(خدعة
البيضة الواقفة)
هل تستطيع أن توقف بيضة على طرفها
المدبب؟
يشير السؤال إلى أحجية شهيرة
معروفة باسم "بيضة كولومبوس"، وقد وردت لأول مرة في كتاب "تاريخ
العالم الجديد" للإيطالي بينزوني الذي نشره في منتصف القرن 16 وحكى فيه عن
خلاف كبير نشأ في إسبانيا بين كريستوفر كولومبوس وعدد من الشخصيات التي تهون من
عظمة اكتشافه للأرض الجديدة، أو كما كانوا يسمونها حينذاك جزر الهند الغربية
(أمريكا حاليا). وقال المعارضون إن كولومبوس لم يفعل إلا ما كان مقدرا أن يفعله أي
شخص آخر، "فبلدنا إسبانيا عامرة بالرجال الأذكياء المغامرين العظماء" وأراد
كولومبوس أن يرد على الاستهانة، فأتى ببيضة ووضعها على المائدة وتحدى الجميع أن
يجعلوا هذه البيضة تقف على رأسها!
حاول الجميع مرارا وتكرارا،
وفشلوا، وهنا جاء دور كولومبوس الذي أمسك بالبيضة ونقر رأسها على المائدة فهشمه
حتى صار مستويا، وحينها أوقف البيضة على رأسها بسهولة!
(إعجاب
الديكتاتور بتكسير الرؤوس)
في كتابه الشهير
"كفاحي" أبدى هتلر إعجابه بذكاء "الحل الكولومبوسي"، صحيح أن
هناك خدعة، لكن كولومبوس عندما عرض اللغز لم يشترط الحفاظ على البيضة سليمة،
وبالتالي غيّر الواقع ليكسب رهانه بالحيلة.
هذا ما يحدث في فكرة طرح الحوار الوطني كمتنفس للمعارضة في مصر، ثم يتبين مع الوقت أن المشاركة في الحوار تتطلب تهشيم الرؤوس أولا، لأن أحدا لا يستطيع الوقوف إلا من يقبل بتبطيط رأسه، أو استبدال فكرة الحوار (كحالة ديمقراطية حرة ومفتوحة) بحالة مغلقة ومشروطة
وهذا ما يحدث في فكرة طرح
الحوار الوطني كمتنفس للمعارضة في
مصر، ثم يتبين مع الوقت أن المشاركة في الحوار
تتطلب تهشيم الرؤوس أولا، لأن أحدا لا يستطيع الوقوف إلا من يقبل بتبطيط رأسه، أو
استبدال فكرة الحوار (كحالة ديمقراطية حرة ومفتوحة) بحالة مغلقة ومشروطة تدور على أسس
هندسية داخل أروقة
المعايير التي يضعها طرف مهيمن كشروط مسبقة لقبول المشاركة في
الحوار!!
يذكرني هذا بما فعلته
"هيلين كوراجينا" في رواية "الحرب والسلام" لتولستوي، حيث ينسج
والدها خدعة لتزويج ابنته من الشاب الثري بييبر بيزوخوف، لكن هيلين لا تحبه ولديها
علاقات عاطفية مع آخرين، وعندما تتزوجه بضغط من الخديعة تبرر ذلك أن العائق كان في
اختلاف الأديان، ولما حدث تبديل في العقائد زالت المشكلات.
وإذا سألنا عن علاقة ذلك
بالحوار يمكن أن نتذكر كلمات المنسق العام عن دوران الحوار تحت سقف منخفض لدستور
تخالف السلطة مبادئه الرئيسة كل يوم تقريبا، وتبدل فيه بسهولة عندما يتعارض مع
بقاء الديكتاتور في كرسي لن يسمح لأحد بالاقتراب منه. لذلك على القابلين بالحوار
أن يبدلوا عقائدهم ويؤمنوا بما يملى عليهم، حتى لو كانت السلطة لا تلتزم بهذا
الدستور في الحريات الاجتماعية والسياسية وفي جوهر العمل الديمقراطي والعدل
والعدالة ونزاهة الانتخابات، بل وفي الإجراءات الشكلية المتعلقة بجوائز
الإفراج عن
المعتقلين بالقطاعي أو الجملة.
الرئيس الذي يحارب الإرهاب ويشترط تجنب مشاركة الإرهابيين في حواره السياسي، يحصل على التهنئة للإفراج عن إرهابيين، بل ويصدر عفوا رئاسيا عن محكومين بالإرهاب
وهنا تبدو بوضوح خديعة البيضة
التي وقفت على رأسها، فالرئيس الذي يحارب الإرهاب ويشترط تجنب
مشاركة الإرهابيين
في حواره السياسي، يحصل على التهنئة للإفراج عن إرهابيين، بل ويصدر عفوا رئاسيا عن
محكومين بالإرهاب، مثل المهندس المحترم يحيى حسين عبد الهادي والابن العزيز حسام
مؤنس وكل المفرج عنهم تقريبا، لأن تهمة الإرهاب واردة في أوراق كل المحبوسين، فمن
نصدق: حكم المحاكم وقرارات النيابة التي تصف هؤلاء الوطنيين بأنهم إرهابيون؟ أم
قرارات الدولة ومؤسساتها بالإفراج والعفو عن إرهابيين (تعرف الدولة خارج الأوراق
أنهم ليسوا كذلك)؟
(توضيح
مكرر للموقف من الحوار)
في الفلسفة كلام كثير عن
الفروق بين المطلق والمتعين، وعلى سبيل التبسيط أقول إني أحب التفاح في المطلق،
لكنني لا أحب هذه التفاحة "المعينة"، لأنها معطوبة أو ملوثة أو فجة أو
بها عيب يمنعني من أكلها. هكذا الحوار كمبدأ لا يمكن رفضه، لأنه قيمة عقلية
وإنسانية مفيدة في التواصل والترقي والتطور، أما هذا الحوار بذاته فإنه معطوب
ومضاد لجوهر الحالة المنفتحة للحوار بين مختلفين، إذ يصعب وجود حوار حقيقي بين متفقين،
إلا إذا كان لغوا لتضييع الوقت وممارسة خديعة شكلية للتصوير أو الإعلان عن بضاعة
نخدع بها متفرجين ما.
النقطة الثانية أن أي لعبة لا
تكتفي باللاعبين في الملعب، فهناك مدربون وأطباء وإدارة ونقاد وجمهور وسماسرة أيضا،
وبالتالي فإن اللعبة الصحيحة لا تقتصر على عدد اللاعبين في قاعة مغلقة، وإلا فإنك
تقتل اللعبة. وأنا بصفتي "ناقدا" لا أنزل إلى الملاعب للمشاركة مع
اللاعبين، وإذا لم تسمح لي الإدارة (مثلا) بنقد اللاعبين والأداء وقرارات الحكم،
فإن هذا معيب ويضر بمصداقية اللعبة، لذلك فإن الحوار السياسي في مصر يشبه سماح ابن
صاحب العمارة لأولاد البواب بأن يلعبوا معه بالكرة التي اشتراها له والده، وإذا
خالفه أحدهم فإنه يوبخه ويطرده بسهولة، وإلا "ياخد كرته ويدخل بيتهم يلعب مع
الكلب بتاعه في الجنينة"!
هذه باختصار رمزية "تهشيم
الرؤوس" لتبدو البيضة واقفة، مع أنها صارت مكسورة ويصعب الاحتفاظ بها طويلا،
لأنها أصبحت قابلة للفساد السريع.
السلطة حائرة وسط دوامة من الأزمات وهذا يضطرها لإظهار شكل ديمقراطي، فتطلق وثيقة لحقوق الإنسان وتظل على منهجيتها في الاعتقال والإخفاء والحبس خارج القانون، وتلغي الطوارئ مع الحفاظ على مستوى القمع والتخويف، وتدعو للحوار مع مصادرة آراء المخالفين وتحجيم المشاركة بلجان تشبه اللجان البرلمانية
والخلاصة أن مصر تعيش خدعة
خسيسة ويتحدث قادتها عن الأمن والسلام وحقوق الإنسان، كأكاذيب تضمن له الحصول على
قروض ومعونات تحتاج على الطنطنة بشعارات والسماح بممارسات لا يؤمن بها النظام، ولا
يمكن أن يسمح بتفعيلها بشكل حقيقي، خصوصا وأن أي حوار ينطلق من الاعتراف بأخطاء
والسعي للحوار حولها، وبما أن النظام لديه إنجازات ومعجزات وليس لديه أخطاء، ففيم
الحوار؟ ولماذا؟
أعرف أن السلطة حائرة وسط
دوامة من الأزمات وهذا يضطرها لإظهار شكل ديمقراطي، فتطلق وثيقة لحقوق الإنسان
وتظل على منهجيتها في الاعتقال والإخفاء والحبس خارج القانون، وتلغي الطوارئ مع
الحفاظ على مستوى
القمع والتخويف، وتدعو للحوار مع مصادرة آراء المخالفين وتحجيم
المشاركة بلجان تشبه اللجان البرلمانية. وعلى مستوى
المعارضة الحائرة بين العجز
الهيكلي وهيمنة السلطة، فإن الحوار يبدو متنفسا لإظهار الفعالية والأداء السياسي
والعثور على فرصة للظهور الإعلامي، والشروط معلنة سلفا: تعال إلى الحوار والكلمات
عندنا.. سنسمح بظهورك صورة وصوتا، لتقول ما نريد منك أن تقول، وتقف على رأسك
"المهشم" شامخا لتبهر بقية المخدوعين!
(الخلاصة)
أنا مع الحوار، لكنني لا أرى
حوارا ولا أرى متحاورين..
هدى الله الجميع..
tamahi@hotmail.com