الكتاب: السنة والإصلاح
الكاتب: عبد الله العروي
الناشر: المركز الثقافي العربي، بيروت، 2008
يغوص الدكتور عبد الله العروي في أعماق تاريخ الفلسفة اليونانية، ولا سيما في العصر الهلستيني الذي يقدره بنحو ألف سنة، إذ يبتدأ تقريبا من فتوحات الإسكندرالمقدوني (بداية القرن الرابع قبل الميلاد) وينتهي مع ظهورالإسلام في القرن السادس بعد الميلاد. وارتبطت الفلسفة تاريخيا بذلك العصرفمن يتفلسف اليوم، بالمعنى التقليدي،"يتهلسن" بالضرورة.
يقول العروي: "تاريخيا لانشأت الميتافيزيقيا في حضن الميثولوجيا فلم تتنكر لها ولم تنفصل عنها، كما أن الثيولوجيا تولدت عن الميتافيزيقيا فلم تنفصل لا عنها و لا عن الميثولوجيا، كما أن العلم الموضوعي انبثق عن السوابق الثلاث المذكورة ولم يقطع أبدا الصلة بها رغم طرقه مسالك جديدة وحصوله على مكاسب متزايدة باهرة. لا يصح النسق الكونتي إلا على المستوى العقائدي، أي السياسي في النهاية. ولا يستبعد أن يكون هذا كما سعى إليه صاحبه.
نعيش اليوم عهدا هلستينياً جديداً حيث تختلط المناهج الأربعة: الميثولوجيا، الميتافيزيقا، الثيولوجيا،العلم الموضوعي. نراها تتجاور في كل مجال، بل تتداخل وتتلاقح. اليوم كما حصل أمس، تبلغ الفلسفة المنتهى، فتكتمل وتفنى. تتخلل كل حقل معرفي، الكونيات والإلاهيات، الطبيعيات و الرياضيات، الفن والرمز، الوعي والحلم، قوانين المجتمع وسلوك الفرد. وكلما اندست في علم ضاعت فيه".
في نظر العروي الفيلسوف المعاصر، لا يختلف عن سابقه الهلستيني، بوصفه وسيطا، واصلا، وناقلا، ومؤولاً. الفيلسوف في عالمنا المعاصر كف عن الوعد بمرحلة لاحقة تأتي بعد مرحلة الهدم للبنية الفكرية السابقة.
يقول العروي: "آخر محاولات التركيب جاءت على يد الماركسيين وتثمينه مهيبة، وعلى يد الفرويديين وكانت تافهة بخيسة. فقامت علة أنقاضهما الفلسفة التحليلية مسلحة بمكاسب الرياضيات العليا واكتسحت كراسي أشهر جامعات الدنيا" (ص19).
الفيلسوف في العالم الحديث يحاول أن يتخطى ديالكتيكيا أنانية الفيلسوف في العصر الهلسنتيني أي الأولاني، والمتكلم الجريء. وعن الفيلسوف، وهي الصفة التي ينفي العروي أن يكونها، يقول: "الفيلسوف فيلسوف لا بفكره أو موقفه أو أسلوبه فقط، بل بالمجتمع الذي يحيط به والزمن الذي يعيش فيه. والأمر صحيح بالنسبة إلى المتكلم، بينهما أكثر من تماثل إذ أن دورهما واحد"(ص30).
وعن العلم يقول العروي: "وماذا عن العلم؟ هناك علم العلميين وهناك علم الهواة المتطفلين. ما أكثر من يحاضر عن العلم دون أن يمارسه فينسب إليه وحدة في المنهج وفي الهدف لا يقرهم عليها أصحاب الشأن"(ص29).. أما بصدد العلم فيقول: وكان أن انتهى العروي إلى الحل: الإفادة من الفريقين والتمتع بهما دون الانحياز لا لهذا الفريق ولا لذاك.
يقول: "هذا ما رسب في خاطري منذ أن بدأت أطالع كتب الفريقين. تمتعت بالجميع وأفدت من الجميع دون أن أنحاز لأي واحد منهم، مشددا على المسائل والأدلة، متغافلا عن النتائج والخلاصات"(ص31). ولأن العلم التجريبي أو العلم الحديث لم يحقق أمل الإنسانية، أو أن ذلك حدث في حدود ضيقة، كما يؤكد على ذلك العروي، فإن هذا العجز النسبي للعلم "يبقي على وجود الفلسفة، ينعش الثيولوجيا ويحيي الميثولوجيا بواسطة الفن والشعر"(ص34).
العرب والدور الريادي للإسلام
في الفصل السادس يتعرض العروي لموضوع ظهور الإسلام، فيقول: "لا نجد للعرب حضورا في المجال اليوناني الكلاسيكي هذا صحيح، لكن للفرس حضور وكذلك للساميين الغربيين. وللشعبين معا علاقات وثيقة وموثقة بالعرب، بمن نسميهم نحن العرب، إذا كانوا المخاطبين بالرسالة".
لقد كان للعرب حضور في "العهد القديم أي في تاريخ العبرانيين"، وأضحى حضورهم أقوى في عهد الامبراطورية الرومانية، ولا سيما عندما انتقل إلى الشرق مركزالثقل فيها. فرسالة الإسلام جاءت في محيط تاريخي، يسميه العروي، بالعهد الهلستيني، الذي تتداخل فيه الثقافات.
في نظر العروي تظل الثقافة الهلستينية هي خاتمة ذلك العالم المجهول أي ما سبق العهد الهلستيني: "خلاصة بديهية، ومع ذلك يتجاهلها من يصر على ربط العلم الحديث بالمادية (الدهرية) اليونانية، وكذا من يرى في انتشار الثقافة اليونانية في أعقاب حملة اسكندر فوز الغرب على الشرق. أيام إسكندر، وأيام يوليوس قيصر، خضع الشرق للغرب عسكريا وسياسيا، لكنه ساد عليه ذهنيا روحيا"(ص49). هذا هو الشرق الكبير، المعدي، اللافح بناره التي لا تخبو، نار الروح المسافرة الحيرانة من أعماق الجزيرة العربية إلى تخوم القارة الهندية.
وفي النهاية، فإن ما يحل كل الإشكالات المحيطة بالإنسان هو العلم الموضوعي: "فائدة العلم الموضوعي هي أنه يحل ما تعقده ذاكرتنا، يفكك ما تركبه، يذكرنا بالموازين والمقادير الصحيحة. فيمدد ما عملنا على اختزاله جيلا بعد جيل. يعيد كل شيء إلى موضعه: التاريخ المروي ضمن التاريخ الدارس المنسي، التاريخ البشري ضمن تاريخ الحياة، التاريخ ضمن الأنثربولوجيا، الأنثربولوجيا ضمن النورولوجيا. بذلك تنكشف لعبة الفكر".
وعند ظهور الإسلام، إذن كان الشرق، في حلبة المتوسط،قد حسم لصالحه المنافسة الروحية بينه و بين الغرب، حسب الاستقطاب الذي اخترعه اليونانيون لأغراض تعبوية وطنية منذ كانت هيرودوت. انتهى الغرب المفترض بالذوبان في الشرق الأزلي.
يقول العروي: "وعلى العموم نسجل في الثقافة الهلستينية، في جوانبها السياسية والاجتماعية، والفكرية والفنية ميلا واضحا نحو الشرق، انجذابا متزايدا نحو موطن الثروة والذوق والحذق والبراعة. فوق كل هذا، وربما بسببه، موطن التناسق والتناغم، التبسيط والتيسير. في الشرق لا يسهل الانتقال من التعدد إلى الوحدة، من التناثر إلى الانتظام، من التنوع والاختلاف إلى التماثل والائتلاف، من فوضى الغوغاء أو تناحر الأشراف إلى الانقياد لإرادة الفرد المتسلط"(ص93).
ـ من المعروف تاريخياً أن ثورة العرب الإسلامية انطلقت من فكرة التوحيد، أي وحدانية الله "هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام" (59 الحشر الآية 23)، "وإلهكم إله واحد"، "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" (البقرة 163، 255) "هو الله الذي لا إله هو عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن الرحيم" (الحشر 22).
هذه السيادة العليا والمتعالية للكلي المطلق، هي التي تبرز وتشرع الممارسة السياسية والاجتماعية والثقافية للنبي محمد، وبالتالي لسلطته السياسية ولخلفائه من بعده.
وليست ثورة العرب هذه التي قادها النبي محمد، والقائمة في رؤيتها للعالم، وفي مثالها على الإسلام من حيث هو في جوهره وحي متجسد في كتاب الإسلام الأول والوحيد القرآن، هذا الكتاب الذي هو المصدر الذي يتضمن كل الآيات القرآنية، والذي خلع لباس التعالي على هذه السيرورة الثورية في الواقع المعاش بتاريخيته وتجريبيته ونسبيته في الجزيرة العربية، عن طريق ربطها بالكلي المطلق الأعلى الله، هذه الثورة ليست سوى ذلك التحول والصعود لقوى تاريخية جيدة منظمة، الذي أسس وعياً إسلامياً في حال انبثاق عن روح العالم والتاريخ، ورسخ بدوره نوعاً من النظرة للوجود، والرؤية للعالم. كما أن هذه الثورة مثلت الاستجابة التاريخية الضرورية لحاجة العرب في شبه الجزيرة من أجل مواجهة الأخطار التي كانت محدقة بهم خصوصاً بعد انقطاع التجارة الهندية بسبب تغيير الطريق التجاري الأوروبي ـ الآسيوي، والغزوات الفارسية القادمة من الشمال والتي كانت تهدد مكة، وكذلك التهديدات التي كانت تمارسها الحبشة على سكان الجزيرة، والأزمات التي كانت تعصف بالمجتمع العربي القبلي الجاهلي.
لقد جاء الإسلام وثورته الاجتماعية والثقافية بفكرة الإله الواحد، من حيث هو ذات أو مفهوم ينطوي على سائر الأفكار والرؤى والحدوس والمثل العليا التي تحتوي على قيم مطلقة أبدية لا تحل في الزمان، والتي تعتمد في حقيقتها وصدقيتها على تماسك المعنى المقدم من قبل الخطاب القرآني، وقام بثورته على أيديولوجية الطبقة الاجتماعية المسيطرة المتمثلة بسادة مكة القريشيين، التي تتخذ من شكل وعيها الديني "الوثني والمحافظ على حسية الرموز الدينية وعلى الأوثان كتعبير عن التجزؤ والتشرذم، والتعبير لقوى عرب الجاهلية بين دوائر قبلية منفصل بعضها عن بعض".
وفضلاً عن ذلك فإن العمق الثوري للإسلام انطلق من تلك العلاقات التي نسجت وحيكت بين السيادة العليا الإلهية والوحي الإسلامي بجملته، وبين السلطة السياسية للنبي محمد، التي أرست نواة الدولة في المدينة، وراحت تعيد إنتاج الواقع التاريخي لعرب الجزيرة على ضوء منظومة المعايير الإسلامية الآمرة، لكي يصبح مطابقاً مع هذه المعايير، وحطمت بذلك أسس المجتمع الجاهلي المتحكم فيه النظام القبلي البدائي، ووحدت الجزيرة العربية، وحافظت على مكة أم القرى واعتبارها إحدى المقدسات الإسلامية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن النبي محمد في سياق المبادرات السياسية الثورية التي كان يقوم بها، اضطلع بدور مزدوج، إن لجهة الإكمال النظري لهذه المنظومة من التحديات والآيات القرآنية لترسيخها في وعي البشر، أو لجهة القيام بدور العنصر المفسر لهذه المنظومة ذاتها، حيث تتطلع هذه المنظومة المعيارية إلى الارتقاء بالواقع إلى مستوى (المثال) إما بسلب الواقع سلباً مباشراً، وإما بسلب جزئي يمارسه الواقع التاريخي على منظومة المعايير الإسلامية من خلال منهج في التفسير يعيد تفهم هذه المنظومة المعيارية بأكملها في ضوء أحد المنجزات التي يكون (روح العالم) قد حققها في لحظة تاريخية معينة من لحظات حياته.
إقرأ أيضا: العروي.. من التاريخانية إلى اكتشاف الواقع المجتمعي الإسلامي
أبو زيد الإدريسي.. مغربي منشغل بمواجهة مشاريع استهداف الأمة
طلبة بأحذية العسكر.. كتاب يدوّن جزءا من طريق ثورة تونس
خيبة الأمل في التنوير العربي.. أين المشكلة؟ (2من2)