قال الفنان المصري محمد منير في أغنية له: «علي صوتك بالغنا لسه الأغاني ممكنة… ولسه ياما ياما ياما ياما في عمرنا… علي صوتك علي صوتك بالغنا… لسه الأغاني ممكنة ممكنة.. ولو في يوم راح تنكسر.. لازم تقوم واقف كما النخل باصص للسما للسما… ولا انهزام ولا انكسار ولا خوف ولا حلم نابت في الخلا في الخلا».
نعم أيها المنير، فبعد أن فقدنا الأمل فإننا نشعر أن الأغاني ما تزال ممكنة،
كما أن الأغاني الوطنية بشكل أساسي ممكنة أيضا، وهناك من يحن لها ويسمعها
بعد أن اعتقد البعض أن موجة الفن الهابط، وما يجري في هذا الوطن العربي من
محيطه إلى خليجه من تشرذم وانحدار، أبعد مفهوم الأغاني الوطنية عن ذهن الناس
ووجدانهم، ولكن وجدنا أنفسنا نخطئ، إذ جاء من ينكش هذا المفهوم ويعيد
إشعال فتيله ليتوهج من جديد، كما فعلت يوما الكبيرة جوليا بطرس عندما غنت
للجنوب اللبناني ضد الكيان الصهوني، وعندما سألت العرب عن الملايين في
رائعتها (وين الملايين)، لتجد أن ألسن ملايين العرب ترددها بلسان واحد.
استذكرت أغنية منير وأنا أشاهد وأسمع تأثر ساسة بنشيد (موطني) الخالد الذي ألفه الشاعر إبراهيم طوقان في ثلاثينيات القرن الماضي، وما يزال يردد ويسمع جيلا بعد جيل، حتى إن البعض يبكي عند سماعه؛ لأن في كلمات القصيد تعابير صادقة تهز الوجدان، وفي معانيها مفاهيم حية قائمة تحكي عن حالنا وأحوالنا وما وصلنا إليه.
ليلة السبت، حلقت الفنانة دلال ابو آمنة عاليا في مهرجان جرش وهي تغني كلمات
قصيدة موطني على مسامع الحضور، ولأن النشيد ليس ملكا لفنان بعينه، فإن
أعدادا كبيرة من الفنانين أدوها وغنوها وأجادوا، حتى إن دولا اعتمدتها
نشيدا وطنيا لها، ولكن أبو آمنة استطاعت أن تلهب مشاعر حضور لدرجة البكاء،
وهذا ليس انتقاصا ألبتة من قدرة فنانين كبار غنوها.
قدمت الفنانة الملتزمة دلال أبو آمنة قصيدة الشاعر إبراهيم طوقان صاحب
ملحمة (موطني والفدائي وملائكة الرحمة والشهيد والثلائية الحمراء)، قدمت
القصيدة بإحساس عال، أوصلت كلماتها لكل من سمع، ومن حضر، فكانت سببا في
انحدار دمع من عيون ساسة كانوا بين الحضور، وتأثر آخرون حد التجلي، ومن لا
يتجلى وهو يسمع أغنية تؤدى بإحساس عالٍ تتحدث عن معاني الوطن والوطنية؟ ومن
لا يتجلى وهو يسمع قصيدة مغناة عاشت أكثر من 90 عاما، وما تزال تلهب مشاعر
الناس وتوقظ فيهم حب الوطن؟ وهذا الوطن هو ذاك الممتد من المحيط إلى
الخليج، وليس فلسطين المحتلة وحدها.
ترى أيها السادة، من لا يسمع كلمات تقول «مَوطني الجلالُ والجمالُ
والسَّنـاءُ والبهـاءُ في رُبـاك، والحياةُ والنّجاةُ والهناءُ والرّجاءُ
في هـواك، هل أراك سالما مُنعّـما وغانما مُكرّما هل أراك فـي عُلاك
تبلغُ السّماك مَوطني… الشبابُ لن يكلَّ همُّهُ أن تستقـلَّ أو يبيد، نستقي
من الرّدى ولن نكون للعـدا كالعبيد، لا نُريد ذُلّنا المؤبّدا وعيشنا
المُنكّدا لا نُريد بل نُعيد مجدنا التّليد، مَوطني موطني، الحسامُ
واليراعُ لا الكلامُ والنزاعُ رمزنا مجدُنا وعهدُنا وواجبٌ إلى الوفا
يهزُّنا عِزُّنا، غايةٌ تُشرف ورايةٌ تُرفرفُ يا هَنَاك في عُلاك قاهرا عِداك مَوطني»، من ذاك الذي لا يتأثر ويبكي وهو يرى ما وصلنا إليه اليوم من
تسليم وتطبيع واستسلام.
نعم وبكل معاني الوطنية، شكرا لكِ دلال أبو آمنة شكرا من القلب، شكرا لأنك
أعدت فينا الإيمان أن الأغاني ممكنة، وأن الحنين للوطن قائم لا يموت مهما
تكالبت الظروف، ومهما حاول بني صهيون التغلغل في حاضر هذا الوطن اليمين أو
الشمال، إلا أن هناك (وهم كثر) في هذا الوطن، من ما يزال يؤمن أن الوطنية لا
تباع ولا تشترى، وأن الوطن غال وله الدم يبذل، والحياة تهون. والشكر أجزله
لهذا الرائع الغائب الحاضر إبراهيم طوقان، الذي ألف قصيدة ما تزال مفاعيلها
كالسحر عند الناس، وترتفع قيمتها كلما تقدم بها الزمن.
(الغد الأردنية)