"إنها
هذه الحياة المثالية. أجَلْ. هذه الصرامة والاستقامة هي التي تقلقُني. إنَّ هذا كُلَّه
على ما أتوهَّمُ ليس إلا نوعًا من النَّوم. ويُخيَّلُ إلَيّ أحيانًا أنَّ زوجتَك تنامُ
حياتَها."
تأتي
هذه الجملة على لسان شخصية الطبيب (فرانسيس ليموان) أخ بطل المسرحية القسّ (كلود ليموان)
خلال المنظر العاشر من الفصل الأول. كتبَ الفيلسوف الفرنسيّ الكبيرُ (مارسِل) هذا النّصّ "Un Homme de Dieu" سنة 1925، أي منذ حوالَي قَرنٍ،
ويقولُ أستاذنا الناقد الكبير الراحل د. محمد مندور في المقدمة الضافية التي كتبَها
للترجمة العربيةِ التي أنجزَها أستاذنا المرحوم فؤاد كامل للنَّصّ، إنّ (مارسِل) قد
كتبَها في فترة شكِّه، أي قبلَ عودتِه للإيمان المسيحيّ عام 1929.
تدورُ
الأحداثُ باختصارٍ حولَ القسّ والواعظ الناجح (كلود) المتزوّج مِن (إدميه)، وله منها
ابنةٌ شابّةٌ هي (أُسموند). تسير حياةُ الأسرةِ على وتيرةٍ هادئةٍ، لكن ما تلبثُ الأحداثُ
أن تُسفِرَ عن سِرٍّ قديمٍ في حياة الزوجَين، حيث يتقرّبُ من (فرانسيس) رجُلٌ يُدعَى
(ميشيل ساندييه)، مريضٌ مرَضًا لا يُرجَى بُرؤُه ومُوشِكٌ على الموتِ خلالَ فترةٍ وجيزة.
يطلُبُ (ساندييه) من (فرانسيس) أن يقدِّمَه إلى أسرةِ أخيه ليَرى (أسموند). وهنا نكتشفُ
أنّ (ساندييه) كان عشيقَ السيدة (إدميه) في الفترة الأولى من زواجِها، وأنه والِدُ
(أسموند) الحقيقيُّ، ونعرفُ أنّ القسَّ (كلود) كان قد اكتشفَ تلك العلاقةَ الآثمةَ
مبكِّرًا، وتجاوزَ عنها، وطلبَت منه امرأتُه الصَّفحَ فصفحَ عنها، ورَبَّى المولودةَ
باعتبارِها ابنتَه. وفوق ذلك، وعدَ (كلود) امرأتَه بألّا يُفشِيَ هذا السِّرَّ لمخلوقٍ،
لكنّها في خِضَمِّ عودةِ (ساندييه) تكتشفُ ممّا يدورُ من نقاشاتٍ بينها وبين (فرانسيس)
وحماتِها أنَّ (كلود) قد أخبرَهما مبكِّرًا جدًّا بذلك السّرّ ففضحها أمامهما. بالطبع
لا تعرفُ الابنةُ (أسموند) شيئًا من ذلك.
ومع
عودة (ساندييه) تتأزّم العلاقةُ بين القسِّ وامرأتِه ويفتحان دفاترَ الماضي، لا سيَّما
بعد أن يتحدثَ العاشقان القديمان على انفرادٍ عن ملابساتِ انتهاء علاقتِهما. تعاتبُ
(إدميه) زوجَها على صَفحِه عنها، زاعمةً أنه إنما فعلَ ذلك لكي يُحافِظَ على سُمعتِه
أمام الناسِ، أو ربّما لاعتباراتٍ دينيّةٍ تتعلّق بفضيلةِ الصفح، لكنه لم يُحِبَّها
أبدًا، ولم يكن دافعُه إلى الصفح هو الحُبّ. ويدفعُ هذا التأزُّمُ القسَّ إلى أن يواجِهَ
نفسَه، تلك النفسَ التي يكتشفُ أنه لم يعرفها أبدًا حَقَّ المعرفة ولم يَخبُر ما في
أعمق طبقاتِها المُظلمة من نوازع ودوافع.
ومن
ناحيةٍ أخرى تتأزّم العلاقةُ بين الزوجَين و(أسموند) التي تثورُ على التقاليدِ وتَقبَلُ
أن تكون مربِّيةً لابنتَي الجارِ (ميجال) الذي أُودِعَت زَوجُه مصحّة الأمراض العقلية
ولا يُرجَى بُرؤُها هي الأخرى فأصبحَ في حُكم الأعزب أمام المجتمع. وفي نوبة غضبٍ عظيمٍ
يُجابه (كلود) الابنةَ الثائرةَ ويفاجئها بقَولِه إنس ليس أباها، فتستنتِجُ هي أنَّ
(ساندييه) الذي زارَ الأُسرةَ قريبًا هو الأبُ الحقيقيّ.
توشِكُ
الأسرةُ أن تنهارَ، فأسموند تقرر أن تهجُرَ البيت إلى بيتِ ميجال، والقسُّ يقولُ:
"عندما أفكر في الله أشعرُ بنفس الشعور. كنتُ أعتقِدُ أنه يتحدثُ إليَّ أحيانًا.
وربما لم يكن ذلك غير نشوةِ انجذابٍ كاملة. مَن أنا؟ عندما أسعى لغدراك نفسي أُفلِتُ
دائمًا من نفسي." فهو قد فقدَ يقينَه تمامًا.
وبينما
هم في ذلك التصدُّع تباغِتُهم زيارةُ الآنسة (أوبونو) والصغير (رينيه)، حيث نكتشفُ
أنَّ والدةَ (رينيه) الفقيرَةَ مِن بين مَن يرعاهم القسُّ (كلود) وامرأتُه (إدميه)،
وقد ساعداها بإسكانِها في دار راهباتٍ، كما أنَّ (أسموند) هي عرّابةُ (رينيه) أي أمُّه
بالتعميدِ، تتولى رعايتَه. وتنتهي المسرحية بأن تقولَ (إدميه) لزَوجِها: "انظُر!
هذا ما ينبغي أن نعيشَ من أجلِه في الوقتِ الحاضر!" فيردّ (كلود) غارقًا في أفكارِه:
"أن يُعرَفَ المرءُ على ما هو عليه!"
هكذا
يحاول فيلسوفُنا (مارسِل) أن يختبرَ الوجود الإنسانيَّ في موقفٍ ضاغطٍ يكشفُ للرجُل
المتوافِقِ مع أعرافِ مجتمعِه المتمتِّع بطُمأنينةِ التديُّن عن أعماقِ نفسِه.
والحَقُّ
أنني لا أرى في النصّ إلحادَ (مارسِل) الذي يُفترَضُ أن يكون مهيمنًا على الفترة التي
أنجزَ فيها هذا النَّصَّ كما أكَّد أستاذنا (مندور)، وإنما أرى نفاذَه إلى حقيقةِ الإيمانِ
الدِّينيِّ وما يُمليه على المؤمن.
في تصوُّري
أنَّ (سارتر) لو كان هو من نسجَ خيوطَ هذا النصِّ لأنهاه بتفسُّخ الأسرة، ولكان (كلود)
عقدَ العزمَ على الاستقالة من السِّلك الكنَسِيِّ، ولقررت (إدميه) أن تكون إلى جوار
(ساندييه) إلى آخر لحظة. لو كان (سارتر) لما ظهرَت لنا الآنسةُ (أوبونو) والصغيرُ
(رينيه) مِن عُمقِ الحياةِ المسيحيّة المُفعَمةِ بأعمالِ المواساةِ والبِرِّ، تلك الحياةِ
التي كانت الأسرةُ تحياها مطمئنّةً قبلَ عودةِ (ساندييه) المفاجئة، لتُعيدَ الزوجَين
إلى جادَّةِ الطريقِ التي ارتضياها لنفسَيهما مِن البداية. إنّ نهايةَ المسرحيةِ تضعُنا
أمامَ إصلاحيّةِ الممارسة الدينية المؤمنةِ، في مقابلِ الانقلاب الثوريِّ الرافضِ الذي
كان (سارتر) سيبشِّرُنا به لو كان هو المؤلِّف!
وبين
ما يقولُه البطلُ (كلود) عن العشيقِ المريضِ (ساندييه) قبلَ ظهورِ (أوبونو) و(رينيه)
مباشَرَةً: "إنه محظوظٌ لأنه سينتهي عمّا قريب." وحين تسألُه (إدميه):
"ألا يُفزِعُكَ الموت؟" يجيبُها: "كلا. إنه الفرصة الوحيدة للإنسان،
حتى ولو لم يكن بابًا يُفتَح." هنا يبدو لي أنه يعني أنّ الموتَ يضعُ الإنسانَ
أمامَ حقيقتِه العرَضيّةِ، فهو كائنٌ محدَّدٌ بالموت ويعرفُ ذلك، والعدَمُ ركنٌ أساسيٌّ
في بِناءِ وجودِه مِن هذا المُنطلَقِ كما يؤكِّدُ (هايدِغَر). وإزاءَ هذه العرَضيّةِ
– وهي حقيقةُ الحقائقِ في مسألة الوجود البشريّ – تنفتِحُ الحقائقُ الأخرى المطمورةُ
في النفسِ، فيتّضِحُ عبثُ كثيرٍ من مساعي الإنسان وما دأبَ على ترديدِه.
ولأنّ
(كلود) في لحظةِ شَكٍّ، يعلِّقُ الحُكمَ على دَعوَى أنَّ الموتَ بابٌ يُفتَح، فالموتُ
بابٌ يُفتَحُ فقط في الأنساقِ العَقَدِيَّةِ التي تؤمنُ بحياةٍ بعدَ الموت، حيثُ تتحوَّلُ
الحياةُ الدنيا فيها إلى مزرعةٍ للآخرةِ كما في المأثور الإسلاميّ. أمّا في الوجوديّة
المُلحِدة فالموتُ بابٌ على العدمِ فحَسبُ، لكنّ المُشتَرَكَ في النَّسَقَين أنّ الموتَ
يقينٌ محدِّدٌ للوجودِ الإنسانيِّ في هذه الحياة، وهو الذي يخلعُ على الحياةِ معناها
ويؤطِّرُ قصّتَها المتناهية.
وإذا
ما عُدنا إلى الاقتباسِ المُصدَّرِ به هذه القراءة السريعة، فسنَجِدُ فكرةَ أنّ
"(إدميه) تنامُ حياتَها" بأن تتناسَى ما حدثَ في شبابِها من خطيئةٍ وتزرعَ
نفسَها في عالَمِ البِرِّ والمواساةِ المسيحيِّ وتقتُلَ نوازِعَها الدفينةَ التي ربَّما
كانت ستدفعُها إلى مغامرةٍ عاطفيّةٍ جديدةٍ مع رجُلٍ آخَرَ لو لم تقتُلْها بيدِها،
سنجِدُ هذه الفكرةَ مشدودةً كوَتَرٍ قُربَ نهايةِ المسرحيّة بين طرَفَين، أحدُهما هو
الثورةُ على هذا النوم بإيقاظِ كُلِّ تلك النوازِعِ الدفينةِ وتقليبِ الماضي ومحاكمةِ
نَوايا الذاتِ والآخَر، والطرفُ الثاني هو تقريظُ هذا النومِ والمحافظةُ عليه بإهالةِ
التُّرابِ على ما كَشَفَته لحظاتُ الثورةِ والغضبِ واليقظة، وهو ما تنتهي به المسرحيّة.
ومِن
طريفِ ما استدعَته هذه الفكرةُ لديَّ مِن أفكارٍ، أنّ وصفَ (إدميه) بأنها تنامُ حياتَها،
وهي الزوجُ البَرَّةُ الوفيَّةُ لعالَمِها المتديِّنِ، يتجاوبُ مع الوصف المتكرر في
القرآنِ للنساء العفيفاتِ، خاصّةً في مَعرِضِ الحديثِ عن قذف المُحصَنات بتُهمةِ الفُجورِ،
حيثُ ينعتُهنّ القرآن بقولِه "المُحصَنات الغافلات المؤمنات"، كأنه يمتدِحُ
فيهنَّ الغَفلَة! وهي الغفلةُ ذاتُها التي فرضَتها (إدميه) على نفسِها أعوامًا طويلةً
بعدَ أن صفحَ عنها زوجُها في المسرحيّة.
هكذا
يَخلُصُ (مارسِل) رائدُ الوجوديّةِ المسيحيّةِ إلى أنَّ رَجُلَ اللهِ ليكونَ جديرًا
حقًّا بإضافتِه إلى الرَّبِّ لابُدَّ أن يواصِلَ العملَ الدؤوبَ في الطريقِ التي اختطَّها
له الرَّبّ، وهي طريقٌ أهمُّ ما فيها مدُّ يد العَونِ لخَلقِ الله، انطلاقًا مِن أنَّ
حُبَّ الله يستلزِمُ محبَّةَ خلقِه ورؤيتَهم جديرِين بالأخذ بأيديهم إليه، وأن يفعلَ
الإنسانُ ذلك مهما ثارَ في نفسِه من شُكوكٍ، حتى بخُصوصِ بواعثِ أفعالِه نفسِها. وهي
فكرةٌ أجِدُ صداها واضحًا في المأثور الإسلاميِّ أيضًا، ومِن ذلك قولُ النبيِّ حاسمًا
الجدلَ حولَ مسألةِ القَدَرِ وكتابةِ الأفعالِ على الناس: "اعملوا، فكُلٌّ مُيَسَّرٌ
لِما خُلِقَ له."، ونصيحتُه لأبي سُفيانَ الثَّقَفِيِّ حين طلبَ قولًا فصلًا في
الإسلام: "قُلْ آمنتُ باللهِ ثُمَّ استَقِمْ."، فالمطلوبُ في العقيدةِ قَولٌ،
ثُمَّ لا يبقى إلّا الاستقامةُ على الطريقِ، فإن ثارَت شكوكٌ في النفسِ فالوصيّة النبوية
هي الاستغفارُ ممّا لا جدوى منه ومواصلَةُ الحياةِ بعد ذلك، وغيرُ ذلك كثيرٌ في شَواهِد
السُّنَّةِ والمأثور الإسلامي.
ويبقى
نَصُّ (مارسِل) محوريًّا في فَهمِ رؤيتِه لمقتضيات الإيمان الدينيِّ من السُّلوك، ولمسوِّغاتِ
الجدارةِ بالانتسابِ إلى الله.