة واقعية في فلم "جاي بهيم"، بينما هي مصنّعة بحذق في المليونير المتشرد الذي يوهم بواقعتيها، بطل فلم "جاي بهيم" ضحية، لكنه بطل قضية، والنصر يقع لأهله وطائفته، وليس له، فهو يقتل تحت التعذيب من أجل الاعتراف بجناية هو منها بريء. الفلم تمويل يساري، العنصرية متوفرة في الفلمين، فجمال مالك مسلم، مواطن منبوذ أيضًا في "المليونير المتشرد"، وكذلك راجا كنو في "جاي بهيم".

الشرطة تعذّب المتهم في الفلمين، فالهند التي تمدح في مقالات العرب السياسية بأنها أكبر ديمقراطية في العالم، بلد قائم على ركن ركين من العنصرية، وفي الفلم طرائف، فلا بد للفيلم الهندي من مساعد بطل مضحك، وهو قاضٍ تقي في المحكمة وجبان، فالفلم يساري ويسخر من الدين في عدة مواضع، ويؤله الإنسان. وفي الفلم أربع أو خمس نكات ومُلح مبهجة في فلم أسود، وعبارته شعرية قوية، وإن أفسدته رداءة الترجمة.

مكان تصوير "المليونير المتشرد" هو التلفزيون، أما مكان الثاني فهو المحكمة، لكن "جاي بهيم" أكثر شعرية باللقطات العالية، ومزارع الشاي، تصوير الفأر في الجحر، صيد الثعبان للفأر الفلمان كلاهما مشبعان بالواقع الهندي المستنقع.

الشرطة عنصرية في الفلمين، البطلان يعذبان للاعتراف وهما بريئان، شرطي فلم "المليونير المتشرد" يقتنع بحجة جمال مالك، ولا يستطيع أن يؤذيه كثيرًا بعد أن صار نجمًا تكتب عنه الصحافة، ولا تستطيع الشرطة أن تقتله، وليس مثل بطل "جاي بهيم"، الذي يموت منسيًا لولا زوجته ومحاميه الذي يتطوع للدفاع عنه من غير أجر، الفلمان يقدمان قصتين ممتعتين، وفيهما ركنان غربيان، إنجليزي ليبرالي في الأول، ألماني روسي ماركسي في الثاني.

البطل المتشرد يصير مليونيرًا بأجوبة عن أسئلة غربية، فليس في الأسئلة التي تطرح سوى سؤالين اثنين هنديين. "جاي بهيم" ينتصر بفضل الأيديولوجيا اليسارية، والثاني بفضل الليبرالية الغربية، الترتيب الحكائي والسردي مصنوعان بعناية في الفلمين، استطاع "جاي بهيم" أن يكون أجمل من المليونير المتشرد التي تبدو آثار الصنعة المتقنة فيه، والأسلوب السينمائي واضح، خاصة في تسلل جمال مالك إلى قلعة جافيد المحصنة بهيئة غاسل صحون، وفيه عيوب عقلية، مثل مقتل سالم مالك، فلمَ لم يقتل جافيد ويهرب؟ أما عيب "جاي بهيم" الأكبر فهو مشهد المطر الأخير، وهو يهمي على البطلة، وكانت قد تركت المحكمة حتى يصوّر هذا المشهد الأثير على الأبصار لدى الهنود، والذي لم ينج منه المخرج، لا بد من مطر يمطر على البطل والبطلة، الغناء مرافق للمطر. المشاهد لا بد له من التواطؤ واغتفار بعض الحذاقة حتى تكتمل القصة، يبقى أنّ "جاي بهيم" قصة حقيقية، وهذا يحسب. المليونير بطل فرد، أما راجا كنو في "جاي بهيم" فهو شعب.

تفوّق "جاي بهيم" في بعض مواقع السينما على فلم "الخلاص من شاوشنك" الذي حفر بطله حفرة في جدار سميك يبلغ ستة أمتار في ست سنوات، أما "جاي بهيم"، فحفر حفرة في جدار النبذ العنصري الغليظ في الهند. وسبق فلم "العراب" الذي يروي قصة صراع عصابات مافيا، ففلم "جاي بهيم" يروي قصة صراع شعبه يجاوز عدده ربع مليار في سبيل المساواة.

شاهدت "جاي بهيم" ثلاث مرات، أظنُّ أني من الداليت.