الكتاب: ثورة في الرؤوس: في الماركسية والاشتراكية واليسار
المؤلف: عبد الإله بلقزيز
الناشر: المركز الثقافي للكتاب للنشر والتوزيع-الدار البيضاء
الطبعة الأولى
السنة: 2021
عدد الصفحات: 328
في ضرورة فك الارتباط بين اللينينية والماركسية
يخلص بلقزيز من هذه المقدمات إلى تأكيد خلاصة مهمة، هي ضرورة فك الارتباط بين المنظومة الفكرية ذات الطبيعة الكونية، وبين تجارب تحققها التاريخي، ذات السمة النسبية الخصوصية.
وعلى الرغم من الارتباط التلازمي الذي ساد في أوساط عدد من التيارات اليسارية بين الماركسية واللينينية، فإن الكاتب يحاجج بقوة على أن اللينينية ما هي إلا تأويل روسي للماركسية، أو هي تأويل لقائد سياسي اشتراكي كبير، انطلاقا من أوضاع روسيا، وأن لينين قام بتطويع الماركسية (المنظومة الفكرية) كي يجيب على حاجيات المجتمع الروسي، وأوضاع طبقاته الكادحة، ومطالب الحركة الاشتراكية الديمقراطية التي كان يقودها إلى جانب رفاقه.
يورد بلقزيز ثلاث قرائن لتثبيت هذه الفكرة، أولها، أن تحليل ماركس لميكانزمات نظام الإنتاج الرأسمالي، تثبت أن علاقة التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج تتولد عن التناقض القائم بين قوة العمل والرأسمال، حيث تميل القوى المنتجة إلى التطور المتسارع، بينما تكبح علاقات الإنتاج تطورها، وأن حل هذا التناقض في النظرية الماركسية، لا يوجد خارج كسر القوى المنتجة لإطارات العلاقات الرأسمالية التي تكبحها (الثورة الاجتماعية التي تنجزها القوى المنتجة أي البروليتاريا).
هذا التحليل الذي انطلقت منه الماركسية، هو الذي حكم توقعها بأن تعرف الثورة الاشتراكية ميلادها في المجتمعات الصناعية، وهو ما لم تأخذ به اللينينية، التي طوعت الماركسية تطويعا، بأن أخذ منها لينين منطقها الثوري التحرري دون مراعاة قوى الإنتاج وعلاقاته السائدة والقوى المتصارعة، فروسيا البلد الذي حكمه الإقطاع، حاول لينين الإقناع بأنه بلد رأسمالي، تنطبق عليه أحكام نظرية ماركس، بل ذهب أبعد من ذلك، لبيان انتقال الرأسمالية من الطور الصناعي ورأسمالية المنافسة الحرة، إلى طور الرأسمالية الاحتكارية، وأنها باتت جزءا من المنظومة الامبريالية، وذلك حتى يبرر ضرورة الثورة الاشتراكية القادمة من روسيا، مع أنه في الأصل لم يكن يقوم بأكثر من تأويل للنص الماركسي، وإخضاعه لحاجات روسيا: مجتمعا وحركة وثورة. وما يعزز ذلك أن لينين نفسه، اضطر أن يتخلى بعد الثورة، عن هذا التبرير، وينظر للحاجة إلى مرور روسيا بمرحلة رأسمالية من خلال مشروع "السياسة الاقتصادية الجديدة" (LA NEP) الذي أطلقه، فيما بات يعرف بـ"خطوة إلى الوراء من أجل التقدم خطوتين إلى الأمام".
الثاني، هو ما يرتبط بالتصور الذي حملته الماركسية لمرحلة الانتقال إلى الشيوعية، والقضاء على الملكية، وزوال صراع الطبقات، وعدم الحاجة إلى الدولة كأداة لإدارة مجتمع، يفترض فيه أن يدير نفسه بنفسه.
وبغض النظر عن طبيعة هذا التصور، وهل يمكن تحققه في الواقع، يرى بلقزيز أن اللينينية، قفزت بشكل كبير على سمتين أساسيتين حرصت الماركسية على أن تجعلها ميزة المرحلة الاشتراكية، والتمهيد الأساسي لنمط الإنتاج الشيوعي، أي السيطرة المباشرة للمنتجين على وسائل الإنتاج، ثم اضمحلال الدولة اضمحلالا تدريجيا. فاللينينية ـ حسب بلقزيز ـ خرجت عن خط النظرة الماركسية الاشتراكية، بحيث صار تأويلها للنص الماركسي معاكسا تماما لما ذهب إليه ماركس، ومناقضا لسمات الاشتراكية، إذ تحولت الاشتراكية في التجربة السوفياتية، إلى دكتاتورية الحزب بدل دكتاتورية الطبقة العاملة، بل بدل أن تتمهد شروط اضمحلال الدولة، برزت بشكل قوي رأسمالية الدولة، بظهور جهازها الإداري البيروقراطي، وجهازها القمعي الكابت للحريات، واجتياحها للاجتماعي والمجال الخاص.
يورد بلقزيز المثال الصيني معززا لهذا المأخذ، فالماوية نفسها، أقامت صرحها على تأويل مغاير للأطروحة الماركسية، فقد نشأت الماوية في بلد زراعي يحكمه نمط الإنتاج الإقطاعي، ومع ذلك، حاول ماو أن يقرأ الماركسية في ضوء تطلعها الثوري دون النظر إلى قوانين الصراع وشروطه، وضرورة أن يسود الصراع بين قوى الإنتاج والرأسمال في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي، وأن تكون الطبقة العاملة، باعتبارها القوى المنتجة، هي أداة الصراع، وحاسمته، إذ اختار ماو في تأويله الاعتماد على الفلاحين، لأن الصين كانت بلدا زراعيا محكوما بنمط الإنتاج الإقطاعي.
الجانب الثالث، تمثل في الانزياح عن موضوعين محوريين شكلا بؤرة النظرية الماركسية: وهما التنظيم الثوري، ودكتاتورية البروليتاريا. ومع ما سجله بلقزيز من نقد للنظرية الماركسية بخصوص محورية دكتاتورية البروليتاريا، إلا أنه ركز على التأويل اللينيني، وكيف أخرج هذين المفهومين عن إطارهما، فاستحال الحزب الثوري إلى حزب مغلق على التقاليد المركزية الصارمة.
يورد بلقزيز الجانب الآخر من شخصية لينين، وأنه لم يكن في الحقيقة منظرا بقدر ما كان سياسيا، يتحرك بالنظرية، ويستلهمها وفق حاجاته التنظيمية، وأنه قدم تراثا مهما في الدينامية السياسية، وأن ما نسب إليه من تنظيرات، وتجديد للنظرية الماركسية، خصوصا ما تعلق بنظرته إلى تطور الرأسمالية وإبداعه لفكرة الرأسمالية الاحتكارية
يعزو بلقزيز هذا الانزياح لعوامل عدة، منها سطوة بيروقراطية الدولة وانعكاسها على التنظيم الحزبي، وآثار الحرب العالمية الثانية، وتغول الأجهزة العسكرية والأمنية على الدولة، فضلا عن أوضاع روسيا المتأخرة، ودورها في إنتاج النموذج الحزبي اللينيني.
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة إلى التنظيم الثوري، فإن دكتاتورية البروليتاريا اختزلت عند لينين في حزبها الشيوعي، ثم ما لبثت أن اختزلت في قيادته، حتى إذا جاء ستالين، صارت مختزلة بالكامل في شخص الأمين العام. وبمقتضى ذلك، بدل أن تكون التجربة عاكسة للنظرية الماركسية في تجسيد دكتاتورية البروليتاريا، صارت تعكس في الواقع دكتاتورية البورجوازية الصغيرة، بحكم أن قيادة الحزب الشيوعي، كانت تتشكل من مثقفين من البرجوازية الصغيرة، بل إن الحزب لم يكتف بممارسة دكتاتوريته من خلال الدولة، بل صادر كل شيء، وبدأ ممارستها حتى داخل الحزب، من خلال حملات التصفية والمطاردة للرفاق (تصفية زينوفييف ومطادرة تروسكي..).
يورد بلقزيز كل هذه الأدلة للتأكيد على أن اللينينية لا تقبل التأويل إلا بوصفها تأويلا من موقع روسي للماركسية، وأنه لا مجال للمطابقة بينها وبين الماركسية، وأن الأنسب في توصيفها أن يقال بأن الماركسية اللينينية هي مقولة ستالينية، لم يقل بها أحد قبل ستالين، وأن الهدف من استعمالها وترسيخها هو إقفال الماركسية على فهمها اللينيني.
يورد بلقزيز الجانب الآخر من شخصية لينين، وأنه لم يكن في الحقيقة منظرا بقدر ما كان سياسيا، يتحرك بالنظرية، ويستلهمها وفق حاجاته التنظيمية، وأنه قدم تراثا مهما في الدينامية السياسية، وأن ما نسب إليه من تنظيرات، وتجديد للنظرية الماركسية، خصوصا ما تعلق بنظرته إلى تطور الرأسمالية وإبداعه لفكرة الرأسمالية الاحتكارية، وأن الامبريالية تشكل أرقى مراحل تطور الرأسمالية، كل ذلك، إنما كان يبحث به عن تبرير للثورة وفق المنظار الماركسي في الحالة الروسية.
يرى بلقزيز أن اللينينية، قفزت بشكل كبير على سمتين أساسيتين حرصت الماركسية على أن تجعلها ميزة المرحلة الاشتراكية، والتمهيد الأساسي لنمط الإنتاج الشيوعي، أي السيطرة المباشرة للمنتجين على وسائل الإنتاج، ثم اضمحلال الدولة اضمحلالا تدريجيا
يعرج بلقزيز على التجربة الشيوعية الأوروبية، ويرى أنها هي الأخرى تمثل تأويلا خاصا للماركسية فرضه السياق الأوروبي، وأن لجوءها إلى إسقاط العمل بالعنف الثوري ودكتاتورية البروليتاريا، يدخل في السياق نفسه، أي في سياق استلهام النظرية ضمن الأوضاع الخاصة لأوروبا، واستجابة للحاجات التي يتطلبها التنظيم في سياق سياسي محكوم بقواعد وأنساق سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة.
على أن أهم ما في كتاب عبد الإله بلقزيز هي مقدمته التي بلغت 145 صفحة، أي كتاب بأكمله، يضم له مقالات سابقة كتبها في سياقات مختلفة نقدا للتجربة الاشتراكية العربية أو لتجربة اليسار الجديد.
يتجه بلقزيز في المسار نفسه في التمييز بين النظرية وبين التجربة، عند استعراضه للتجربة الاشتراكية وتجربة اليسار في العالم العربي، ويضم بين دفتي كتبه، مقالات تحليلية كان قد كتبها في محطات سابقة، في المراجعة الفكرية لتراث الماركسية العربية (كتبها في عام 1993)، ومناقشات بعض أطروحات مهدي عامل (كتبها سنة 1986)، وبيان نماذج من طوباوية اليسار الجديد (كتب المقال سنة 1993)، وتفكيك أزمة الحركة الشيوعية العربية (كتبها سنة 1989)، ونقد خطاب اليسار الجديد (سنة 1985) هذا فضلا عن مقالين قديمين، ضمهما إلى كتابه، يتعلق الأول بالنظام المفهومي للمادية التاريخية (كتبه سنة 1981) ومقاله عن السيرة الوهمية للبريسترويكا (كتبه سنة 1992).
التجربة الفكرية والتنظيمية ودورها في نقد الماركسية
يحرص بلقزيز في كتابه أن يشير إلى تجربتين مهمتين كان لهما دور كبير في تطوير نظرته إلى الماركسية والاشتراكية واليسار، الأولى، هي انفتاحه المبكر (المرحلة التلميذية والطلابية الجامعية) على مشارب مختلفة من مصادر الفكر، العربي والغربي، وطوفانه بين ضفاف مختلفة من مصادر هذين الفكرين، فضلا عن أخذه المباشر من مصادر الفكر الماركسي، وتأويلاته النظرية في مختلف الحقول المعرفية، بما في ذلك الكتابات الماركسية العربية (مهدي عامل، العروي، طيب تيزيمي، حسين مروة، جورج طرابيشي، ياسين الحافظ، محمد عابد الجابري).
والثانية، هي تجربته داخل اليسار الجديد ضمن العمل الطلابي، إذ كان ينتمي في الثمانينات إلى الطلبة القاعديين (اليسار الجديد بالمغرب) ثم انتهى به المطاف إلى ترك هذا التنظيم، والاقتراب الفكري من منظمة 23 مارس، بحكم أنها أضحت منفتحة على التيارات القومية والإسلامية من خلال جريدتها "أنوال"، التي شكلت مقدمات حزب منظم العمل الديمقراطي الشعبي، ليأخذ بعد ذلك مسافة من الحزبي والتنظيمي، ويتفرغ لما هو فكري.
يورد بلقزيز هذا المسار، الذي هو أشبه بالسيرة الذاتية في مقدمة كتابه الطويلة، ليدلل على أن هذه الخلفية التي اكتسبها سواء من تجربته الحزبية أو التنظيمية داخل اليسار الجديد، أو من خلال المسارات الفكرية التي قطعها، هي التي ساعدته في اكتساب عقلية نقدية في التعامل مع النظريات والتجارب، وفي النأي بنفسه عن الانتظام في أي إيديولوجية مغلقة أو تنظيم مقفل يحول بينه وبين النظر النقدي.
إقرأ أيضا: هل استنفدت الماركسية كنظرية أغراضها؟ كتاب يجيب (1من2)
هل استنفدت الماركسية كنظرية أغراضها؟ كتاب يجيب (1من2)
شبهات وإجابات حول مكانة المرأة في الإسلام.. قراءة في كتاب
الإمبريالية والهِشِّك بشِّك.. تاريخ الرقص الشرقي في كتاب