الأهداف الاستعمارية لاقتحام المسجد الأقصى
تتسم السياسة الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية بالسعي الدائم لتكريس الوقائع الاستعمارية، ثمّ تحويلها إلى مرجعية، أو إلى ثوابت، يجري الانطلاق منها في صياغة التصوّرات الإسرائيلية لكيفيات معالجة الصراع مع
الفلسطينيين، وفي هذا السياق تندرج الرعاية الإسرائيلية الرسمية لاقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، وهو ما أخذت السياسة الرسمية بالدفع نحوه أكثر منذ العام 2005، ثم بلورته والسعي لتكريسه، على الأقل منذ العام 2010.
لا يقتصر الأمر في دوافعه على الأهداف الدينية، التي هي ليست محلّ إجماع في الوسط السياسي والاجتماعي الإسرائيلي، وإن كان تصاعد نفوذ الصهيونية الدينية، وما يتصل بها من جماعات كهانية وجماعات بناء المعبد، يساهم في بلورة سياسات رسمية تستجيب لتصاعد النفوذ هذا، لأغراض تحالفية، وتراعي المكايدات التي ينطبع بها السجال الإسرائيلي الداخلي، بيد أنّ فرض الهيمنة على المجال العام الخاضع للسطوة الاستعمارية الإسرائيلية، هو الهدف الجوهري من الدفع نحو الاقتحامات وحمايتها وإنفاذها.
فرض الهيمنة على المجال العام الخاضع للسطوة الاستعمارية الإسرائيلية، هو الهدف الجوهري من الدفع نحو الاقتحامات وحمايتها وإنفاذها
بالنسبة للسياسة الإسرائيلية المؤسسة على قلق وجودي متضخم، لا ينبغي، والحالة هذه، السماح ببقاء ما هو خارج السيادة الإسرائيلية، الأمر الذي يعني الاستمرار الدائم في سياسات التمدّد بما تستدعيه من محو وشطب للوجود الفلسطيني، بأبعاده المتعدّدة، التاريخية والثقافية، والفيزيائية والبشرية. وإذا كان ذلك بالغ الأهمية في القدس، وخاصة في البلدة القديمة والمسجد الأقصى، فإنّه جوهريّاً لا يختلف عنه في الضفّة الغربية، حتّى بالنسبة لخطّة "تقليص الصراع" التي تهدف إلى تخفيف الاحتكاك بالفلسطينيين للحدّ من ملاحظتهم للاحتلال، فالوقائع الاستعمارية المكرّسة هي المرجعية، والثابت الذي تنطلق منه تصوّرات "احتكاك أقلّ بالفلسطينيين".
ليس في وارد الاحتلال تقليص مظاهره في القدس، فهي خارج هذه الحسبة، لكونها في وعيه، وفي الإجماع الصهيوني، "عاصمته الموحدة والأبدية"، وإن كان في وارد السعي الدائم لاستيعاب الفلسطينيين فيها، ضمن نموذج مركب من الأدوات الأمنية الخشنة بحسب ما يقتضيه المقام، والأدوات الاقتصادية والاجتماعية الناعمة بما يجعلهم أكثر ارتباطاً بالمؤسسة الصهيونية. وعليه، فإنّ إرادته تتجه بالضرورة، للاحتفاظ بالوقائع الاستعمارية في القدس والمسجد الأقصى، والانطلاق منها إلى وقائع أخرى.
يُلاحظ في هذا السياق، تطبيع الاحتلال طوال عقد كامل اقتحامَ المستوطنين للمسجد الأقصى، وإذا كانت الاقتحامات بالنسبة لجماعات المعبد خطوة على طريق بناء المعبد اليهودي، في -أو على أنقاض- المسجد، فإنّها بالنسبة لـ"إسرائيل" كلّها "خلق الوضع الصائب بإخضاع هذا المكان للسيادة الإسرائيلية حصراً". وإذا كانت أهداف جماعات تيار الصهيونية الدينية من الاقتحام أثناء المناسبات الإسلامية، الدفعَ نحو تقسيم زماني ثم مكاني للمسجد الأقصى، فإنّ فرض الاقتحامات أثناء هذه المناسبات، وهو ما أخذ يتبلور منذ العام 2019، هو تأكيد رسميّ بأنّ السيادة الإسرائيلية هي التي تحدّد القوانين والأجندات والخطوط الحمراء، لا أيّ أحد آخر!
إذا كانت أهداف جماعات تيار الصهيونية الدينية من الاقتحام أثناء المناسبات الإسلامية، الدفعَ نحو تقسيم زماني ثم مكاني للمسجد الأقصى، فإنّ فرض الاقتحامات أثناء هذه المناسبات، وهو ما أخذ يتبلور منذ العام 2019، هو تأكيد رسميّ بأنّ السيادة الإسرائيلية هي التي تحدّد القوانين والأجندات والخطوط الحمراء، لا أيّ أحد آخر
في الجوهر، هذه السياسة تجعل أيّ إدارة أردنية أو فلسطينية للمسجد الأقصى شكلية، ليس فقط لأنّ الاحتلال وحده الذي يتحكّم في وصول الفلسطينيين إلى المسجد، ولكنه بات يفرض دخول اليهود إلى المسجد، وإقامتهم صلواتهم الدينية فيه، وحينما يفرض ذلك في المناسبات الإسلامية، وأثناء وجود فلسطيني في المسجد، فإنّه فعليّاً آخذ ببلورة شكل من أشكال التقسيم المكاني.
ومع إنفاذه اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى، طوال عيد الفصح اليهودي، في فترته التي امتدت أخيراً من 15 نيسان/ أبريل وحتى 22 من الشهر نفسه، أي من 14 رمضان وحتى 21 منه، فإنّه يكون قد وصل مرحلة خطيرة من ذلك، لم يصلها بمثابرته فحسب، بل وبأوضاع فلسطينية وعربية سهّلت مهمته.
اقتحام أكثر بتصعيد أقل!
تنبغي ملاحظة أن تطبيع الاقتحام اليومي للمسجد الأقصى، لم ينجح إلا في السنوات التي تلت ما يسمى بـ"الانقسام الفلسطيني". أي أنّ سياسات الهندسة الاجتماعية، وشطب المواجهة، وتحييد الجماهير، وما تتطلبه من عمليات التجريف والتفكيك، التي تكثّفت على المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس، والتي وسمت سياسات السلطة الفلسطينية، ومحاولة حصر المقاومة في غزّة المحاصرة وإثقالها بالعديد من الحسابات، ساهمت في توفير فراغ من الهدوء سمح بتكريس اقتحام المسجد الأقصى وانتقاله إلى خطوة جديدة.
لا تقفز الرؤى في عقل الاحتلال فجأة، بل يشتغل بنفس طويل لتفكيك المعيقات أمام مخططاته الناجزة، وكان من أهم حقول اشتغاله تفكيك حالة الرباط المنظمة في المسجد الأقصى، فالرباطات غير المنظمة قصيرة النفس، ولا يمكن توقّع جهوزيتها في الوقت المطلوب
لا تقفز الرؤى في عقل الاحتلال فجأة، بل يشتغل بنفس طويل لتفكيك المعيقات أمام مخططاته الناجزة، وكان من أهم حقول اشتغاله تفكيك حالة الرباط المنظمة في المسجد الأقصى، فالرباطات غير المنظمة قصيرة النفس، ولا يمكن توقّع جهوزيتها في الوقت المطلوب.
غير بعيد عن ذلك حظر الحركة الإسلامية- الجناح الشمالي، صاحبة المشاريع الرائدة لحماية المسجد الأقصى، وحظر مصاطب العلم التي كانت تساهم في توفير مرابطين متفرّغين، وحظر المؤسسات المنظمة لحركة الرباط، واستنزاف المرابطين بالاعتقال الإداري، والإقامة الجبرية، والإبعاد عن المدينة، والتضييق الاقتصادي.
وفي الاستعداد لاحتمالات التصعيد أثناء الاقتحامات في رمضان الجاري، بدأ الاحتلال بالاشتغال على تفكيك الحالة الكفاحية الجارية منذ "معركة سيف القدس" أيار/ مايو الماضي، وبدأ في حملة دبلوماسية وأمنية مكثفة منذ مطلع هذا العام. وقد أوضحنا في مقالة سابقة، جانباً من كيفيات اشتغاله على تفكيك الحالة الكفاحية الجارية.
وفي سياق إنفاذ الاقتحام الذي تمّ بالفعل في رمضان الجاري، نفّذ الاحتلال نموذجاً مركّباً، أدّى إلى إضعاف حركة الرباط في الفترة الزمنية المعيّنة للاقتحامات، ومن ذلك زيادة القيود على وصول الفلسطينيين من الضفة الغربية للمسجد الأقصى، ومنع المقدسيين دون الأربعين من دخول المسجد في صلاة الفجر، وفرض اقتحام شرطي عنيف للمسجد تمهيداً لاقتحام المستوطنين، واستفاد من سياسات إدارة المسجد التي منعت الاعتكاف في غير العشر الأواخر، واستثمر في استعداده الأمني والإجرائي طوال المرحلة الماضية، كما استثمر في ضغوطه المستمرّة لتغيير سياسات الإدارة الإسلامية للمسجد، كما استثمر في ضعف الجهوزية التنظيمية الفصائلية في القدس والضفة الغربية، وفي إرادة رفض المواجهة لدى السلطة الفلسطينية.
يبدو من ذلك وكأنّ الاحتلال هو من وضع الخطوط الحمراء، وفي مسلك دعائي يهدف فيما يهدف إليه، أولاً إلى تكريس السيادة الإسرائيلية، وثانياً إلى تنفيس التحفّز الفلسطيني. لا ينفي ذلك الموقف الواضح للمقاومة في غزّة، ولكنه من جهة أخرى يظهر كيفيات تحايل الاحتلال على الوقائع، وعلى إنجازات الفلسطينيين
الأخطر في ذلك، سياسات الخديعة التي استخدمها، كتقديم ذبح القرابين اليهودية في المسجد عنواناً للتصعيد، ثم إعلانه منع ذبح هذه القرابين، بالرغم من أنّ التحفّز طوال المرحلة الماضية كان ضدّ الاقتحامات المتوقعة، بيد أنّ رفع عنوان القرابين صار سلماً لإنزال الفلسطينيين عن المواجهة، وصورة يظهر فيها الاحتلال مستجيباً للضغوط الدولية والإقليمية، وهو ما يمكن قوله حول إعلانه منع الاقتحامات في العشر الأواخر. فالفترة المتوقعة للاقتحامات والمتعلقة حصراً بعيد الفصح انتهت قبل العشر الأواخر، وكذلك تصدّيه لمسيرة الأعلام الاستيطانية، والتي كانت مسيرة طارئة غير مخطط لها، ردّاً على قذف حافلات المستوطنين بالحجارة. بمعنى أنها مختلفة عن مسيرة الأعلام العام الماضي التي جاءت في إطار ما يسميه الصهاينة "ذكرى توحيد شطري القدس".
يبدو من ذلك وكأنّ الاحتلال هو من وضع الخطوط الحمراء، وفي مسلك دعائي يهدف فيما يهدف إليه، أولاً إلى تكريس السيادة الإسرائيلية، وثانياً إلى تنفيس التحفّز الفلسطيني. لا ينفي ذلك الموقف الواضح للمقاومة في غزّة، ولكنه من جهة أخرى يظهر كيفيات تحايل الاحتلال على الوقائع، وعلى إنجازات الفلسطينيين، كما يظهر استعداده المبكر في مقابل استعداد فلسطيني أقلّ.
ما يمكن قوله إنّ الحالة الكفاحية ما تزال جارية، حتى لو لم تتحوّل أثناء رمضان إلى تصعيد دراماتيكي، وإنّ الفرصة تبقى قائمة للاستفادة من التجربة، والاستعداد، وسدّ الثغرات.
twitter.com/sariorabi