الكتاب: "الصّابئة في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة"
الكاتب: آمنة الجبلاوي
الناشر: الطبعة الأولى، الدار التونسية للكتاب، تونس 2020
عدد الصفحات: 474 صفحة
1 ـ بين يدي الكتاب
تعدّدت ديانات ما قبل الإسلام في الجزيرة العربية والمناطق المجاورة لها. منها ما اندثر كالحنيفية والمانوية ومنها ما استطاع التأقلم مع التّحولات الثقافية الكبرى التي شهدتها المنطقة. فيظل سبب رسوخها يشغل المباحث باستمرار ويدفعها إلى التساؤل عن موقعها من الحقل الديني بعد ظهور الإسلام وانتشاره. ضمن هذا الأفق تتنزّل أطروحة الدكتوراه التي أنجزتها الباحثة آمنة الجبلاوي بعنوان "الصّابئة في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة".
تمثّل دراستها هذه امتدادا لمباحثها حول الديانات التي كانت قائمة في فترة الإسلام المبكر وظهور الدعوة. فتبرز المكانة المميزة التي تحتلها الصابئة في خارطة أديان المنطقة وتثير الإشكالات العديدة التي ترتبط بها. فقد ظلت معرفتنا بها محدودة. فتصنف تارة بكونها وثنية، فيُنسب إليها عبادة الكواكب والملائكة أو عبادة الماء والنور. وطورا تعدّ ديانة توحيدية. ويرد في الكتابات حديث عن صابئة واسط والخابور وبلاد الرافدين وعن صابئة حرّان بين شمال سوريا وجنوب تركيا. فيطرح السؤال: وكيف عرفهم القرآن و أيّ منها تمثل صابئة التي وردت في آياته وكيف تعرضت لهم التفاسير القرآنية من بعد.
تحاول الباحثة تقديم أجوبتها الخاصة عن مختلف الإشكاليات، ضمن عمل يبدو حضاريا في طبقته السطحية، يبحث في صورة هذا الآخر المختلف عقائديا وكيفية تعايشه مع العربي المسلم. غير أنّ عمقه يجعله أعلق بعلم الأديان في المقارن.
2 ـ صابئة القرآن بين الأمس واليوم
ورد ذكر الصّابئة في ثلاث آيات مدنية هي الآية 62 من سورة البقرة ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ والآية 17 من سورة الحجّ ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شهيد﴾ والآية 69 من سورة المائدة ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
وتتحدث النصوص التاريخية الأسطورية عن رحلات كثيرة عاشتها الصابئة عبر تاريخها الطويل. ولئن لم تحدّد فتراتها بدقّة فإنها تتفق في عرض مسارها بالمقابل، من بينها هجرتهم من مصر إلى فلسطين ومنها إلى بلاد النهرين واستقرارهم بها حتى 4000 ق. م. فانتشارهم بالبلدان المجاورة.
واليوم هم يعيشون تغريبتهم المعاصرة، فيأخذهم الترحال إلى أصقاع أبعد في القارات المختلفة. فقد كان تعدادهم في بغداد وحدها حوالي 35 ألف نسمة في 2004. وبعد فقدان الدولة العراقية السيطرة على أراضيها وعدم قدرتها على حماية مواطنيها لم يبق منهم فيها سوى 5000 نسمة وفق إحصائيات سنة 2008. فقد اختار نحو 10000 منهم الهجرة إلى سوريا وتوزع البقية بين إيران والأردن والدنمارك والسويد وأستراليا خاصّة. وباتوا يتمتعون بقانون الحماية الخاصة التابع للأمم المتحدة الذي يُمنح لكل مجموعة بشرية يقل عددها عن 50000 نسمة حفاظا على التنوع العرقي والثقافي.
3 ـ مصادر مختلفة ورؤى متغايرة
للبحث في هذه المسألة الشائكة استندت الباحثة إلى مدونة ثرية. فمنحتها مقارباتها المختلفة زوايا متعدّدة للإجابة عن السؤال الواحد بحثا عن الصّورة الأدقّ. فانطلقت من المصادر الصّابئية الدينية وكتبهم المقدّسة التي تمتدّ بين القرن الثّاني قبل الميلاد والقرن الثاني بعده، ككتاب "الكنزا ربّا" أو "الكنز العظيم" في طبعته العربية المعروفة بترجمة سيدني وهي ترجمة كارلوس جيلبرت التي نشرت سنة 2000 أو في ترجمته الثانية التي أنجزها صبيح مدلول ويوسف مَتَّى قوزي وأشرف على صياغتها الأدبية الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد، وأقرّها مجلس شؤون الطّائفة العامّ في العراق ونشرت ببغداد في طبعة أولى سنة 2001 وكتاب دراشة اد يهيا أو مواعظ النّبي يحي بن زكريا وتعاليمه الذي ترجمه أمين فعيل حطّاب ونشر ببغداد في السنة نفسها، وفيه حديث مطوّل عن الرّجل الأول أو الإنسان القديم ـ آدم.
ومثلت المصادر العربية الإسلامية ثاني عناصر مدونتها. فقد تعرضت كتب التفسير وكتب الملل والنّحل وكتب التاريخ والطّبقات والتّراجم إلى هذه الديانة بالتعريف والشّرح. ولم يكن الأمر يخلو من عسر. فقد اشتكت الباحثة من التناقض الكثير بين محمول هذه المصادر. فتضاربت شروحها واختلفت تقييماتها. واشتغلت ثالثا على الدّراسات الاستشراقية العلمية التي جاءت أساسا باللّغة الإنجليزية. وكانت تتحرّى في مدونتها. فتنقد بعض المستشرقين لإلغاء المصادر الإسلامية وتستند خاصة إلى "باكلي" الذي اشتغل على نصوصهم و"ليدي دراور" التي عايشتهم وكتبت عن صلواتهم.
ولم تكتف بمتون الكتب. فعايشت صابئة الأهواز ميدانيا بدورها. وتحدّت انغلاق هذه المجموعة على نفسها وعسر الاندماج معها. فواكبت تعمدهم في نهر قارون والتقت رئيس أمتهم لملاحظة عقائدهم وطقوسهم. فممّا تذكر آمنة الجبلاوي أن الصابئة تتكتّم على كتبها المقدّسة وترفضون تمكين غير الصّابئين من الاطّلاع عليها وإن بدا ما تذكره متعارضا مع نشر "الكنزا ربّا " وإقرار مجلس شؤون الطّائفة العامّ في العراق لها.
4 ـ في أصل هذه الديانة
لقد كانت الباحثة مسكونة بسؤال "من تكون الصابئة؟"، وهل هي عرق أم ديانة أم طائفة وما صلتها بصابئة القرآن؟". وضمن بحثها اللغوي تجد أنّ كلمة الصابئة مشتّقة من "صبا" وتعني باللغة المندائية "اصطبغ" أو "غطس في الماء.. وصبأ في المعجم مال وخرج من دين إلى آخر أو غُمس في الماء وتعمّد. ومن دلالات صبأ الإشارة إلى حركة النجوم أفولا أو بروزا. أما على مستوى الاصطلاح فالصبة والصبيون هم الذين يصبون الماء على أجسادهم عند الاغتسال. ثم اتجهت إلى البحث في أصل اللغة المندائية لمعرفة الأصول العرقية للصابئة. فبعض الدّراسات تردها إلى أصل ساميّ ومنها ما يجعلها إحدى اللهجات العربية وحجته أنّ مختلف مفرداتها موجودة في المعجم العربي والاتجاه الثاني يعتقد أنها ذات أصول هندو أوروبية ـ فارسية تحديدا. وكما هو بيّن يذهب البحث اللغوي إلى الدلالات الكثيرة فلا يدفع الّذهن ليستقر على واحدة إلاّ وهو يجذبه إلى نقيضها.
الثابت أنّ الصابئة قد ضمت شعوبا مختلفة لما كانت ديانتهم تبشيرية تنتشر في الأصقاع. فلا تمثّل عرقا. والأصحّ أنها ديانة أغلقت باب التبشير وانغلقت على نفسها بعد اصطدامها بالمسلمين وأضحت معتقداتها غير معلومة للعموم.
لقد كان على الجبلاوي عندئذ، أن تحفر في المصادر المختلفة وأن تقارن بعضها ببعض لتنتهي إلى أنّ صابئة القرآن هم الصابئة المندائية، لا صابئة حران. ولم يكن الأمر سهلا. فالتفاسير الشيعية، كانت برأيها، في الحاجة إلى البحث والتشريح. وتفسير الطبري الذي يحاول أن يكون أمينا لوظيفة التأريخ وأن يجمع مختلف الروايات يعتبر أنهم قبيلة من نحو السواد وأنهم ليسوا بمجوس ولا يهود ولا نصارى. والسواد هو جنوب العراق وجزء من جنوب فارس. وأنهم من أهل الكتاب اعتبارا لاعتمادهم الكنزا ربا بجزئيه اليسار الذي يصف طريقة صعود الرّوح بعد الموت، واليمين، وهو أكبر حجما فيشرح عقائدهم ويصف نشأة الخلق. ويذهب إلى أنّ الإمبراطور قسطنطين حملهم على التنصر في فترة ما. وهذا ما لا يطمئنّ له الطاهر بن عاشور في التّحرير والتّنوير"ومع ذلك لهم كتب يزعمون أن الله أنزلها على شيت بن آدم ويسمونه أغاثاديمون والنصارى يسمونه يوحناسيه نسبة إلى يوحنا وهو يحي المعمدان". فيشير إلى أنّ أهل هذا الدين كانوا نبطا في مملكة العراق وأنّ الصابئية ديانة ابن أبي كبشة جد محمد لأمه.
5 ـ المعتقدات الصابئية
تختلف الأطروحات إذن لكن الثابت أنّ الصابئة قد ضمت شعوبا مختلفة لما كانت ديانتهم تبشيرية تنتشر في الأصقاع. فلا تمثّل عرقا. والأصحّ أنها ديانة أغلقت باب التبشير وانغلقت على نفسها بعد اصطدامها بالمسلمين وأضحت معتقداتها غير معلومة للعموم. وتحاول الباحثة ضبط أسسها الكبرى. فتردّ ظهور الصابئة إلى الفترة الحنيفية التي ظهرت قبل الإسلام. والمصطلح في علم الأديان المقارن يشير إلى الديانات التي تقوم على إله مركزي وآلهة تعاضده، تماما كما هو الأمر في المجتمع اليوناني أو المجتمع الروماني. وتجد أنها تقوم على ثالوث مقدس. فمرتكزها الأول على الكواكب. وهذه الكواكب تسكنها ملائكة، تتولّى معاضدة الإله. ولا بدّ لها من كاهن يتصل بها ويترجم وحيها إلى البشر. فيسمى ربياني أو ناصراني أو روحاني. ولا تعبد الكواكب في الصابئية القديمة ولا تُعظّم إلا من جهة توسطها في العبادات. وبذلك يكون الوحي من مشمولات الكاهن الصّابئيّ الذي يحتلّ منزلة بين البشر والكائنات الروحانية. ويشترط في الكهنة أن يكونوا من سلالة مندائية عريقة وألاّ يكون قد حلّ بنسبهم اختلاط أو أن يكون أحد أجدادهم قد جرّد من الكهونية.
وتجد لمعنى النور في هذا المعتقد تصوّرا كونيا. فتشرح تصورها لحركات الكواكب وتأثيرها في المخلوقات وتقارنها بعبادة النجوم عند العرب وبمعنى النور في مختلف الديانات الشرقية. وعلى خلاف اليهود والمسلمين تحرم الصّابئية الختان. وتفصّل طقوسَهم ذات الصلة بالماء. فالارتماس في الماء، الذي يستدعي في ذهنها المقارنة مع أهميّة الماء في عمليّة الوضوء أو الاغتسال عند المسلمين، يمثّل انبعاثا جديدا وحياة متجدّدة.
6 ـ "الصّابئة في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة"، وبعد..
تجد الباحثة تقاربا ما بين الإسلام والصابئية في منح الاغتسال بالماء معنى التطهر الروحي. ومع وجاهة هذا المذهب، نعتقد أن الأمر يعكس تبادلا مباشرا للتأثر والتأثير. فللماء صلة بمعنى التطهر في مختلف الديانات، في الهندوسية والمسيحية. والمعمدون في كلا الديانتين هم "المصطبغون" بنور الحق، رمزيا. وفي المعتقدات اليابانيّة البعيد عن الحقل الديني في الجزيرة العربية والشرق الأوسط مثلا، أنّ الماء قادر على تطهير آلام الرّوح وضمان العبور إلى حياة لاحقة بعد الموت مثل إيزانجي IZANAGI الذي يستعيد الحياة بعد عودته من مملكة الأموات،حتى أنّ السّياسيين الذين يتورطون في قضايا فساد وتزوير انتخابيّ يستغلون هذا الاعتقاد فيعلنون تطهّرهم عبر "حمام انتخابيّ" ليستأنفوا حياة سياسيّة جديدة. وما يثير استغرابه أن هذا الخلط بين الاتساخ المادي والمعنوي رغم بدائيته، وإيزانجي IZANAGI هو الرجل الأول الذي يمنح الحياة في الأسطورة اليابانية فيما تمثل إيزامانيIZAMANI المرأة الأولى.
وتنتهي الباحثة إلى جملة من نتائج فــ:
ـ الصابئة ديانة شرقية قديمة موحدة لها كتابها الخاص ظلت قائمة لقرون طويلة حتى عاصرت الإسلام المبكّر وتبادلت معه التأثير ولا زالت تسير معه جنبا إلى جنب إلى اليوم رغم ما بات يهدّدها من خطر الاندثار بسبب تفرّق معتقديها في الشتات.
ـ من وجوه تأثرها بالإسلام قصرها للكهانة على الرجال. فقد كانت هذه الوظيفة تسند سابقا إلى الجنسين على حدّ السواء، لكنّ واقع الحال الديني والاجتماعي سيّج الكهنوت فجعله حكرا على الجنس الذّكوري.
ـ منعَ الفقه الصّابئي القديم تعدّد الزوجات. ولم يبحه إلا للكهنة، لكنّ بعض المجموعات الصّابئية أصبحت تقرّ مبدأ الزواج بأربع زوجات بعد ظهور الإسلام.
ـ لم يعبد الصابئيون الكواكب والنجوم، بل توسّلوا بها بما هي وسائط في نسق كوني.
ـ الملائكة في هذا المعتقد، كائنات روحانية معظّمة، تلعب دور الوسيط مع البشر وهي كائنات تملك المعرفة وتتعالى على البشر.
ـ تنتفي وظيفة النّبي عندهم ويعوّضها الكاهن القديم.
على المستوى الاجتماعي، تلاحظ الباحثة أنّ رياح العصر جرت بما لم يخدم هذه الطّائفة. فقد تعايش معهم المسلمون. فدخلوهم بلاط الدولة في أوج الفترة العباسية فخدموها وكانوا من أصحاب المعارف، كالطب والترجمة منهم الكيميائي جابر بن حيان. أما اليوم فهم يواجهون التهجير والاضطهاد بسبب تهدّم أركان الدولة في العراق وسوريا. ولم تخدمهم "الديمقراطية" العراقية كثيرا. فلا وزن انتخابي لهم ليفرضوا على السّاسة إرادتهم.
أسفار جون ماندفيل ورحلاته.. الطريق إلى الأرض المقدسة
نبي الإسلام في مرآة الفكر الغربي.. شهادات علماء ومبدعين
هل هناك حاجة لإعادة كتابة التاريخ الفلسطيني؟ آراء مؤرخين