تدخل الولايات المتحدة مرحلة غير مسبوقة، إذ بات من المرجح أن يرفض كل من المرشحين للرئاسة الأميركية الإقرار بالهزيمة في حال خسر الانتخابات التي من المقرر إجراؤها في 3 نوفمبر تشرين الثاني المقبل. وكان الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب قد صرح مراراً بأن هناك «مؤامرة» ضد فوزه بولاية ثانية للرئاسة، تشمل احتمال التزوير في الانتخابات الأميركية. والمثير أن هذا السيناريو أصبح مطروحاً أيضاً من قبل المرشح الديمقراطي جو بايدن، الذي بات مناصروه يتحدثون عن مخاطر محتملة من التزوير في الانتخابات، من خلال تلاعب يشمل «قمع الناخبين» أو عدم فرز جميع الأصوات التي يدلى بها عن بُعد.
وتزداد عملية الاقتراع الأميركية تعقيداً مع زيادة عدد الناخبين الذين يفضلون التصويت عبر البريد وإدخال التكنولوجيا في عد الأصوات في بعض الولايات، بالإضافة إلى التلاعب بحدود الدوائر الانتخابية لعزل أصوات بعض الناخبين. هذه العملية ليست جديدة في الولايات المتحدة، إذ تم اتباعها منذ عقود للحد من أصوات الأقليات، وخاصة الأميركيين من أصول أفريقية، ولكن عملية «قمع الناخبين» من خلال تعطيل قدرتهم على التصويت، وإدخال تعقيدات على عملية التصويت باتت أكثر وضوحاً هذه السنة.
من الطبيعي أن تحتدم المنافسة بين المرشحين للرئاسة قبل أسابيع من إجراء الانتخابات كل أربع سنوات، ولكن الأمر المختلف هذه المرة هو إدخال فرضية رفض أحد المرشحين نتيجة الانتخابات والتشكيك في العملية. والنظام السياسي الأميركي يعتمد على المرشح الخاسر أن يعلن قبوله أو قبولها مثل ما حصل مع المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون بالخسارة بعد الإعلان عن غالبية نتائج الانتخابات، ومن ثم يخرج الفائز بالرئاسة للإعلان عن الفوز. ولكن في حال رفض المرشح الخاسر اتباع هذا العرف، وهو عرف وليس قانوناً، سيكون من الصعب الإعلان عن فوز مرشح بالرئاسة. وبينما اعتاد العالم على الإعلان عن نتيجة الانتخابات بعد ساعات من غلق أبواب مراكز الاقتراع، تزداد احتمالات تأخير الإعلان عن النتيجة النهائية لبضعة أيام – قد تصبح أسابيع - للانتهاء من فرز جميع الأصوات عبر البريد والتعامل مع الطعون المتوقعة في عدد من الدوائر الانتخابية.
وبينما تتباهى الولايات المتحدة بنظامها السياسي المبني على التداول السلمي للسلطة وإقرار الطرف الخاسر بخسارته فور الإعلان عن النتائج الانتخابية وقرار الناخب الأميركي، بات هذا النظام مهدداً وسط انقسامات ظاهرة في البلاد، تشمل ظهور ميليشيات مسلحة في الشوارع، ومع إجراء الانتخابات وسط وباء عالمي، وإصابة الرئيس نفسه بفايروس كورونا. فقد شهدنا كسر الكثير من التقاليد السياسية في الولايات المتحدة خلال هذه الحملة الانتخابية، بما فيها استخدام البيت الأبيض منصةً للحملة الانتخابية، وهو أمر غير مسبوق في العصر الحديث، حيث إن قوانين الانتخابات الأميركية تمنع استخدام الرئيس الحالي البيت الأبيض والمال العام لدعم حملته الانتخابية. وإصرار حملة ترمب على مواصلة اللقاءات الشخصية في تجمعات حاشدة مع الناخبين وسط انتشار الوباء ووفاة أكثر من 200 ألف أميركي من جراء الفايروس، أثارت تساؤلات. ومواصلة التجمعات الشخصية للحزب الجمهوري أجبرت المرشح الديمقراطي جو بايدن على مواصلة التجمعات الشخصية أيضاً. ولكن انقلب الأمر على ترمب عندما أصيب بكورونا واضطر للمكوث بالبيت الأبيض لعشرة أيام خلال أهم مرحلة من الحملة الانتخابية. توجه ترمب إلى فلوريدا، وهي من الولايات المتأرجحة التي قد يكسبها الديمقراطيون، ليل الاثنين بعد عشرة أيام من إصابته بكوفيد - 19، في تجمع حاشد قرر أن يجعله مسرحاً لإظهار ازدرائه إجراءات الوقاية الرسمية، إذ رمى قناعه الوقائي الكمامة وهو واقف على المسرح، في لفتة درامية.
وبينما شهدت الحملة الانتخابية الأميركية هذا العام كسراً للكثير من التقاليد، هناك أساسيات لم تتغير، بما فيها أن القضية الجوهرية التي تحرك الناخب الأميركي تدور حول الاقتصاد والوظائف. السؤال التقليدي للناخب: «هل وضعك اليوم أفضل من قبل 4 سنوات؟» – أي هل أحدث الرئيس الحالي تغييراً إيجابياً على حياتك تجعلك تصوت لصالحه، أم أصبحت حياتك أكثر صعوبة مما يدفعك للتصويت لإخراجه من البيت الأبيض؟ الإجابة عن هذا السؤال بالطبع تختلف بحسب وضع وموقع الناخب المعين، ولكن بشكل عام ينعكس على الواقع الاقتصادي العام للبلاد. وإلى حد بداية العام الحالي كانت مؤشرات أسواق المال ومعدلات البطالة تشير إلى نجاح نسبي للرئيس ترمب في تحسين الظروف الاقتصادية في البلاد، حتى وإن فشل في تحقيق بعض وعوده مثل إحياء مناجم الفحم، وإعادة المزيد من فرص العمل للجاليات المرتبطة بها وغيرها من وعود متعلقة بقطاعات تراجعت في البلاد. إلا أن ظهور الوباء أثر على الاقتصاد بشكل كبير، وقد أدى إلى إغلاق 31 في المائة من الشركات الصغرى والمتوسطة بشكل مؤقت أو دائم في الولايات المتحدة. وأصحاب تلك الشركات وموظفوها سيحكمون على الإدارة الأميركية من خلال صناديق الاقتراع.
ويتمتع بايدن بتقدم مريح على ترمب في استطلاعات الرأي الوطنية، وتشير باحتمال كبير إلى قدرته على النجاح في الانتخابات، ولكن استطلاعات الرأي أثبتت عدم جدواها في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، مع فوز ترمب غير المتوقع وهزيمة المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون عام 2016. ولكن في الوقت نفسه، الفجوة بين بايدن وترمب أكثر – بين 10 و14 في المائة في بعض الولايات – من الفجوة الصغيرة بين كلينتون وترمب عام 2016. ويذكر أن نظام الانتخابات الأميركية يعني أن الانتخابات عادة ما تحصر بعدد من الولايات «المتأرجحة»، أي التي تتأرجح نتائجها بين الحزبين الديمقراطي أو الجمهوري بناء على الناخبين غير الملتزمين دوماً بحزب ما. وتلك الولايات مهمة بالنسبة للناخبين للحصول على الرقم السحري – 270 – من أصوات المجمع الانتخابي البالغة 538. ويذكر أنه في عام 2016 فازت المرشحة الديمقراطية كلينتون بأكثر من 3 ملايين صوت أكثر من ترمب، ولكنه استطاع أن يحصل على 304 أصوات من المجمع الانتخابي، بينما حصلت كلينتون على 227 صوتاً فقط. وفي حال فاز بايدن بولايات متأرجحة وغير محسومة مثل فلوريدا وبنسلفانيا، بالإضافة إلى الولايات التي تقليدياً تصوت لصالح الديمقراطيين، فسيكون الحسم في الانتخابات أكثر سهولة، وربما ينقذ النظام السياسي ويجنبه الخلافات السياسية المتوقعة في حال كان الفارق ضئيلاً. وبينما تسلط أنظار العالم على نتيجة الانتخابات الرئاسية، فإن ثلث مقاعد الكونغرس ستحدد في انتخابات الكونغرس الدورية. ويتطلع الديمقراطيون إلى استرجاع مجلس الشيوخ، بعد أن سيطروا على مجلس النواب في الانتخابات السابقة.
ووسط الفوضى حول انتخابات الرئاسة، ستكون نتائج انتخابات الكونغرس مهمة، ولكن الأهم من ذلك سيكون دور الذراع القضائية للبلاد، إذ في حال توجه أي من الناخبين للقضاء لرد نتائج الانتخابات، سيكون القرار الفاصل في المحاكم.
في النهاية، النظام السياسي للولايات المتحدة، أو لأي بلد مستقر ويتمتع بآلية الانتقال السلمي للسلطة، أهم من المرشح أو الحزب السياسي. وبعد أن عملت واشنطن على إدخال صناديق الاقتراع وإجراء الانتخابات في دول مثل أفغانستان والعراق، من دون أن تحمي العملية السياسية من الفساد والطعون، باتت الانتخابات مصدراً لزعزعة الاستقرار والضرر بالبلاد. على أمل ألا تنتقل عدوى الانتخابات الفوضوية للولايات المتحدة.