مهما كان موقفنا من الرئيس التونسي قيس سعيد، ومهما كان تقييمنا لطبيعة المسافة التي تفصل بينه وبين المنظومة القديمة ومحور الثورات المضادة، فإنه قد كان ـ منذ أن سوّق له الإعلام باعتباره "خبيرا دستوريا" منحازا إلى الحقيقة وزاهدا في السلطة ـ، ومازال إلى يومنا هذا، حيث يهيمن على كل السلطات بما في ذلك السلطة التأسيسية، شخصية ذات كفاءة عالية في الاستفادة من مختلف السياقات وتجييرها لتقوية رأسماله الرمزي وخدمة مشروعه السياسي، وهي "كفاءة" قد يكون من الصعب التسليم بطابعها الشخصي، أي التسليم بأنها لا تعكس مشروعا محليا أو إقليميا قد يُمثّل الرئيس واجهته أو رافعته، لكن إلى حين.
لا يعرف الكثير من التونسيين أن السيد قيس سعيد كان يحمل مشروعا سياسيا منذ 2011، وهو مشروع أعاد طرحه سنة 2013 تحت عنوان "من أجل تأسيس جديد". ولعلّ مكمن قوته في تلك المرحلة هو نجاحه في إدارة العلاقة بين صفة "الخبير الدستوري" وصفة "السياسي" بمنطق المسارات المتوازية. ولذلك لم يكن هناك بين عامة الشعب من يطرح لاحيادية "الخبير الدستوري" أو ارتباط مواقفه النقدية بمصلحة مشروعه السياسي، كما لم يكن هناك داخل أنصاره ـ أي في قاعدته الانتخابية الكامنة ـ من يشكك في "المشروع السياسي"؛ انطلاقا من احتفاء الإعلام "النوفمبري" بصاحب هذا المشروع، أو بناء على قبول هذا الأخير بأن يؤدي دور الحكم في صراعات النخب السياسية، رغم أن "التأسيس الجديد" يفترض اتخاذ مسافة نقدية صريحة من المنظومة كلها، وذلك لقيامه على إلغاء الحاجة إلى نخبها وإلى أجسامهم الوسيطة، بل إلغاء الحاجة إلى دستورهم وقوانينهم وانتقالهم الديمقراطي الذي زيّف الإرادة الشعبية.
ولو شئنا اختزال نقاط قوة الرئيس قبل وصوله إلى قصر قرطاج، لقلنا إنها ترتبط بنجاحه في التوفيق بين مسارين متوازيين، بصورة لا تظهر عمق التناقض بينهما أو ازدواجية الخطاب التي تؤسسهما.
أما المسار الأول، فهو مسار "الخبير الدستوري" ومن بعد ذلك "المرشح الرئاسي" الذي يعترف بالمشترك المواطني وبمرجعية الدستور، ويهدف إلى "الإصلاح"، مستفيدا من كفاءته المعرفية ومن عدم انتظامه الحزبي ووقوفه على مسافة واحدة من مختلف الفاعلين الجماعيين. وهو يتحرك في هذا المسار "الرسمي" أو الموجه للاستهلاك العمومي بمنطق الشريك لا بمنطق البديل، ولذلك تشكلت قاعدته الانتخابية في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية من أغلب العائلات الإيديولوجية والأحزاب السياسية، التي لم تر فيه أي خطر وجودي على مسار الانتقال الديمقراطي ومنجزه الهش.
وأما المسار الثاني، فهو مسار "التأسيس الجديد" الذي يدفع بصفتي الخبير الدستوري والمرشح الرئاسي"الإصلاحي" إلى الخلفية ليحتفيَ بـ"الثوري" أو "الزعيم الملهم" أو "الزمن السياسي الكوني الجديد". وفي هذا المسار، يختفي خطاب "الشريك" ويهيمن خطاب البديل الجذري، لكن باستراتيجيات مخاتلة، وبنبرات صدام أو قطيعة مختلفة حسب السياق.
لا يعرف الكثير من التونسيين أن السيد قيس سعيد كان يحمل مشروعا سياسيا منذ 2011، وهو مشروع أعاد طرحه سنة 2013 تحت عنوان "من أجل تأسيس جديد". ولعلّ مكمن قوته في تلك المرحلة هو نجاحه في إدارة العلاقة بين صفة "الخبير الدستوري" وصفة "السياسي" بمنطق المسارات المتوازية.
بعد وصوله إلى قصر قرطاج، نجح الرئيس قيس سعيد في توظيف تناقضات الحقل السياسي للدفع بأزمة الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدّل إلى الأقصى. وقد استغل الرئيس قبل 25 تموز/يوليو عاملين أساسيين ليُقويَ موقعه التفاوضي مع خصمه الأساسي، أي مجلس النواب.
أما العامل الأول، فهو تقاطع الرئيس موضوعيا مع ممثلي الاستئصال الصلب (تحويل النهضة والإسلاميين عموما إلى موضوع أمني وإحياء منطق النظام القديم وأدواته القمعية)، والاستئصال الناعم (تحجيم دور النهضة والإسلاميين عموما وتهرئة وزنهم الانتخابي، والدفع بهم إلى هامش الحقل السياسي القانوني). وقد استطاع صاحب مشروع "التأسيس الجديد" أن يدفع بالصراعات البرلمانية "الهوياتية" إلى درجة العجز عن تمرير حكومة الحبيب الجملي، وهو ما يعني انتقال الحق في اختيار رئيس الوزراء من الحزب الفائز في الانتخابات البرلمانية (أي حركة النهضة) إلى رئيس الجمهورية.
وأما عامل القوة الثاني لدى الرئيس، فكان غياب المحكمة الدستورية وضعف الشرعية التي تتمتع بها الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين. وقد استثمر الرئيس الصراعات البرلمانية و"الفراغ" الذي خلفه فشل المنظومة الحاكمة في إرساء المحكمة الدستورية، ليُنصب نفسه مرجعا أعلى في تأويل الدستور. إنها "مرجعية عليا" أو سلطة تحكيمية لا تجد شرعيتها في الخلفية الحقوقية للرئيس فقط، بل تجدها في تسليم أغلب القوى السياسية والمدنية والنقابية للرئيس بهذا الدور، نكاية في حركة النهضة وشركائها في البرلمان. فبعد أن أكدت مواقف الرئيس المحلية والإقليمية أنه حليف موثوق لأصحاب السرديات الاستئصالية ولمحور الثورات المضادة، اكتسب دعما كبيرا من أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية" التي رأت في رئاسته فرصة لحسم صراعها الوجودي ضد حركة النهضة وحلفائها البرلمانيين.
منذ 25 تموز/يوليو الفارط، لم تفهم أغلب القوى الفاعلة في تونس أن الرئيس قد عاد إلى مربّع "البديل" الذي كان شعاره "ليرحلوا جميعا بحكومتهم ومعارضتهم". لقد ظنّ "أنصار الإجراءات" أن حالة الاستثناء ستكون فرصة لإعادة هندسة المشهد السياسي بصورة تشاركية مع الرئيس بعد إقصاء النهضة وحلفائها، ولم يكن هؤلاء "الأنصار" واعين بأن حالة الاستثناء ليست في الحقيقة إلا "مرحلة انتقالية" سيفرض فيها الرئيس خارطة الطريق الخاصة بمشروعه السياسي، بعيدا عن أي حوار وطني عام حتى تحت سقف 25 تموز/يوليو.
الرئيس لم يستمد الأغلب الأعم من أسباب قوته إلا من بؤس أولئك الخصوم وعجزهم عن تحصين الانتقال الديمقراطي من عوامل الارتكاس والردة في مرحلة، ثم عجزهم حاليا عن التوحد وتقديم بديل مقبول من أغلب فئات الشعب.
إن "تصحيح المسار" هو "تأسيس جديد" وليس مجرد إصلاح من داخل المنظومة. ولذلك، رفض الرئيس كل الدعوات إلى الحوار، واجترح مسارا موازيا للتأسيس، وهو مسار ابتدأ بالاستشارة الوطنية الإلكترونية، وسيُثنّي باستفتاء وطني في 25 تموز/يوليو القادم، لتنتهيَ حالة الاستثناء أو لنقل "المرحلة الانتقالية" بين الجمهورية الثانية والجمهورية الثالثة ـ حسب خارطة الطريق الرئاسية ـ بالانتخابات البرلمانية السابقة لأوانها في 17 كانون الأول/ديسمبر من هذا العام.
إن الحديث عن قوة الرئيس هو في وجه من وجوهه حديث عن ضعف خصومه؛ فالرئيس لم يستمد الأغلب الأعم من أسباب قوته إلا من بؤس أولئك الخصوم وعجزهم عن تحصين الانتقال الديمقراطي من عوامل الارتكاس والردة في مرحلة، ثم عجزهم حاليا عن التوحد وتقديم بديل مقبول من أغلب فئات الشعب.
فقبل 25 تموز/يوليو عجزت النخب السياسية عن تجاوز منطق المحاصصة والصفقات وعن تجاوز آفات "التوافق" بشروط المنظومة القديمة، كما عجزت عن تجاوز الصراعات الهوياتية وعن إصلاح المؤسسات الدستورية وتحييد أجهزة الدولة عن الصراعات السياسية. ولذلك كله، لم يكن من الصعب على الرئيس قيس سعيد أن يُظهر هشاشة الثقافة/المؤسسات الديمقراطية وأن يدفع بالأزمة السياسية إلى الحد الذي تتفتح فيه على ممكنين تاريخيين متناقضين: إما العودة إلى المربع الاستبدادي وغلق قوس الديمقراطية الصورية وسردية الاستثناء التونسي، في حال نجاحه في فرض خارطة الطريق الخاصة بمشروعه السياسي (الديمقراطية القاعدية ذات الأصل اليساري)، وإما "التأسيس الجديد" بعيدا عن خرافات النمط المجتمعي ووكلائه يمينا ويسارا، أي بعيدا عن منطق أحادية الصوت وثقافة "الزعيم" واستراتيجيات الإقصاء ومفردات الصراع الوجودي، التي يمثّل مشروع الرئيس صورة من صورها البائسة مهما تعالت ادعاءاته الذاتية ومزايداته الطهورية.
عمران خان بين صناعة التاريخ والخروج منه
بورقيبة إنسان ليس ملاكا ولا شيطانا.. 6 أبريل ذكرى وفاة الزعيم