السكون والهدوء الباديان على سطح الحياة في أي بلد يسوده الظلم والعدوان والقهر والجبروت ويسوده الفساد هو سكون مؤقت وإن استمر لبعض الوقت، وهو سكون المضطر وليس استقرار الرضا ولا الطمأنينة. يعلم ذلك من في السلطة قبل أن يعلمه المواطن الذي يعاني، والدليل هذا الكم الهائل من التحذيرات التي تطلقها السلطة منذ تسع سنوات وتحذر فيها من الغضب والثورة أو ما تسميه الفوضى، فلو أن أمورها مستقرة لما احتاجت إلى التحذير من الفوضى كما تفعل صبح مساء.
وأخشى ما أخشاه أن تبحث السلطة في
مصر عن طريقة ما لتعبر بها الأزمة الراهنة؛ لا أن تعالج كل جذور المشكلات والأزمات التي تعيشها البلاد منذ وصول الجنرالات إلى السلطة في 1952. أي أنها تبحث عن البقاء في هدوء والاستمرار دون ضجيج، وإهمال ملف التغيير الذي بات حتميا، فإما التغيير أو الانفجار. وهنا أستعير ما قاله المنشق الروسي اندريه أمالريك (Andrei Amalrik) الذي هرب من روسيا وقتل في إسبانيا، بعد أن توقع في مقالة له انهيار الاتحاد السوفييتي وكتب عنه مقالا في الفورين أفيرز الأمريكية بعنوان "كيف تنهار قوة عظمى؟".
أخشى ما أخشاه أن تبحث السلطة في مصر عن طريقة ما لتعبر بها الأزمة الراهنة؛ لا أن تعالج كل جذور المشكلات والأزمات التي تعيشها البلاد منذ وصول الجنرالات إلى السلطة في 1952. أي أنها تبحث عن البقاء في هدوء والاستمرار دون ضجيج، وإهمال ملف التغيير الذي بات حتميا، فإما التغيير أو الانفجار
يقول أمالريك في مقالته واصفا تعامل السلطة مع الأزمات الكبرى والتحديات العظمى التي قد تؤذن بقرب النهايات: "كل ما تريده الحكومات التي تواجه المآزق هو أن يسير كل شيء على النحو الذي كان عليه من قبل، وهو الاعتراف بالسلطة، وأن يبقى المثقفون هادئين، وألا تتم زعزعة النظام بالإصلاحات الخطيرة وغير التقليدية".
وأعتقد أن ما يجري اليوم في مصر هو عملية إرضاء أو استرضاء وتدجين وإعادة من خرجوا غاضبين إلى حظيرة الدولة، أو بمعنى آخر إلى حضن السلطة، بالوسائل المعتادة والتي ذكر بعضها أمالريك في مقالته.
وإذا ما حدث هذا الأمر على هذا النحو فإن التغيير الهائل سيحدث؛ لأن السلطة ستعيد إنتاج نفس الوسائل التي تستخدمها في كل مرة وهي آمنة مطمئنة، غير مدركة لحقيقة الأمور ولا مستوعبة لحجم الغضب الكامن في الصدور، والذي انتهى بتفكيك إحدى القوى العظمى وتلظيها بنيران التمزق رغم أنها كانت إحدى القوى العظمى دوليا؛ وليس إقليميا ولا عربيا.
كل ما أخشاه من هكذا حوار أن تأخذ السلطة السكرة وحالة النشوة بالدعم المالي الخليجي والدعم السياسي الغربي فتظن كما ظن قادة الاتحاد السوفييتي أن الأمور مستقرة، طالما أن المثقفين هادئون والبيروقراطيين مرضيون والشرطة تقوم بدورها في استمرار حالة السكون المسماة بالاستقرار.
ما يجري اليوم في مصر هو عملية إرضاء أو استرضاء وتدجين وإعادة من خرجوا غاضبين إلى حظيرة الدولة، أو بمعنى آخر إلى حضن السلطة، بالوسائل المعتادة
كل الشواهد تقول بأن ما يجري من حوار في مصر ليس حوارا بالمعنى السياسي، بل هو تصفية أجواء وإعادة رص الصفوف والعودة إلى الأيام الخوالي، وهو ما عبر عنه ضياء رشوان، المنسق العام للحوار الوطني، والذي صرح قائلا: "إن هدف
الحوار الوطني هو إعادة اللُّحمة لمكونات
30 يونيو". وهو بذلك يختصر على الجميع فهم ما يجري ويمنع منعا باتا أي محاولة لفهم الحوار الوطني على أنه حوار حقيقي بين أطياف المجتمع وتياراته المختلفة والمتعارضة أحيانا.
لذا، فإن هذه النوعية من الحوارات سوف تفضي إلى شيء أكثر خطورة مما يتوقعه النظام وحواريوه وهو الانفجار، لأن الحوار بين المتخاصمين في معسكر 30 يونيو سوف يتعامل مع الأعراض الجانبية للمشكلة وليس مع أصل الداء والمرض، وهو حالة الانقسام المجتمعي الحاد الناجم عن سوء إدارة الوطن والتفريط في مقدراتها والاستهزاء والسخرية من المخالفين للسلطة، بل ووصمهم بالكفر تارة وبالخيانة تارة أخرى وبأشياء لم يصح منها شيء.
أصل الداء هو حالة الانقسام التي جرت وجارٍ تعميقها من خلال عملية انقلاب مجتمعي وسياسي غير مسبوق، تقوم من خلالها السلطة بتحويل الوطن إلى جزء من المؤسسة العسكرية، بحيث تتحول مصر تدريجيا إلى ثكنة عسكرية فيها بعض المدنيين أو قلة أو شرذمة منهم. وسوف لن يطول الوقت حتى ترى بأم عينيك هذا التحول في حياة المصريين؛ إن لم تكن تراه حاليا أو تراه وتنكره أو تستبعده عقليا كما يحلو لنا دوما أن نفعل.
القصة ليست صراعا سياسيا بين فصائل تسعى إلى الوصول إلى الحكم، فهذا مشروع ودستوري، بل القصة هي منع كل مدني من أن يفكر في التعامل بندية مع السلطة العسكرية، والتي تؤهل رجالها لقيادة البلاد ربما لنصف قرن قادم، من خلال فتح المجال أمامهم للالتحاق بالكليات المتخصصة في السياسة والاقتصاد والعلوم الاجتماعية، بحيث ينشأ جيل عسكري لديه فكرة وإلمام بالسياسة والاجتماع والاقتصاد ويحمل فكرة الكراهية والاحتقار لكل ما هو مدني.
مشروع عسكرة مصر كليا يواجه تحديات اقتصادية هائلة، وبالتالي فالقائمون عليه يدركون أن تعثره يعني نهايته، لذلك بادروا بالدعوة إلى الحوار حتى يستطيعوا منع انهيار مشروعهم، وليس إيمانا منهم بالحوار
إذا كان الوضع هكذا، فما الذي يدفع السلطة للتحاور أو يدعوها لإطلاق فكرة الحوار الوطني؟ شرحت ذلك في مقالي السابق، ولكن أزيد على ذلك بالقول بأن مشروع عسكرة مصر كليا يواجه تحديات اقتصادية هائلة، وبالتالي فالقائمون عليه يدركون أن تعثره يعني نهايته، لذلك بادروا بالدعوة إلى الحوار حتى يستطيعوا منع انهيار مشروعهم، وليس إيمانا منهم بالحوار ولا بالتحاور ولا تقديرا منهم لمن دعوهم للحوار؛ لأن الجنرالات لديهم عقيدة راسخة بأن المدنيين كم مهمل وسقط متاع.
هنا يحاول أصحاب مشروع العسكرة الشاملة تجنب تعثره ويسعون إلى استنهاضه من جديد، وهم محقون جدا في استبعاد القوى الثورية والإسلامية لأن طبيعة هذه القوى أنها متمردة ورافضة للهيمنة العسكرية ولا يمكن أن تتعاون. وتعلم السلطات المصرية أن سقف القوى الثورية والإسلامية أعلى بكثير من عملية الاحتواء عبر الإفراج عن بعض المعتقلين أو إجراء تحسينات شكلية على المشهد العسكري الراهن، لذا فقد صرح رأس النظام بنفسه أنه لا مكان للإخوان في الحوار، وهو يعني ما يقوله وهو جد صريح وواضح (أن الإسلاميين والإخوان تحديدا لن يقبلوا بمشروع إدماجهم في السلطة أو في الواقع الجديد واعتبارهم وردة في ياقة جاكت البدلة العسكرية).
من هنا يبدو لي أن الحوار الذي شرع في تنفيذه سوف ينتهي مبكرا لأنه محكوم عليه بإرادة من دعا إليه، فهو يريدهم ألا ينتقدوا ما أخطأ فيه، وأن يمتدحوا ما لم يثبت جدواه وأن يسبحوا بحمده ليل نهار، وأن يتركوا أنفسهم بلا عقل ويسيروا خلفه لأنه مؤيد من السماء وعنده صلة بالله ويكلم الله تكليما، ويعتقد أن ما قدمه لا يمكن لبشر أن يقوم به ولكن الذي قام به هو الله.
ونكمل إن شاء الله البقية في المقال القادم.