في السادس عشر من شهر آذار/ مارس ٢٠٢٢ أجاب الرئيس الأمريكي جو بايدن بلا، على سؤال: هل بوتين مجرم حرب؟! قال لا للصحفية التي وجهت إليه السؤال وأدار ظهره ومشى، ثم عاد إلى السائلة وقال مستدركاً: "هو مجرم حرب" وانتشر قوله كالنار في الهشيم. رفض الكرملين بشدة وحزم هذا الوصف، وأكد بغضب أنه لن يغفر ذلك لرئيس دولة قتلت مئات الآلاف من الناس في أنحاء العالم، أي أن رؤساءها مجرمو حرب.
لقد رأينا الرئيس بايدن ينتقل بسرعة من لا إلى نعم، كأنما يلفظ شصاً علِق بحلْقه.. ومن المشروع أن نتساءل عن السبب الذي جعل بايدن في وضع يشي بالارتباك ويفضي إلى هذا الاستدراك.. أهو الموقع والموقف.. موقع رئيس الدولة المسؤول أم موقف الشخص الذي يملي عليه فكره وضميره موقفاً؟! أم أن الأمر يتعلق بحسابات سياسة داخلية، جماهيرية وحزبية، على عتبة انتخابات برلمانية نصفية يتنافس فيها حزبه الديميقراطي مع الحزب الجمهوري، وبحسابات سياسية أخرى خارجية أمام دول ورأي عامٍ عالمي استنفَره ضد روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين؟!.. أم أن ذلك مجرد صدى داخلي في خضم التردد بين التهدئة والتصعيد..؟!
أياً كان الأمر فالنتيجة أن الرئيسين تبادلا اللكمات في ميدان الحرب الدائرة في أوكرانيا، تلك التي لكل منهما فيها قوافل من النوق والجِمال. وبتقديري أن هذا لن يكون حدثاً عابراً، بل سيصب مزيداً من الزيت على النار بين البلدين والرئيسين اللذين قد يدخلا العالم ـ القرية بثقلهما الكبير وسلاحهما الثقيل، ويتسببان بمزيد من الكوارث للبشر الذين ذاقوا ما ذاقوا من ويلات بسبب الاستراتيجيات المتصارعة، والأطماع المتفاقمة والعبث بالدول والشعوب والأمن والسلم العالميين.
إنهم يتراشقون تهمة "مجرمي حرب" وكل منهم ولغ في دم البشر وناصر القتلة والعنصريين واحتل وسكت على جرائم الاحتلال، ونهب وسلب وأرهب واستثمر في الإرهاب، يقولون بالسلم ويؤسسون للحرب، يقولون بالدبلوماسية ويحتكمون للقوة المدمِّرة ويعلقون أهمية كبرى على نتائج الميدان والحرب المشتعلة وهم حول طاولة المفاوضات لوقف الحرب المأساة..
يُجمعون على أن الأسلحة النووية تدمر العالم، ولا يخرج منها منتصر، ولا يجوز أن تستخدم في حرب.. ومع ذلك يبذلون المال والجهد والوقت ويسخرون العقول والأبحاث والطاقات لإنتاجها وتطويرها وتخزينها، وينشرونها في أماكن من العالم، ويلوِّحون بها من آن لآخر؟! إن رتفاقاً دولياً ملزماً ونافذاً يقضي بالتخلص من الأسلحة النووية هو ما يكشف الادعاء والنفاق والخداع.. فهل يفعل ذلك الذين يلعبون لعبتهم التدميرية وعلى وجه كل منهم أكثر من قناع أو أن له أكثر من وجه؟! ذلك رهان مطروح عليهم.
إنهم لا يرون ما في أقوالهم وأفعالهم تلك من تناقض؟! وهم بذلك يدمرون الثقة التي لا بد منها للتفاهم والتعاون ووقف التدهور ووضع حد للمآسي.. إنهم يهدمون صروح العقل والمنطق والقيم، ويدمرون ثقة الناس بهم وثقة الناس بالناس، ويلغون مبدأ الاعتماد المتبادل والثقة المتبادَلة بين الدول والشعوب، ويحولون العالم إلى غابة وحوش كاسرة؟!.
إنهم يتراشقون تهمة "مجرمي حرب" وكل منهم ولغ في دم البشر وناصر القتلة والعنصريين واحتل وسكت على جرائم الاحتلال، ونهب وسلب وأرهب واستثمر في الإرهاب، يقولون بالسلم ويؤسسون للحرب، يقولون بالدبلوماسية ويحتكمون للقوة المدمِّرة ويعلقون أهمية كبرى على نتائج الميدان والحرب المشتعلة وهم حول طاولة المفاوضات لوقف الحرب المأساة..
يصرفون البلايين على الأسلحة الفتاكة وأدوات القتل ويمارسون العدوان ويشقون الإنسان، ولا يضعون عُشْرَ معشار ذلك من أجل حماية البشر من سطوة القوة الغاشمة والدكتاتوريات المستظِلَّة بها، ومن الجوع والمرض والجهل والفساد والإفساد والانحلال الاجتماعي والأخلاقي.. ولا يكتفون بذلك الشح على إنسانية الإنسان بل يدمرون كل ما يحميه ويقويه ويرفع من شأنه ويرتفع به خلقاً وقيمة وما يمكنه من أن يشعر بنعمة الحياة ومعانيها وقيمتها يعيش حياة كريمة في ظل حرية وأمن من جوع وخوف.. فماذا نسمي هذا؟! وماذا نقول عن بشر يرفعون أولئك أصناماً يعبدونها ويسفكون الدم البشري على مذابحها، ويعلون شأنها ويقتدون بها؟!..
يفعلون ذلك رغم ما يصيبهم من مصائب، ولا يعون أنهم يرفعون قاتليهم ومهلكيهم من الطغاة، ويؤسسون لمزيد من الطغيان، ويعلون شأن دعاة الحروب ومجرميها، ويؤسسون لمزيد من القتل والإجرام والكوارث، ويضعون القَتَلة والمجرمين والطَّامعين المعتدين والعنصريين البغيضين فوق العدل والقانون والقيم والناس، وبذلك يصنعون مرضى التورم الأناني ومجانين العظَمَة والمستبدين الحمقى الذين يؤسسون لحروب تنتج حروباً، ولكوارث بعد كوارث يعاني منها البشر، ويضطهدون الناس ويحاصرونهم ويرهبونهم ويبيدونهم مادياً ومعنوياً تحت شعارات وذرائع، ويظلُّ الطاغية الهمجي منهم يرمَح في أرض الله ويفتك بعباده، ولسان حاله يقول: "قولوا ما شئتم، ونفعل ما نشاء.".
إذا استمر هذا فإن الكارثة الكبرى تدق الأبواب باباً بعد باب، ويستجيب لها من لا يرى أبعد من أنفه، فيكسر ظهره بسيفه، ويحفر قبرَه بظلفه؟!.. ولحدوث الكارثة مؤشرات ودلالات تظهر في أحداث ومواقف واستقطابات دولية وتجنيد مرتزقة، وشَلَل المؤسسات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي، وتنامي التعصب والتطرف والنزوع العنصري، والاستخفاف بحياة الناس وأرواحهم وأمنهم ومعاناتهم.. والكارثة تتراءى في مشاهد وفصول وتمر بمراحل، منها ما يُرى بالعين المجرَّدة ومنها ما يحتاج إلى مجاهر جراحي الدِّماغ ومختبرات الباحثين في الفيروسات.. ولكن لا يخطئها الحسُّ السليم.
معظم الكوارث التي يعاني منها البشر تنتجها الحروب، والحروب يثيرها ويشعلها ويخوضها بشر تحرقهم بنارها ولا يكفون عن إضرام نارها والارتماء في أتونها. إنهم يتمرغون بدمهم ويكتبون به تاريخاً هو تاريخ الحروب، تاريخ إفلاس العقل والمنطق وتهافت الضمير وخلاصة البؤس البشري. ومن ينتصر منهم في حرب يدخل باباً من أبواب التاريخ، ويعيد كتابته، ويفصِّله على مقاسه، يمجِّدُ نفسه ويمَجَّد، يحكم ويتحكم ويصبح الحكمة، ويُرفع قدوة حتى لو كان الحمق المؤثل، وأباد ملايين البشر، ودمر العمران، وأهلك الزرع والضَّرع.. إنه يقلب المفاهيم والقيم رأساً على عقب.. ومَن يُهزَم في حربٍ يُقزَّم ويُذم ويُجرَّم ويُحمَّل أسبابها وأوزارها ومآسيها والمسؤولية عن كوارثها، ويدخل تاريخ الخزي من أوسع الأبواب، ويصبح الحماقة والغباء والتفاهة حتى لو لم يكن كذلك.
الحروب تنتج الكوارث، وتُبقي الدم ينزف، والدمار يجتاح، والألم يعتصر القلوب، والموت يتخطف من يتخطفهم من الناس الأبرياء في الدروب، وتنتج التشرد والتآكل والعذاب والضعف والضلال البعيد، وتستنبت الأحقاد والكراهية.. وتؤسس لحروب وكوارث أخرى وتُحيا ذكراها حتى لا تُنسى، وتصبح فتنة جذابة تتغذى بذاتها وتغذي الذوات وتستهلكها، وترفع رأسها تيهاً وتغري الضالين والتائهين والجاهلين باتباعها، وقودها الناس والعمران والأوطان.. قد يتحاشاها الفَطِن الأريب لكنها غالباً ما تجتاح وتطحن الأبرياء والأذكياء والأغبياء فهي لا تفرق ولا ترحم، ولا يكون أحد بمنجى منها حين تمتد وتشتد، ولا تجد من يمنعها حين يقف وراءها الطغاة الطامعون والمتجبرون العنصريون، ومرضى الأنفس الذين ليس لهم من العقل والدين والخُلُق نصيب يردعهم ويهديهم سواء السبيل..!!
معظم الكوارث التي يعاني منها البشر تنتجها الحروب، والحروب يثيرها ويشعلها ويخوضها بشر تحرقهم بنارها ولا يكفون عن إضرام نارها والارتماء في أتونها. إنهم يتمرغون بدمهم ويكتبون به تاريخاً هو تاريخ الحروب، تاريخ إفلاس العقل والمنطق وتهافت الضمير وخلاصة البؤس البشري.
ويتساءل المرء منا، المحكوم بقرارات مشعلي الحروب، بينما تؤرجحه الكارثة على ضفاف الهاوية وتفضي به من بلوى إلى بلوى: "من الذي خول هؤلاء وأعطاهم الحق بالتصرف بأرواح البشر ومصائرهم؟! وما جدوى النُّذُر حين تنفلت الغرائز من عقالها، وحين يصبح القتل لغة حوار، والتآمر وسيلة تغيير، ولسان الظاهر ستائر لعفَن الباطن، ويصبح الدم مخاضة كل طرف من أطراف الصراع؟!"..
إن كل الأطراف والفرقاء في النتيجة يتداعون إليها وهم في الوقت ذاته يتداعون على القيم والأوطان والإنسان والحق والعدل، ولا تأخذهم بأنفسهم ولا بغيرهم رأفة أو رحمة، ولا ترتفع منهم وبينهم نأمة تسامح وحكمة منقذة تعلو على الأحقاد والضغائن والصغائر والمصالح. في مثل تلك الأحوال التي يُفاقمها ما يكتنفها ويحيط بها ويؤججها من أقوال وأفعال وتواطؤ وخداع وتآمر وما يحكم بعض أطرافها المباشرين من قصور وقِصَر نظر.. في مثل تلك الأحوال تُغيَّب العقول، وتَهزُل الضمائر، وتُزدرى الحكمة، ويُهمَّش العدل، وتُهمل الآراء التي تدعوا إلى خير ووعي وأمن وسلم وعيشٍ أفضل، ويفسد المناخ الذي تتوالد فيه الأفكار النَّيرة والأخلاق الحميدة، ويرتفع فيه شأن التبصر والتدبر والتصرف المسؤول الذي يساهم في الخروج من أنفاق الأزمات الحادة وظلمات الظلم والجَور والقهر وسفك الدم.
من يُرد الإحاطة بما يحدث فقد وصله ما يكفيه من المعلومات والأخبار عن الحشود والقرارات والتصريحات والمخططات والتصرفات، ويمكنه أن يستنتج النتائج ويُحَبِّر الاستنتاجات، لكي يفهم ويدرك ويقرر ويكوِّن رأياً أو يرسم صورة أو يحدد موقفاً.. ومَن ينتظر المزيد سيأتيه المزيد.. فالأيام حَبالى، والأحداث ولود، والصفوف تراصت وتباينت واختارت وتمترست وراء خياراتها.. وهناك أرحام فتية لعقول معتلَّة، ستنتج لنا من الأفكار والآراء والخطط والممارسات كل ما هو: مبهر للعيون، كاشف للظنون، مغرٍ بالفتنة، مضلل للناشئة، مزيِّنٍ للحرب، مؤسسٍ للدمار، مدمرٍ للمنطق، ومفضٍ إلى مزيد من الفوضى وخراب البلدان وتقسيمها، واعتلال الأنفس والقلوب والأرواح وتبريحها.
لا عقل ولا حكمة ولا قيمة ولا مصلحة مع الحرب المجنونة والحقد والحمق ومع السياسات التي تركز على تفاعلات سلبية بعناد وتصميم.. ولا دفء لشعب يتعرى من وطنه وفي وطنه ويقف في مهب الريح بانتظار وعود مَن لا وعود لهم، ويدعو الآخرين بمن فيهم أعداءه إلى التدخل في شؤونه وحفظ أمنه وستر عورته، وحل أزماته، ومعالجة قضاياه، واختيار ما يصلُح له ويصلِحه.
إننا في ضوء ما نرى ونسمع ونتابع لا نرى انتصاراً حاسماً للعقل والحكمة والرأي السديد والعلاقات السليمة، ولا نرى من الأطراف والأشخاص والجهات المعنية ومن مؤسسات دولية في أعلى المستويات ما يريح ويبعث على التفاؤل، ولا نلمح الحلول السلمية والمنطقية المسؤولية تتجلى في الخطاب والممارسة والسلوك.. بل نرى ونلمس في الخطاب والممارسة أنفساً مستنفرة متعالية، كارهة للآخر، منطوية على ما يعشش في ثناياها ومكامنها من نزوع بغيض ومعارف ومواقف وثوابت معوِّقة للتقدم نحو الأفضل، ونسمع في خطابها صهيل الشر والجهل والمقت، ودعوة غبية إلى حرب عالمية ثالثة.
لا عقل ولا حكمة ولا قيمة ولا مصلحة مع الحرب المجنونة والحقد والحمق ومع السياسات التي تركز على تفاعلات سلبية بعناد وتصميم.. ولا دفء لشعب يتعرى من وطنه وفي وطنه ويقف في مهب الريح بانتظار وعود مَن لا وعود لهم، ويدعو الآخرين بمن فيهم أعداءه إلى التدخل في شؤونه وحفظ أمنه وستر عورته، وحل أزماته، ومعالجة قضاياه، واختيار ما يصلُح له ويصلِحه.
كثيرون هم الذين وثقوا بالداعين إلى الحرب فتدَحرجوا أو دُحرجوا إليها، وخاضوا غمارها، واكتووا بنارها، وجنوا ثمارها المرة، وخلفوا كوارثها لأجيالهم، وزُيِّفتْ وجوههم وسيرهم وقضاياهم.. وما اتعظوا.. فالمُجرَّب لا يُجرَّب.
القارة الأوروبية تواجه الحرب الروسية!
رؤية فلسفية للسيناريوهات المتدافعة في أوكرانيا
الحَربُ وشُرُورُها.. إلى مَتى يَبقَى الإِنسانُ عَدوَّاً لِأخيهِ الإِنسان؟