آراء ثقافية

الصوفية والفقهاء.. والصراع على الحب الإلهي

الصُّوفي يستمد سلطته من خصوصية علاقته بالله- جيتي

مَن يَتصفَّحْ كُتبَ التُّراثِ الإسلاميّ سواء المُتَعلّقةُ بالفقه أم بالتَّصوُّف يجدْ نفسه أمام حربٍ ضروسٍ وُقُودها صراعٌ فِكريّ طويل الأمد بين مدرسةِ الفُقهاء بزعامة الحَنابلة (يُمْكن أَنْ نُسمِّيهُ التَّيار السَّلفيّ) وبين مدرسة التَّصوُّف والعشق الإلهِيّ، ورغم طول أمد هذا الصّراعِ إلَّا أنَّ جُذْوته لا تزال مشتعلةً إلى اليوم.

 

وأساسُ الصّراع أنَّ المدرسةَ الأُولى تُقيمُ بُنيانَها على بناءِ الأركانِ ورسمِ الحُدودِ في التَّعاملِ مع اللهِ، وعلى المُسلمِ أنْ يُقيمَ دينه على هذه الأَرْكانِ وأن يرسمَ حياته وعبادته ضمن إطار هذه الحدود، وإنْ حدثَ وتَجاوزَ هذه الحُدودَ فَينبغي له أنْ يُراجعَ نفسَهُ ويَعودَ سريعاً ليتحصَّنَ داخلها. أمَّا مدرسةُ التَّصوُّف فَهي تَقوم في علاقتها مع اللهِ على فكرةِ هَدمِ الأركانِ وتجاوزِ الحدودِ؛ فلا مُحدِّدات في علاقةِ الحبيبِ بحبيبه.


فالفقيه يستمد سلطته من معرفة الأركان وجهل النَّاس بالحدود، فيتقدمهم موضّحاً ما يجوز وما لا يجوز، ومحدِّداً تلك الأفعالَ والأقوالَ التي ينبغي لها أن تُقال في مخاطبة الرَّب وتلكَ التي ينبغي لها ألّا تُقال في حضرته.

 

اقرأ أيضا: "مجاذيب الصوفية" سلب للعقول في محبة الله.. ما حقيقة الظاهرة؟
 

أمَّا الصُّوفي، فإنَّه يستمد سلطته من خصوصية علاقته بالله، فحينما تبلغ العلاقة بينهما أوجها يرتفع بقدره فوقَ الأركان وتسقط بينهما الحدود؛ فهو يطلب من الحبيب ويخاطبه دون حاجةٍ إلى وسطاء يخبرونه بما يتوجّب عليه أن يفعل.


لذا، يبدو الصّراع على الحب الإلهي بين المذاهب والمدارس الدينية منطقياً؛ لأنَّ اعترافَ أي طرف بالآخر يعني تنازله عن سلطته التي اكتسبها عبر التَّاريخ الإسلامي. ورغم أنَّ الصُّوفية تأخرت -نسبياً- في الظهور مقارنةً بالفقه فإنَّ الفقهاء حذَّروا في أشعارهم من هذه الطّريقة في الحب، فهذا الشّافعي يقول: 


تَعْصِي الإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ      هَذَا مُحَالٌ فِي القِيَاسِ بَدِيعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقاً لَأَطَعْتَهُ         إِنَّ المُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ

فهو يربط المحبَّة بالطّاعة والخضوع، وبالتالي السير ضمن نطاق الحدود واحترامها، ولا يتصوّر شكلاً لعلاقة الحبّ خارجَ إطارِ القياس الذي يكاد أن يكون أساسَ الفقه. 


ونجد ابنَ قيِّم الجوزيَّة -في القرن الثّامن الهجري- يُوضِّحُ في مطلع نونيته الشَّهيرة طبيعةَ الحبّ الإلهي الحق الذي يتقبّله الله من عباده، فيقول:


حُكْمُ المَحَبَّةِ ثَابِتُ الأَرْكَانِ      مَا لِلصُّدُودِ بِفَسْخِ ذَاكَ يَدَانِ


فالحب لا يكون بالصُّدود والتّكاسل، بل باتِّباع الطريق ثابتة الأركان، وبناءً على ذلك فكان لا بد من صدور الحكم ببطلان الجمع بين المحبَّة وبين الصدود الذي يعني التخاذل عن القيام بالواجبات وتأدية العبادات:


فَلِذَاكَ قَاضِي الحُسْنِ أَثْبَتَ مَحْضَراً      بِفَسَادِ حُكْمِ الهَجْرِ والسُّلْوَانِ
وَحَكَى لَكَ الحُكْمَ المُحَالَ وَنَقْضَهُ            فَاسْمَعْ إِذاً يَا مَنْ لَهُ أُذُنَانِ
حُكْمُ الوُشَاةِ بِغَيْرِ مَا بُرهَانِ                     إنَّ المَحَبَّةَ والصُّدُودَ لِدَانِ

والجهل بالأركان والحدود يستدعي اتِّهاماً بجهل العلوم النقلية التي يقوم عليها الدِّين الصَّحيح، وهو اتِّهام يرد عليه المتصوِّفة بحجة امتلاكهم العلوم القلبية التي توصلهم إلى طريق الحق والإيمان، فهذا عبد الغني النابلسي يقول: 


قَلْـبِي لِعِلْـمِ الإِلَـهِ بَـابُ      وَمَـــا لَهُ دُونَــهُ حِجَــابُ

وإنْ كانت المعركة بين التّيار السلفي والتّيار الصُّوفي قائمة إلى اليوم في مختلف الميادين، فإنها حُسمت جمالياً في ميدان الشِّعر لصالح المتصوفة؛ فشعر الفقهاء جافٌ أقرب إلى النَّظم والمنطق منه إلى الشِّعر الفني. أَمَّا غالب شعر المتصوّفة فهو من الشِّعر العربي في أعاليه ولا يجد القارئُ نفسه إلَّا منساقاً وراءَ جماله وإن كان لا يتفقُ مع بعض معانيه وأفكاره. فهذه رابعة العدوية تخاطبُ الذّاتَ الإلهية قائلةً:


أُحِبُّــكَ حُــبَّيْنِ حُــبَّ الهَـوَى              وَحُبّــاً لِأَنَّــكَ أَهـْـلٌ لِـذَاكا
فَأَمَّـا الَّـذِي هُـوَ حُـبُّ الهَوى      فَشُـغْلِي بِـذِكْرِكَ عَمَّـنْ سِـوَاكا
وَأَمَّـا الَّـذِي أَنْـتَ أَهْـلٌ لَـهُ       فَكَشْـفُكَ لِي الحُجْبَ حَتَّى أَرَاكا

وهذا ذو النُّون المصري يقول:


شَـوَاهِدُ أَهْـلِ الحُـبِّ بَـادٍ دَلِيلُهَـا           بِــأَعْلَامِ صِــدْقٍ مَـا يَضِـلُّ سَـبِيلُهَا
جُسُـومُ أُولِـي صِـدْقِ المَحَبَّةِ وَالرِّضَى      يُـبَيِّنُ عَـنْ صِـدْقِ الـوِدَادِ نُحُولُهَـا

إنَّ تخطِّي الحدود بين الحبيب والمحبوب في قصائد الحبِّ الإلهي تختلف طريقته ودرجته من شاعر إلى آخر، فذلك يعتمد على درجة التزامه بالحدود. كما تُؤَثِّر درجة الالتزام في المعاني المستخدمة في القصائد؛ فالشّاعر الّذي لا يتخطى الحدود تتركّز معانيه على القوَّة والجَلال والرَّجاء والقدرة المطلقة، فهذا عبد الرَّحيم البُرعي -على سبيل المثال- يقول:  


أَغِيبُ وَذُو اللَّطَائِفِ لَا يَغِيبُ         وَأَرْجُوهُ رَجَاءً لَا يَخِيبُ
وَأَسْأَلُهُ السَّلَامَةَ مِنْ زَمَانٍ        بُلِيتُ بِهِ نَوَائِبُهُ تُشِيبُ


ونجده في موضعٍ آخر يُعلن عن عجز الإنسان وعدم قدرته الإحاطةَ بمعرفةِ الله وإدراك ذاته: 


إِذَا هَــمَّ وَهـْمُ الفِكْـرِ إِدْرَاكَ ذَاتِـهِ             تَعَــارَضَ أَوْهَــامٌ عَلَيْــهِ وَأَفْكَــارُ
وَكَيْــفَ يُحِيــطُ الكَيْـفُ مِقْدَارَ جَدِّهِ       وَلَيْـسَ لَهُ فِـي الكَيْـفِ حَـدٌّ وَمِقْدَارُ
وَأَيْـنَ مَحَـلُّ الأَيْـنِ مِنْـهُ وَلَـمْ يَكُـنْ            مَـعَ اللَّـهِ غَيْـرُ اللَّـهِ عَيْـنٌ وَآثَارُ

أمَّا ابنُ عَرَبِي فإنَّهُ يتخطَّى الحدود ويحطِّم كُلَّ الحواجز التي رسمها الفقهاء بدقّة؛ فيجعل كلَّ الطرق والأديان موصلة إلى المحبوب تحت مُسمَّى دين الحبِّ، يقول:


لَقَـدْ صَـارَ قَلْـبِي قَـابِلاً كُـلَّ صُورَةٍ      فَمَرْعَــىً لِغِــزْلَانٍ وَدَيــرٌ لِرُهْبَـانِ
وَبَيْـــتٌ لِأَوْثَــانٍ وَكَعْبَــةُ طَــائِفٍ          وَأَلـْـوَاحُ تَــوْرَاةٍ وَمُصْــحَفُ قُـرْآنِ
أَدِيــنُ بِـدِينِ الحُـبِّ أَنَّـى تَـوَجَّهَتْ     رَكَــائِبُهُ فَـالحُبُّ دِينِـي وَإِيمَـانِي

وهو دين يقوم على اتِّباع القلب والهوى في رسم العلاقة مع الحبيب:


وَاللهِ إِنِّي عَابِدٌ لِلْهَوَى       لَيْسَ لَهُ فَأَيْنَ تَوْحِيدِي
حُكْمُ الهَوَى صَيَّرَنِي عَابِداً      لِرَبِّهِ فَذَاكَ مَعْبُودِي

وكلما زادَ الحُبُّ زاد الاتحاد والاندماج مع الذات الإلهية وذابت الحدود، فهذا الحلّاج يقول: 


فَاسْمَعْ بِقَلْبِكَ مَا يَأْتِيكَ عَنْ ثِقَةٍ           وَانْظُـرْ بِفَهْمِكَ فَالتَّمْيِيزُ مَوْهُوبُ
إِنِّـي ارْتَقَيـْتُ إِلَى طَوْدٍ بِلَا قَدَمٍ         لَـهُ مَـرَاقٍ عَلَـى غَيْـرِي مَصَاعِيبُ

وبعد أن يرتقي العاشق هذه المراقي الصعبة الارتقاء على غيره يصبح الموتُ والحياةُ سيَّان لديه، فنجده يُخاطب النّاس:


اقْتُلُـونِي يَـا ثِقَاتِي            إِنَّ فِـي قَتْلِـي حَيَاتِي
وَمَمَـاتِي فِـي حَيَـاتِي       وَحَيَـاتِي فِـي مَمَـاتِي

ويصل الأمر عنده أقصى الحدود فتذوب الفروق ويرى نفسه في محبوبه:


أَنَا مَنْ أَهْوَى وَمَنْ أَهْوَى أَنَا         نَحْنُ رُوحَانِ حَلَلْنَا بَدَنا
نَحْنُ مُذْ كُنَّا عَلَى عَهْدِ الهَوَى   تُضْرَبُ الأَمْثَالُ لِلنَّاسِ بِنا
فَإِذَا أَبْصَرْتَنِي أَبْصَرْتَهُ                     وَإِذَا أَبْصَرْتَهُ أَبْصَرْتَنا

هذه الطريقة المتجاوزة للحدود والحواجز في طريق الصُّوفية إلى الله، وتعاملهم مع الحبّ وكأنّه حبٌّ إنساني، ألَّبَتْ عليهم الفقهاء الذين ألَّبوا -بدورهم- العامةَ والسلّطةَ... فانتهى كثير من أعلام الصوفية نهايات مأساوية لتبقى هذه الطريقة في العشق سرّاً يحاول العاشقُ كبحَ عواطفه كي لا يبوح به، فيقع ما لا تُحمد عقباه، فهذا السَّهْروردِي المَقتُولُ يقول: 


وَاحَسْرَتَا  لِلْعَاشِقِينَ تَحَمَّلُوا         سِرُّ المَحَبَّةِ وَالهَوَى فَضَّاحُ
بِالسِّرِّ إِنْ بَاحُوا تُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ         وَكَذَا دِمَاءُ العَاشِقِينَ تُبَاحُ

وكأنّه كان يتنبّأ بنهايته على يد السلّطة وفقائها.