لا خيل عدنك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
تلك هي أبيات أبي الطيب المتنبي التي ترشدك إلى
لبنان في زمن العصفورية؛
التي تحدث عنها رئيس الوزراء في أثناء إطلاق الحملة
السياحية لصيف عام 2022 تحت عنوان "أهلا بهالطلة"، في مركز التدريب
والمؤتمرات التابع لشركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية، حيث قال الرئيس ميقاتي؛ إن
وزارة السياحة اختارت شعارات الحملات من الأغاني اللبنانية مثل "بحبك يا
لبنان"، و"كيف ما كنت بحبك" لفيروز، واليوم "أهلا بهالطلة
أهلا" للشحرورة صباح، وقال: "نتمنى منكم جميعا أن تدعو معي إذا
استمررنا في اختيار الأغاني كشعارات، ألّا نصل إلى أغنية عالعصفورية".
لا يعرف إن كان الرئيس ميقاتي أطلق
كلامه على سبيل المزاح، أو على سبيل النقد المبطن، خاصة بعد البيانات والردود
النارية التي حفلت بها الأيام الماضية، ولكن من الواضح أنه أبلغ تعبير عما وصل
إليه لبنان، ولعله أضاء على عشرات المواقف السياسية التي قد تصدر من أفرقاء
العصفورية الكبرى. وهنا تقول المصادر بأن من أراد الانتقاد أو الاصطياد في الماء
العكر أو تصفية حسابات مع الرئيس المكلف، فقد أخطأ التقدير، أو ربما غير مطلع على
أسلوب السخرية السياسية التي لطالما اعتُمدت من أكثر من رئيس أو زعيم على مستوى
العالم، ممن كانوا يعبرون عن واقع بلدانهم بالسخرية (في لبنان: الرئيسان كرامي سلّام)،
تماما كما هو الكاريكاتور السياسي أو المشهد المسرحي الذي يغلف والمرارة والمعاناة
بقالب فكاهي لشعب لبناني، بات يرقص كالطير "مذبوحا من الألم".
وبالعودة للعصفورية، فهي
باللبنانية العامية بيت المجانين، وبالتعابير العربية الصحيحة هي بيت لمن هم بحاجة
لعلاج نفسي. ويعود تأسيس مستشفى "العصفورية" إلى العام 1900،
واستقبل أول مريض نفسي في 6 آب/ أغسطس من العام نفسه، وأمضى أعواما عدة فيها. كما
أن إطلاق تسمية العصفورية على أول مستشفى للصحة النفسية في لبنان،
يرتبط بالتسمية الفعلية لمنطقة لبنانية تقع في جوار منطقة الحازمية،
عُرفت بأشجارها الكثيرة وعصافيرها المتنوعة، وامتدت على مساحة 130 ألف متر مربع،
بعد حصولها على إذن أيام السلطنة
العثمانية وحكمها في لبنان، ما ساهم في إطلاق هذه التسمية
الغريبة.
ولكن بعيدا عن اصطلاح معنى العصفورية الحقيقي كما في لبنان الذي غدت أيامه عصفورية بعصفورية
(جنون بجنون)، فإن البلاد كتلة عصفوريات متنوعة سياسيا واقتصاديا وماليا ونقديا
وقضائيا واجتماعيا، أنه زمن العصفورية اللبنانية بكل أبعادها لبلاد تغنّى العالم
يوما بفطنة أبنائه عبر العصور. فأي زمن وأية ظروف وأيام أوصلت لبنان العقل والحكمة
إلى أن يكون لبنان العصفورية؟
تلكم
العصفورية ليست وليدة اليوم، إنما وليدة الانهيارات المتتالية على كل المستويات
وكأني بالبلد كالسماء مرفوعة بلا عمد، وآخر الانهيارات جاء في إضراب موظفي مصرف
لبنان المتزاوج مع إضراب القطاع الحكومي في بلاد بات عنوانها الشلل؛ إلا من منتخب
كرة السلة الذي تُرفع لأبطاله القبعات لما أدخلوه على قلوب اللبنانيين التعيسة
بحسب مؤشر غالوب (مؤشر التعاسة)، وما أدخلوه من فرح بوصولهم للمربع الذهبي في آسيا، حيث فازت بلاد الاقتصاد المنهار على بلاد اقتصاد التنين الجبار.
تلكم
العصفورية في بلاد على شفير حرب، قد تهز الإقليم في ظل الانغلاق الواضح في الرؤى
داخليا وإقليميا لملف الترسيم البالغ الحساسية، في ظل لحظات إقليمية دقيقة ومقلقة
لكل الأطراف، فلغة التهديد والوعيد لا تجدي حلا ومنطق الانحياز لا ينجز اتفاقا، والتشتت
في الرؤية لا يبني وطنا إلا وطن العصفورية.
تلكم
العصفورية في بلاد لا تستطيع اجتراح حل للحالة الاقتصادية البالية، ولا لذلكم
الجمود المقرف في الوصول إلى رؤية اقتصادية مالية، عنوانها ضرب الفساد الذي يأكل
البلد وأهلها شيئا فشيئا، وهو أشبه بالهريان (الصدأ) الذي يضرب الحديد فلا حل إلا
بالضرب بيد من حديد على كل الفاسدين، مهما علا شأنهم وذاع صيتهم. ومن هنا يأتي سؤال
المليون: متى الحكومة والكل متفق على أن لا حكومة في الأفق؟ في زمن العصفورية
الدولار قرابة 30 ألف ليرة، والبنزين فوق 600 ألف ليرة، وربطة الخبز على أبواب 20 ألف
ليرة، والقدرة الشرائية تكاد تكون معدومة في زمن الأقساط المدرسية دخلت عالم
الدولرة ولا حسيب ولا رقيب، والحصول على حليب الأطفال يحتاج إلى رحلة شاقة، برغم
رفع سعره والدواء في ميزان السوق السوداء!! إنها العصفورية.
تلكم العصفورية، أكدتها
المؤشرات فقد حلّت العاصمة
بيروت في المرتبة الأخيرة بين المدن العربيّة، والمركز 242 ضمن لائحة تضم 248
مدينة في العالم مشمولة في قياس مؤشّر نوعيّة الحياة لعام 2022، حسب مؤسسة
"نامبيو" الدولية للإحصاءات. والأدهى أن بيروت ست الدنيا بحسب الراحل نزار
قباني، تبوأت الصدارة الإقليمية في غلاء
المعيشة بين المدن العربية في بلاد
الحد الأدنى للأجور يلامس 22 دولارا شهريا، وتقدمت العاصمة اللبنانية بذلك إلى المركز
12 عالميا، مقتربة من الكلفة المرجعية في مدينة نيويورك، التي يتم اعتمادها
مؤشرا للقياس، وبرزت بيروت كأغلى مدينة بين المدن العربية، عند مقارنة مستوى
الأسعار فيها بالأسعار في مدينة نيويورك، وفقا لتقرير مؤسسة "نامبيو"
الدولية للإحصاءات؛ حيث بلغ مؤشر كلفة المعيشة فيها 95.65 نقطة، أي أقل بنسبة 4.35
في المئة فقط من وحدة القياس البالغة 100 نقطة للمدينة الأمريكية!!
أي بيروت هذه!! ففي زمن
العصفورية، تصبح بيروت ونيويورك بذات التصنيف، فأم الشرائع تموت فقرا، حيث 82 في
المئة من شعبها فقراء بحسب الأسكوا والكثير من المؤسسات الدولية المعنية، أما
نيويورك، فهي تعالج فائض تضخمها وقوة عملتها ورفاهية شعبها!!
على
الأرجح أن الخوف كل يوم يكبر أن تصبح العصفورية مجموعة عصفوريات متنقلة مع قرب وقت
الاستحقاقات السياسية والاقتصادية والنقدية والمالية والاجتماعية القادمة، وما أكثرها!
mmoussa@mees.com