استيقظ من نومه مع صوت أذان العصر الذي ينطلق من جامع الشربيني الذي لم يدخله منذ سنوات خوفا من أن تصيبه لعنة أتباع حسن البنا والسيد أبو قطب، وبالكاد يمر أمام مقام الشيخ الشربيني كل ليلة مع كل غدوة أو روحة إلى خمارة سكران، وهو يقسم لحيطان المسجد والمقام أنه يحب عبد الناصر ويكره الإخوان.
وجد أشياءه مبعثرة فوق القبة، حيث ينام فوق الفرن البلدي الذي يعني له ولأم حسن سريرا منيفا في الصيف ومدفأة ممتعة في الشتاء، حيث يغط في النوم ليل نهار وكأنه الملك المعظم فاروق ينعم في استراحته بقصر الخاصة الملكية في إنشاص.
نظر أبو حسن أيمن منه فوجد محفظته ذات الكباسين النحاسية التي اشتراها من أحد أبطال حرب فلسطين 1948، فالتقطها يراجع ما بها رغم علمه أنها فارغة على الدوام، ثم نظر أشأَمَ منه فوجد لفافة الأفيون مزاجه اليومي، ذلك المال الوفير الذي لو اجتمع يشتري الأبعديات والفدادين، والملقى في بحراية قاعة النوم، فأوقع جسده عليها يلتقطها بيديه كأمهر الصيادين.
ورغم أنها بالطبع ورقة فارغة إلا أنه راح يتشممها بأنفه ويأخذ منها نفسا عميقا ويقبلها بشفتيه ويلعقها بلسانه، ولأنها من بلاد الخواجات دسها على وعد بلحسات أخرى في جيب الصديري، ذلك الشيء الوحيد الذي بقي على حاله من ملابسه المهترئة.
نادى أبو حسن، على الست أم حسن وكأنه الجاويش في جيش محمد علي باشا يتمرمغ في الأميري ويقبض الراتب الميري: انتي يا ولية، يا وش الخراب، مالك وحاجياتي، انتي عاوزة علقة من بتوع زمان.
أقبلت أم حسن، حافية كعادتها في ردائها الأسود الذي لا يفارق لحمها صيفا وتضع فوقه شرزا كالخرقة من صوف خروف بلدي صنعته بيديها حينما كانت في مقتبل العمر، شتاء.
بادرته قائلة: ولولوا عليك ساعة وانفضت يا بعيد، خليتنا ورا الناس بجريك ورا مزاجك ومشيك ورا النسوان. خايف أسرق حجج الأرض ولا عقود البيوت ولا الجنيهات التي لا تسعها جيوبك. حرام عليك، يا مفتري، أنا تعبت من سرقة الملوخية والرجلة والطماطم والباذنجان والفول والذرة من أراضي الناس، ولولا أنهم يعلمون بحالنا لما سكتوا.
انتفض أبو حسن، كالديك الشركسي منتفخ الأوداج، ليُمسك بتلابيبها، لكن يدها كانت أسرع منه تزيح يده بعيدا عما تبقى من هدومها الممزقة، فتركها خوفا أن تتعرى أو تطلب منه ثمنا لجلابية كتان أو كستور، من دكان الحاج جلال.
وفي نوبة من الشجاعة انتابت أم حسن راحت تستكمل وصلة تأنيب زوجها قائلة: ألا تستحي من سنك وشيبتك هتقول إيه لربنا، وآخر حلة ودست وطشت نحاس كانوا عندنا، أخذوهم الديّانة، كفاية حشيش وأفيون وسجائر وبيع بالبخس وسلف بالفايظ وديون وذل وهموم، خليتنا فرجة من في الغرب ومعيرة من في الشرق.
تسمر أبو حسن، وبدا عاجزا أمام كلمات أم حسن، التي غادرت الدار بحثا عما يقيم أودها ويبقي البيت مفتوحا أمام الجيران الذين سئموا حوارات الزوجين اليومية ولم تعد تُفلح محاولاتهم في حل الأزمة، أو دفع بعض الديون أو منع بيع بعض محتويات الدار التي بقيت خاوية على عروشها تشكو حيطانها حالها لبعض القش الذي يسترها من مطر ويقيها من حر.
عكننتي عليا الله يعكنن عليكي وعلى اللي جابوكس يا أم 44، انت مرة بومة صحيح وشك يقطع الخميرة من البيت، راح أبو حسن يهذي بصوت خفيض خوفا من عودة أم حسن مرة أخرى.
ظل الرجل على تسمره، فلقد حبك عليه المزاج وحل الصداع ودقت العصافير في دماغه وكأن كرابيج سودانية تقطع في أشلائه، ولكنه سيتحمل لا مفر، ولكن ما لن يتحمله هو أن يُخلف وعده مع أم سامي بأن يشتري منها قطعة أفيون أو ثُمن حشيش الليلة، وهو الذي حلم بأن يجلس تحت قدميها ويحظى منها بما يحظى السكارى كل ليلة في خمارة زوجها سكران.
أم سامي تستاهل، وياما وقفت جنبي، أيوة تستاهل، دي مهلبية مش أم حسن بوز الإخص.
وبعيدين يا أبو حسن.. تعمل إيه يا أبو حسن.. تسوي إيه يا أبو حسن. أيوة مفيش غير أني أرهن الدار أو أبيعها، هي كدة كدة فاضية حتى طشت حماية العيد اتباع.
الله ينور عليك يا أبو حسن يا صاحب التفانين.
ولكن هبيع الدار لمين؟
أيوة هي أم سامي مفيش غيرها.
انبسط يا أبو حسن.. زقطط يا أبو حسن.. دي ليلة واحدة مع أم سامي تساوي بلد بحالها مش حتة دار أوضة وزريبة، ولا هي سينا ولا حتى تيران علشان أحارب علشانها ولا أم سامي هي إسرائيل، دي هي المهلبية، إلهط يا أبو حسن.
بينما صورة أم سامي لا تفارق خياله، وكأنه الخديوي إسماعيل يحلم بلقاء الملكة أوجيني يوم أن دان
مصر لأجل لقائها بافتتاح قناة السويس، صعد أبو حسن فوق القبة، وراح يحفر فيها بأظافره الغليظة ليخرج منها حجة بيته الذي ورثه عن أبيه.
جرى نحو بيت أم سامي مبكرا وقبل أن تبدأ حفلاتها الراقصة، وتفتتح بار خمرتها، وقعدة الحشيش والأفيون.
انتي بتاعتي الليلة يا أم سامي، عقد الدار أهوه، وهو ما تبقى حيلتي. راح الرجل المتشوق يمنّي نفسه بعد استقبال حافل على غير العادة من أم سامي وسكران وشلة الأنس.
شرب أبو حسن كأس خمر لأول مرة في حياته ثمنا لدهليز بيته، وحصل على قطعة حشيش مقابل القاعة والفرن البلدي، ونال قطعة أفيون مقابل زريبة بهائمه وحماره الذين باعهم من قبل واحدة تلو الأخرى لأجل نظرة من عيون أم سامي، لكنه تمادى في أحلامه وطلب أم سامي لنفسه.
فاجأته خبيرة الإيقاع بالرجال وإحدى أشد حبائل الشيطان إغراء: ثمني لن تقدر عليه، ولو عاوزني عندك عصابة سكران.
- عاوزاني أسرق وأقتل وأخطف وأحش الزرع يا أم سامي.
- لو كنت عاوزني.
ولأن خمرتها مغشوشة وحشيشها مخلوط بالحناء وأفيونها من الحشائش لا الخشخاش، أفاق أبو حسن، من سكرته ومن عشق أم سامي معا في لحظة فارق فيها شيطانه، وتأكد أنه مهما أعطاها فلن يبلغ رضاها، ولكن بعدما فات الأوان عاد إلى داره منكسرا ناسيا أنه باعها لقاء رغباته وشهواته ونزواته وإجرامه في حق نفسه وزوجته.
وجد أم حسن متعلقة بباب منزلها تبكي، بعدما أغلقه سكران وعصابته، فجلس تحت قدمي أم حسن يقبلها ويبكي متمنيا الموت وراح ينوح كنائحة فقدت سيدها: "داري يا ستر عاري، من بعدك غير القبر يواري".