تذكير
لم يتوقف السينمائي الشهير جويل كوين ليسأل: أوه أين أنت
يا أخي؟ لكنه مضى في تقديم مأساة ماكبث (كأنه يمشي نائما) تحت تأثير قوة سحرية
دفعته للتضحية بالشراكة الراسخة مع شقيقه وشريكه الأصغر إيثان، وفي مقال سابق سألت
عن الدوافع الشخصية والفنية والسياسية التي جعلت جويل يغامر وحيداً بتقديم ماكبث؟
وما الجديد الذي يرغب في قوله؟ ولماذا اختار أن يكون ماكبث (الاسكتلندي) أسود
البشرة؟ ولماذا حصر فيلمه كله في ثنائية الأبيض والأسود؟
في هذا المقال نحرر "ماكبث" من شكسبير وزمنه
ونسعى للإجابة عن الأسئلة من خلال قراءة أفكار جويل كوين والعصر الأمريكي.
انقلاب صغير
قبل أسابيع قليلة من الانتخابات الرئاسية بين ماكين وأوباما
في عام 2008 فاجأ كولن باول الجمهوريين ومعظم العالم بالظهور على شاشة التليفزيون
وإعلان دعمه للمرشح الديمقراطي الأسود باراك أوباما، وقال إنه عظيم وملهم والأقدر
على إدارة البلاد، تذكر الجمهوريون طعنة ماكبث لمليكه، ووصف بعضهم صدمة التصريح بأنها
"انقلاب عرقي" على السياسة، فباول الذي صعد بقوة في زمن الجمهوري بوش
حتى صار أول وآخر أمريكي أسود يتولى أعلى منصب عسكري في وزارة الدفاع (رئاسة
الأركان) ويتولى وزارة الخارجية ويؤسس لمبدئه العنيف في الهيمنة الخارجية، ومع ذلك
يقرر في لحظة أن يدير ظهره للجمهوريين ويفخر بالشاب الديموقراطي الأسود!
تحريض السيدة ماكبث
لا يتذكر جويل كوين هذه القصة ولم يرد ذكرها في أي حديث
له، لكنه تحدث عن تأثير شخصي لزوجته الممثلة والمنتجة فرانسيس مكدورماند موضحاً
أنه اختار الموضوع لتلبية رغبة فران (اسم تدليل زوجته)، "لقد طلبت مني تقديم
ماكبث للمسرح منذ عدة سنوات، ولم أقبل ذلك لأنني بعيد عن المسرح، لكنها كانت تعيش
مع ليدي ماكبث وقد رأيتها تقوم بالدور على المسرح فاختمرت الفكرة في رأسي، وشعرت
بمتعة أن نتشارك هذا العمل معاً، ولما بدأت أفكر أخذت القصة تطورات فكرية
أخرى".
لم يكن جويل يتحدث بهذه الحميمية لولا أن محدثه صديق
لزوجته وقريب من الأجواء المسرحية والشكسبيرية، فقد كان اللقاء من خلال بث مباشر
على حساب المخرج المسرحي الإيطالي داميانو ميتشيليتو في أحد مواقع التواصل
الاجتماعي، وفي البث نفسه تحدثت فرانسيس عن مناقشاتها الدائمة مع جويل عن ماكبث،
وقالت إن المناقشات المعمقة دفعتهم لإضافة كلمة "مأساة" فنحن لا نقدم
ماكبث، بل مأساة ماكبث، وقد توقفنا عند مشكلة العمر حيث أن ماكبث وزوجته أصغر
بكثير مني أنا ودينزل واشنطن، لكن هذا أحد الاختلافات المهمة والمقصودة في الفيلم،
حيث يبدو أن انتهاء مرحلة الخصوبة والإنجاب تشكل ضغطا على الشخصيات وفكرة المجد
والخلود، لذلك فإن طموح الحصول على التاج تبدو فرصة أخيرة تعوض ماكبث وزوجته عن
تسرب الزمن وإحساسهما بالخوف من الزوال والنسيان.
هذه الاعترافات الجانبية تتقاطع مع التأثير الدرامي
لشخصية السيدة ماكبث كمحرضة على الفعل، حيث يبدو الأثر الفعال لتحريض الزوجة في
إقدام جويل على الفيلم وإقدام ماكبث على التخلص من الملك والسعي للسلطة، وتأثير
التحريض لا يأتي فقط من إعجاب فني بدراما المسرحية، لكن، له وجود عميق وممتد في
الحياة الزوجية لجويل وفرانسيس، فقد تزوجا عام 1984 ولم ينجبا أطفالا، وبعد 10
سنوات من الزواج قررا تبني طفل من أورغواي حمل اسمهما معاً "بيدرو مكدروماند
جويل"، مما يفسر ويضيء تصريحات السيدة فرانسيس عن ضغط الزمن، خاصة أنها عانت
من انهيار تاريخها العائلي وعاشت طفلة متبناة حملت اسماً غير اسمها الذي ولدت به (سينثيا
آن سميث)، ولا شك أن هذا الانقطاع في التاريخ البيولوجي والاسم الأول يحتاج إلى تعويض
عن طريق صناعة تاريخ قسري بقوة ذاتية، لكن هل يمكن فعل ذلك بدون أعباء نفسية وندم
وأسئلة داخلية عن الذات ومشاكل في النوم؟
الإجابة على مثل هذه الأسئلة لا يعرفها إلا من جرب هذا
النوع من المعاناة كفرانسيس التي تربت في حضن أسرة مسيحية تقليدية لممرضة ورجل دين
من تلاميذ المسيح وذلك منذ كان عمرها 18 شهراً، بينما علاقتها بأسرتها الأصلية انحصرت
في أخبار سيئة تكشف عن واقع مخجل.
أعتقد أن هذا هو السبب الذي جعل فرانسيس هي القائدة والمحرضة
لجويل على تقديم ماكبث، بينما تأخرت الفكرة لديه لأسباب تتعلق بعدم إحساسه بالعبء
الذي كانت تحمله فرانسيس داخلها، لأن جويل تربى في عائلة يهودية متماسكة اجتماعيا
ومستقرة علميا وثقافيا، فوالده خبير اقتصاد ووالدته ناقدة فنون، لهذا اتخذ الفيلم
مسارات إضافية تناسب أفكاره السياسية والجمالية وتضيف لنص شكسبير قيمة عصرية تصل
التاريخ بالحاضر والمستقبل.
ترامب.. أمريكان ماكبث
مثال كولن باول الأسود بوصفه ماكبث الخائن المتسلط لم
يكن في ذهن جويل كوين، لكن مثال ترامب الأبيض كان حاضرا بقوة في ذهن كوين وفي ذهن
عدد من النقاد الذين تناولوا الفيلم داخل أمريكا وخارجها، لكن الحديث عن ترامب
باعتباره "أمريكان ماكبث" أقدم من ذلك بكثير، حتى أنه يسبق تفكير كوين
في الفيلم ويسبق تولي ترامب لرئاسة أمريكا، وأعتقد أن تتبع مسار هذا الوصف سيعود
علينا بالفائدة المعلوماتية وبالمتعة أيضا.
في نهاية الثمانينيات ظهر ترامب كضيف في برنامج أوبرا
وينفري، حينها كان رجل أعمال موزعا بين سوق العقارات وأجواء الملاهي الليلية
والفضائح الجنسية والهوس بالإعلام عن نفسه ومشاريعه، ولم تكن السياسة ضمن
اهتماماته، وفي البرنامج سألته أوبرا: ألم تفكر في أن تكون رئيسًا للولايات
المتحدة؟
وكانت الإجابة بالنفي، فالفكرة كانت بعيدة عن ذهنه
وتتعارض مع سلوكياته وسمعته العامة، لكن هناك من التقط هذا السؤال واعتبره البذرة
التي غرست الفكرة في رأسه، مثل نبوءة الساحرات لماكبث، وتشاء الأقدار أن يدخل
ترامب في مشاكل مالية صعبة طوال عقد التسعينات كادت شركته فيها تتعرض للإفلاس بسبب
الديون الكبيرة، وشغلته الأزمة عن الاهتمام بالنبوءة، ومع تحقيقه للاتزان المالي
وبداية الصعود الاقتصادي وجدت نبوءة أوبرا فرصتها للخروج من مخزن الإدراك إلى بؤرة
الشعور فالتحق ترامب بأحد الأحزاب الصغيرة وفي عام
2000 قرر خوض الانتخابات الرئاسية عن "حزب الإصلاح" لكن المؤشرات كانت
محبطة فانسحب، ورأى أن الطريق للرئاسة يبدأ من الحزبين الكبيرين فجدد عضويته في الحزب
الجمهوري، وسعى لتمكين وضعه داخل الحزب، وفي عام 2012 طرح نفسه كمرشح لكنه لم يجد
قبولا، فتراجع عن الفكرة التي صارت ممكنة في 2016 فخاض السباق وفاز بالسلطة، ويبدو
أن خسارته للتصويت الشعبي أيقظت عقدة نفسية كشفت بعد ذلك عن سلوكه المريض كطاغية
متماه مع السلطة.
في
لقطة درامية موحية حصل كولن باول على عدد من الأصوات في الانتخابات الرئاسية التي
فاز بها ترامب، برغم أن باول لم يكن مرشحا من الأساس، وهكذا التقى ماكبث الأسود
بماكبث الأبيض في لقطة طريفة، لكن الأحداث أزاحت باول من الخشبة ودفعت ترامب إلى
التفرد بلقب "الأمريكان ماكبث"، وظهر ذلك بوضوح في مقال بعنوان "ماكبث
شكسبير ودونالد ترامب والحزب الجمهوري"، كتبه بيتر هيرمان أستاذ الأدب
الإنجليزي بجامعة سان دييجو وهو متخصص أيضا في أدب الإرهاب، ونشر المقال في مطلع آب/
أغسطس 2016 قبل الانتخابات وخلاصته تدور حول سؤال: ما هو مستوى الشر المقبول
للتخلص من شر أكبر؟ من خلال اللقاء الذي يجمع بن مالكولم ابن الملك المغتال في
ماكبث وبين ماجدف قاتل ماكبث فيما بعد، حيث يعتذر مالكولم عن محاربة ماكبث والسعي
للسلطة لأنه أسوأ من أي شخص "لدي من الرذائل ما يجعل خطايا ماكبث السوداء
بيضاء مثل الثلج".. فيرد عليه ماجدف: "لا تخف، فإن اسكتلندا لديها ما
يكفي لتلبية نزواتك وتقبل رذائلك".
ويوضح
هيرمان في مقاله أن ماجدف في هذا الموقف يعبر عن حالة الحزب الجمهوري الذي يدرك
مساوئ ترامب، لكنه أفضل في كل الأحوال من هيلاري كلينتون، ويضيف أن هذا الإفلاس
الأخلاقي للجمهوريين سيؤدي إلى فوضى وكوارث خطيرة.
مقال
هيرمان استشهد بالنص الشكسبيري، لكنه لم يخص ترامب بلقب ماكبث، لكن كيلي فوجان بعد
أشهر من نجاح ترامب أعدت مشروعا لإثبات أن ترامب هو "ماكبث العصر" وقدمت
نصوص المسرحية في مقابل تصريحات ومعلومات من حياة ومسيرة ترامب، لدرجة أن ميلانيا
كانت أحد المحركات التي دفعت ترامب للسعي إلى السلطة والتمسك بها، وقالت إن علامات
الطاغية ظهرت على ترامب فور أداء اليمين الدستورية، وأنه سيقاتل من أجل الاحتفاظ
بها.
وتوالت
التشبيهات عبر عشرات المقالات منها "ترامب / ماكبث.. تشابه الأسلوب"،
و"انتقام الطاغية ماكبث من أعوانه" في إشارة لمعاملة ترامب لمساعديه،
ومنها "تخريب ماكبث" الذي يقول فيه الكاتب: "ماكبث يقتل ويدمر كل
القيم ليكسب السلطة، وترامب يفعل نفس الشيء"، وتساءل
كاتب آخر: "لماذا يفعل الناس الشر وهم يعلمون أنه شر؟ الإجابة في جموح
الطموح؟".
وفي نيسان/
أبريل 2019 نشرت "نيويورك تايمز" مقالا عن "أمريكان ماكبث" جاء
فيه: متابعة سياسات ترامب الغريبة تكشف عن خصائص ماكبثية.. لقد ألقى ببلدنا في
حالة من الفوضى، إنه يقف ضد القضاء والكونغرس والمهاجرين وقضايا المناخ والتعليم
والبيئة، كل شيء في أمريكا صار معرضاً للدمار بسبب "أمريكان ماكبث"
وساحراته، لا أتذكر اسم الكاتب الآن، لكن الأقرب لكتابة مثل هذا المقال هي "مورين دود" الحائزة على
جائزة بوليتزر.
حتى لا نمشي أثناء النوم
المؤكد
أن جويل كوين كان يتابع صعود متلازمة ماكبث في البيت الأبيض من خلال ما ينشر وما
يتحاور فيه الناس، ولا شك أن هذا الحضور لماكبث في الإعلام وتشبيهات الناس قد ساعد
في صعود فكرة تقديمه لماكبث، وهي فكرة تزداد جاذبيتها في نفسه أكثر من شقيقه
إيثان، لأنها تتضمن تحقيق أمنية شخصية قديمة لشريكته في البيت والفكر والنجاح
السينمائي.
ففي
أجواء تحضيره للعمل في صيف 2021 نشر دونالد كولينز كتابه: "ترامب صار ماكبث:
هل ستستمر ديمقراطيتنا؟" وبعده بأشهر نشر جوناثان كارل (كبير مراسلي "ايه
بي سي" في البيت الأبيض وعدو ترامب اللدود) كتاب "الخيانة: الفصل الأخير
في استعراض ترامب"، وذلك بعد نشره حلقات في صحيفة "نيويورك تايمز" عن قصة الصعود
السياسي لظاهرة ترامب..
الربط
بين ماكبث وترامب لم يكن فكرة في ذهن جويل كوين وحده، فطر الانقسام عكس نفسه في
الكثير من الأفلام والكتابات، فقصة سبيلبرغ لقصة "الحي الغربي" تكشف عن
مشكلة الانقسام الذي كرسه حكم ترامب في المجتمع الأمريكي وتأثيرات خطاب العداء
للمهاجرين، كما أن جين كامبيون التي فازت بأوسكار أفضل مخرجة هذا العام تحدثت عن
تأثير ترامب على تقديمها لسلوك الطاغية في فيلمها "قوة الكلب"، وربما
لهذا التقط العديد من الكتاب والنقاد حول العالم أوجه الشبه بين ماكبث وترامب، ففي
أمريكا كتبت "كونستانتينا بوهاليس" مقالا وافيا تحت عنوان "حكايات
الأشرار والفخورون.. مأساة ماكبث والنبوءة السياسية"، والمقال مليء بالإسقاطات
عن الفوضى والموت والخراب الأخلاقي الذي يجلبه الطاغية للبلد، وبرغم أنها لم تتحدث
صراحة عن منظمات يمينية داعمة لترامب مثل "أولاد فخورون" إلا أنها ألمحت
إلى ذلك في العنوان، وأشارت إلى أن ترامب قد لا يكون ارتكب القتل بشكل مادي لكن
سلوكه في التعامل مع وباء كوفيد 19 يمثل استهانة بحياة الناس تشبه تعامل ماكبث مع
خصومه بالقتل عن طريق وسطاء وقتلة مأجورين.
وفي
ألمانيا نشر الكاتب جورج ديتس (وهو كاتب سياسي واقتصادي غير مختص بالسينما) مقالا
رصينا تحت عنوان: "دونالد ترامب وماكبث: نحن نمشي أثناء النوم" تناول
فيه براعة جويل كوين في تشريح الشخصية الترامبية وإصابتها بمرض السلطة الذي يفصل الإنسان
عن الواقع ويحبسه في واقع ذهني يسيطر عليه، وذكر ديتس في مقاله أن ترامب لم ينكشف كطاغية
في 6 كانون الثاني/ يناير 2021، يوم الهجوم الأكثر وضوحًا على الديمقراطية
الأمريكية منذ الحرب الأهلية الأمريكية، لكنه كان مكشوفا قبل ذلك ولكن في مواقف
متفرقة وأقل في الحدة، وحذر ديتس من عودة أسلوب الطغيان تحت عباءة النموذج
الديموقراطي الغربي، منبها إلى أنه يحتاج إلى معالجة سريعة لثغراته ومشاكله.
أسود وأبيض
طال
المقال ولم نصل بعد إلى إجابة عن سؤال: لماذا ماكبث أسود؟
الإجابة طويلة وترتبط بقضايا فنية وسياسية معقدة في
أمريكا أكثر من غيرها، لكن باختصار يمكن الإشارة إلى ما يسمى "أنسنة
شكسبير" بحيث لا تقتصر نصوصه على الإنسان الأبيض، لأن شخوص شكسبير كلها
أوروبية ما عدا شخصية ملونة واحدة هي "عطيل"، ومن جهة أخرى هناك اتجاه
لتجاوز التصنيفات العرقية والدينية في اختيار الممثلين لأي دراما، وهو الملمح الذي
تبناه الفيلم الياباني "قودي سيارتي" أثناء تنفيذ مسرحية تشيكوف داخل
الفيلم، حيث تتم مشاركة ممثلين بكل اللغات والأجناس والأعمار وذوي الاحتياجات
الخاصة دون اعتراف بمعوقات لونية أو ثقافية أو لغوية، وهناك إشارات تتعلق بتكثيف
حضور السود والأقليات الأخرى والمختلفين بشكل عام، وتشجيعهم بفرص العمل والجوائز
كما أعلنت أكاديمية أوسكار تضامنا مع اتجاه كسر هيمنة العرق الأبيض وإفساح المجال لتعايش
إنساني لا يعترف بالفوارق.
وتتبقى الإشارة إلى جذور فكرة تقديم شكسبير باللون الأسود،
وأشهرها تجربة أورسون ويلز في المسرح الفيدرالي عام 1936 والتي قدم فيها "ماكبث"
في مسرح الزنوج بحي هارلم، لكن الشخصيات كلها حينذاك كانت سوداء، بينما اختيارات
جويل كوين لماكبث وماجدف بالتحديد ستظل مختلفة وملهمة لمناقشات ثرية قد نعود إليها
بالتفصيل في وقت لاحق.
اقرأ أيضا: ماكبث كوين.. طاغية عصري بقناع تاريخي (1من 2)