مشهد سياسي جديد مثير يعيشه العراق. الانقسام بين القوى الإسلامية الشيعية السياسية كان موجوداً، ربما منذ فترة طويلة، لكنه هذه المرة تبلور وظهر بشكل علني منذ انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. اقتحام مبنى البرلمان يوم الأربعاء الماضي والأحداث في العراق تتطوّر بوتيرة متسارعة، وبات الانقسام مجسداً فعلياً في شوارع بغداد؛ حيث أنصار رجل الدين ورئيس التيار الصدري مقتدى الصدر يوجدون في البرلمان ومحيطه، وأنصار «الإطار التنسيقي» في محيط المنطقة الخضراء عند جسر «14 تموز».
التكهنات حول كيفية حل الأزمة الحالية تدور حول سيناريوهات متعلقة بالمناورات السياسية التي يقودها الصدر، الذي حصلت كتلته على أكبر عدد من مقاعد البرلمان في الانتخابات الماضية، ورئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الذي يقود ائتلاف دولة القانون المتحالف مع فصائل مسلحة، ويعتبر الأقرب إلى إيران.
الخلاف الأساسي بين الفصيلين هو خلاف على السلطة، وكل طرف يعتبر هذه المواجهة هي التي ستحسم قدرته على أن يكون الآمر الناهي في العراق، من دون الأخذ بعين الاعتبار ضرورة خلق التوازن بين القوى المختلفة في البلاد. كل طرف يرفع شعارات مثل محاربة الفساد، لكن لا يوجد برنامج لأحدهم يوضح ما هي خريطة الطريق إلى الأمام. بينما يريد المالكي أن يشكل الحكومة المقبلة بعد انسحاب الصدر من البرلمان، وإخفاق جهوده لتشكيل الحكومة خلال الأشهر الماضية، يؤكد الصدر رفضه السماح بتشكيل حكومة تقصي كتلته. وتعيد الأحداث الحالية إلى الأذهان تطورات عام 2010، عندما فازت كتلة رئيس الوزراء العراقي الأسبق إياد علاوي بأعلى عدد من المقاعد في البرلمان، إلا أن المالكي استطاع أن يعرقل تشكيل تلك الحكومة وتمكن من التمتع بولاية ثانية. لكن الصدر ليس علاوي، ولديه مقومات مثل السيطرة على ميليشيا «سرايا السلام»، وشعبية واسعة بين فئة كبيرة مؤثرة في الشارع العراقي. كما أن الصدر استطاع أن يبني تحالفات مع زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود برزاني ورئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي، ويتمتع بشبكة علاقات قوية داخلية.
استطاع الصدر عبر السنوات الماضية أن يدرك ماذا يحرّك الشارع العراقي، وقد نجح مرات عدة في التعبير عن طموحات شريحة واسعة من الشارع العراق، على رأسها إصلاح النظام السياسي، ومكافحة الفساد، ورفض الهيمنة الإيرانية على البلاد. ويحذر بعض الساسة في العراق من أن الصدر يستخدم هذه الشعارات لكسب الشعبية، وأنه في النهاية يريد أن يسيطر كلياً على البلاد. هذا ربما وارد، لكن في الواقع الصدر عبر عن التزامه بالعملية السياسية سابقاً، وحاول أن يشكل حكومة تشمل أطرافاً عدة، وتمت عرقلة جميع جهوده. لكن هذه المرحلة قد انتهت، ولا نعلم ما إذا كان الصدر سيلتزم وعوده لو كان قد شكل الحكومة.
المرحلة الجديدة في العراق تأتي بعد نحو 20 عاماً من سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وقيام نظام مبني على التشرذم السياسي. النظام البرلماني لم يأتِ مع ركائز أساسية تحمي سيادة الدولة وسلطتها. كما جاءت هذه التطورات بعد انشغال الشارع العراقي بسلسلة من التسريبات الصوتية التي نسبت للمالكي، التي سلطت الضوء على الخلافات الداخلية بين القوى الشيعية. وبينما نفى المالكي أن تكون التسجيلات له، فإن الوسط السياسي العراقي والمراقبين عامة لم يقتنعوا بهذا النفي. وزادت حدة الخلافات والاتهامات بين الأحزاب الإسلامية الشيعية على إثر التسريبات، كما باتت حظوظ المالكي نفسه بتشكيل الحكومة شبه معدومة.
وبينما يتواجه الفرقاء وسط بغداد، هناك حكومة تصريف أعمال تحاول أن تسيطر على الوضع من خلال المناشدة بالتهدئة. رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لديه صلاحيات لمنع التظاهر واقتحام البرلمان والمنطقة الخضراء، بل عليه واجب بذلك، كونه قائد القوات المسلحة والمسؤول عن أمن البلاد، نظرياً على الأقل. لكن في الواقع إحدى نقاط ضعف موقف رئيس الوزراء خوفه من المواجهة العسكرية مع الفصائل المسلحة. هناك توازن عليه الحفاظ عليه، فمن جهة عدم السماح باقتحام المنطقة الخضراء والمباني التابعة للدولة، ومن جهة أخرى ألا تحدث مواجهة دموية قد تؤدي إلى حرب شوارع.
هناك 4 سيناريوهات محتملة في العراق. السيناريو الأبرز حالياً يدور حول إمكانية إبقاء حكومة تصريف الأعمال الحالية برئاسة الكاظمي، إلى حين إجراء انتخابات جديدة بعد بضعة أشهر أو عام بالكثير. لكن هناك أصواتاً كثيرة، على رأسها الإصلاحية، تعارض هذا الطرح، إذ تتساءل هذه الأصوات عن الجدوى من انتخابات جديدة؟ فإذا كانت الأحزاب نفسها المسيطرة على المشهد السياسي، فستكون هناك المنافسة نفسها على المناصب والمقاعد، والانسداد السياسي نفسه. السيناريو الثاني هو أن تقوم مواجهة بين القوى المسلحة تؤدي إلى اقتتال قد ينهي طرفاً من الأطراف سياسياً ويحجّمه عسكرياً. والسيناريو الثالث أن تؤدي المواجهة – لا سمح الله – إلى حرب شوارع طويلة من دون حسم عسكري وسياسي واضح لطرف من الأطراف. أما السيناريو الرابع فهو إجراء عملية إصلاح شاملة للنظام السياسي في العراق، ينهي مرحلة الفوضى ويعيد هيبة الدولة وسيادة القانون والدستور. ولا بد أن يشمل نزع سلاح الميليشيات وحصر السلاح بيد الدولة. وقد تحتاج هذه العملية إلى تدخل الأمم المتحدة إلا أن الوضع الدولي الحالي، والانقسامات الشديدة في مجلس الأمن، غير مواتية لهذا الاحتمال.
الحل الجذري في العراق يعتمد على إصلاح سياسي شامل، لكن غالبية الفرقاء السياسيين المسيطرين على هذا النظام مستفيدة مادياً وسياسياً من الوضع الراهن. السيناريو الأكثر احتمالاً حالياً يبدو الإبقاء على الحكومة الحالية مع الترتيب للمرحلة المقبلة. لكن لا يمكن ترك الحكومة من دون ميزانية، فما زال العراق الذي حصل على أكثر من 10.6 مليار دولار من إيرادات النفط لشهر يوليو (تموز) الماضي فقط، من دون ميزانية بسبب الشلل الإداري والسياسي. وبينما تتصاعد نسب البطالة وتفوق درجات الحرارة 50 درجة مئوية في بعض المناطق ويتزايد الجفاف القاتل، هذه الحكومة والتي ستليها لن تنجح بمعالجة أي من هذه التحديات الجسيمة، من دون نظام حازم يمكّنها من تحمل مسؤوليتها أمام الشعب. في حال تم تأجيل الإصلاح مجدداً، ستتكرّر الأزمات مرة تلو أخرى، إلى حين النجاح في النهوض بمخاض الإصلاح الجسيم، الذي لا بدَّ منه.
(الشرق الأوسط اللندنية)