إن المتابع لتطور الأحداث في تونس يلاحظ بوضوح حالة الاضطراب والارتباك التي عليها النخب السياسية أمام ما تعيشه البلاد من اختبار حاد بين التمسك بالديمقراطية في أصولها وأسسها الدستورية وبين دعم الانحراف بالسلطة وتعطيل العمل بالدستور وحل المؤسسات المنتخبة.
والملاحظ أن الساحة قد شهدت تطورا ملحوظا طيلة الأشهر الثمانية الماضية لدى المتمسكين بالديمقراطية سياسيا وميدانيا، وأخذت دائرتهم تتسع شيئا فشيئا، وهي متجهة نحو الوحدة حول برنامج حد أدنى ديمقراطي بناء على المبادرة التي أعلنها الأستاذ أحمد نجيب الشابي في جريدة المغرب يوم 9 نيسان (أبريل) الجاري، ثم أعاد طرحها أمام الآلاف من المواطنين أمام المسرح البلدي في شارع الثورة شارع الحبيب بورقيبة أثناء إحياء ذكرى شهداء 1938، وهي مظاهرة دعت إليها هيئة مواطنون ضد الانقلاب.
وقد دعا الأستاذ الشابي في مبادرته إلى وحدة الحركة الديمقراطية في جبهة للخلاص الوطني بمشاركة الجميع دون استثناء وإلى حوار وطني جامع ودعا المنظمات الوطنية وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل وقيادته المترددة والمرتبكة لتحمل مسؤوليتها التاريخية في المساهمة في تجميع الصف الوطني على غرار ما حصل سنة 2013 لإنقاذ الأوضاع من حالة التردي. وتعتبر المبادرة خطوة نوعية مهمة في اتجاه بناء بديل سياسي ديمقراطي يمكن أن يمثل للبلاد ضوءا في آخر النفق.
إلا أن هذا التطور يأتي في ظل سلوك للسلطة القائمة لا يؤشر على وجود تحول في الموقف، حيث يستمر مسلسل حل المؤسسات الذي كان آخر فصوله حل مجلس نواب الشعب والمضي قدما في سياسة الهروب إلى الأمام بتوجيه تهمة التآمر على أمن الدولة الداخلي للنواب الذين حضروا جلسة 30 آذار (مارس) الماضي، والتي تصل العقوبة فيها إلى الإعدام دون وجود لأي ركن من أركان هذه الجريمة التي ظلت لعقود سيفا مسلطا على رقاب معارضي الاستبداد بعد أن ظن التونسيون بعد الثورة أنهم قد تخلصوا منها بدون رجعة.
هذا إضافة إلى الإعلان عن إصلاح المنظومة السياسية بناء على نتائج الاستشارة الإلكترونية التي لم تتجاوز المشاركة فيها الـ 600 ألف.
ومن بين الإصلاحات المنتظرة تنقيح الدستور ضمن الخيارات التي سيتم عرضها على الاستفتاء والتي من بينها تغيير النظام السياسي من البرلماني إلى الرئاسي الذي اكتوت البلاد بناره لعقود. ثم تعديل القانون الانتخابي ليصبح نظام الاقتراع فيه قائما على التصويت على الأفراد بدل القائمات الذي لا يقع العمل به في أغلب الدول الديمقراطية في العالم وإن تم استعماله فيكون في إطار النظام المختلط أي في جزء من الدوائر إلى جانب ما يفتحه من استعمال واسع للمال للتحكم في العملية السياسية وما يثيره من نعرات مناطقية وقبلية وما يكرسه من ضعف لمؤسسات الدولة وتشتت داخلها.. ثم أين احترام المعايير الدولية فيما سيتم تنظيمه من عمليات انتخابية؟ وهل أن الوضع الحالي لهيئة الانتخابات يسمح بذلك؟ وكيف سيتم استكمال تركيبتها؟ وهل هناك مناخ انتخابي مناسب والحال أن نسبة المشاركة حسب ما يتم نشره في استطلاعات الرأي لا تتجاوز 30%؟
إن الحوار الوطني حتمية لا مناص منها تؤكدها طبيعة التونسيين العقلانية والسلمية وحقائق الجغرافيا السياسية والتاريخ وحكمتهم التي ستجعلهم يتداركون أمرهم قبل الوقوع في الهاوية، ولن يكون ذلك إلا على قاعدة الديمقراطية وبمشاركة جميع الأطراف السياسية والاجتماعية دون استثناء.
في مثل هذه الظروف يتم الحديث عن حوار وطني انتقائي يراد فيه الفرز بين المشاركين واختيارهم على المقاس بناء على موقفهم من 25 جويلية بقبول من اعتبره تصحيحا للمسار وقطعا مع 24 جويلية ورفض من اعتبره انقلابا على الدستور وضربا للديمقراطية. رغم أن الخلاف ليس حول العودة لما قبل 25 جويلية حيث بلغت الأزمة ذروتها إنما هو حول ما حصل هل يمثل حلا يمكن البناء عليه أم هو مزيد من تعقيد الحالة السياسية ومحاولة للرجوع بها إلى ما قبل 14 جانفي 2011 وتعطيل للمفاوضات مع صندوق النقد الدولي الذي يعتبر الاستقرار والديمقراطية والحياة الدستورية مدخلا أساسيا لأي اتفاق ويلتقي في ذلك مع كل الشركاء الدوليين لبلادنا.
لقد تحول دعم مسار 25 تموز (يوليو) إلى فضاء لتجميع بقايا نخب الاستبداد التي طالما تمسحت بمسوح الديمقراطية ونصبت نفسها وكيلا حصريا لها. في حين أن الديمقراطية واحترام إرادة الشعب منها براء فلا منطلقاتها الأيديولوجية وتنظيراتها لديكتاتورية البرولتاريا والعنف الثوري وللوحدة العربية القسرية ولا تجاربها الدموية في الحكم تجعلها في موقع من يمنح صكوك الوطنية والمشاركة السياسية أو يحجبها بدعوى المسؤولية عن إخفاقات عشرية الثورة. والحال أن الأحداث والوقائع تثبت اشتراك الجميع في المسؤولية من موقع الحكم أو المعارضة خاصة الفوضوية منها والوظيفية التي ساهمت في إفشال التجربة وقامت بدور المحلل لدى بقايا المنظومة القديمة.
إن الحوار الوطني حتمية لا مناص منها تؤكدها طبيعة التونسيين العقلانية والسلمية وحقائق الجغرافيا السياسية والتاريخ وحكمتهم التي ستجعلهم يتداركون أمرهم قبل الوقوع في الهاوية، ولن يكون ذلك إلا على قاعدة الديمقراطية وبمشاركة جميع الأطراف السياسية والاجتماعية دون استثناء إلا من استثنى نفسه، لبناء توافقات حول تعديل الدستور وخاصة النظام السياسي وتعديل القانون الانتخابي وخاصة نظام الاقتراع، والعودة الظرفية للبرلمان للمصادقة على التوافقات والذهاب للاستفتاء ثم لانتخابات تشريعية ورئاسية سابقة لأوانها لتجديد الشرعية ضمن أجندة وطنية توافقية تمكن من دخول الانتقال الديمقراطي ومسار ثورة الحرية والكرامة طورا جديدا يؤسس لعقد اجتماعي جديد قائم على الديمقراطية والهوية والعدالة الاجتماعية وعلى التنوع في إطار وحدة الدولة والمجتمع والقبول بالآخر والتعايش السلمي بعيدا عن الحقد الأيديولوجي والدعوات الإقصائية والممارسات الاستئصالية التي لن تزيد البلاد إلا انقساما.. عسى الله أن يمن على بعض نخبنا بالشفاء العاجل من كل داء..
*كاتب وناشط سياسي
ما مدى جدية الغرب في معارضة الانقلاب في تونس؟
من أين يستمد الرئيس التونسي قوّته؟
بورقيبة إنسان ليس ملاكا ولا شيطانا.. 6 أبريل ذكرى وفاة الزعيم