من تابع تغطية العدوان الروسي على الشعب السوري منذ 30 أيلول/ سبتمبر 2015، ويتابع اليوم العدوان الروسي على الشعب الأوكراني منذ 24 شباط/ فبراير 2022 يجزم بأن السلوك
الإعلامي للقيادة الروسية قد توقف، وربما قد توقف من قبل منذ عهد ستالين ولينين وغزو الاتحاد السوفييتي في أفغانستان. لكن ما دامت مقارنتنا بين
سوريا وأوكرانيا، فمن الواضح أن دليل
التضليل الإعلامي الروسي في أوكرانيا هذه الأيام، قد استلّ من غمده من جديد، وبدأت
روسيا بالعمل به وبشكل حرفي، وهو ما دعا مراسلون غطّوا الحرّبين لأن يعقدوا مقارناتهما، مما قد يُسهّل على الصحافي بشكل محتم طريقة التغطية، وطريقة فهم التحرك الروسي الراهن والقادم، تماماً كما يُسهل على المشاهدين والمتابعين فهم الصورة بشكل أوضح ما دامت وسيلة الإيضاح، وهي سوريا هنا، قريبة عهد بالتضليل الإعلامي الروسي، ولا تزال عُرضة له.
بين محتويين
انصبّت الدعاية الروسية منذ الأيام الأولى للعدوان على الشعب السوري؛ على إبرازه على أنه مجرد مجموعات إرهابية مسلحة، لا حاضنة اجتماعية لها، فاختصروا كل الشعب السوري الثائر بجبهة النصرة التي صنّفها مجلس الأمن الدولي كمنظمة إرهابية، واستغلت روسيا هذا التصنيف لتعمّمه على كل عدو للنظام السوري، وهي التي أتت لدعمه. ولذا لم يكن غريباً أن تصف الجيش السوري الحر المعترف به من أكثرية أممية بالإرهابي، وحتى منظمة الخوذ البيضاء وهي منظمة الدفاع المدني السوري، بأنها من الإرهابيين وأنها تحضر مع النصرة لهجوم كيماوي على الشعب السوري. هذا الهجوم الذي صاحب الدعاية الروسية منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، لم يتحقق لليوم، بينما قام النظام السوري بـ330 هجوما كيماويا وفقاً لتقرير ألماني منشور، مستهدفاً الآلاف من المدنيين وعشرات المدن والبلدات السورية.
في أوكرانيا كان من الصعب تسويق مصطلح الإرهاب الذي تدمغ به روسيا كل معارضيها في العالمين العربي والإسلامي، ما دام مصطلح الإرهاب في الذهنية الغربية مقتصراً على المسلمين، فنحتت للأوكرانيين مصطلح "النازيين الجدد"
في أوكرانيا كان من الصعب تسويق مصطلح الإرهاب الذي تدمغ به روسيا كل معارضيها في العالمين العربي والإسلامي، ما دام مصطلح الإرهاب في الذهنية الغربية مقتصراً على المسلمين، فنحتت للأوكرانيين مصطلح "النازيين الجدد"، وأكدت حرص غزوها على تطهير أوكرانيا منهم كما تقول الدعاية الروسية، بالإضافة إلى نزع أسلحة سلاح أوكرانيا، بينما رأينا كيف أن الرئيس فلادومير زيلينيسكي نفسه يهودي، وأبوه هو من قاتل في صفوف القوات السوفيتية في الحرب العالمية الثانية ضد النازيين، ونال أعلى وسام سوفيتي يومها لبطولاته وهو وسام النجمة الحمراء. ومع هذا يُمعن الروس في استخدام هذا المصطلح كما أمعنوا كذباً وتضليلاً في استخدام مصطلح الإرهاب ضد قوى ومنظمات سورية معترف بها دولياً.
وكان وزير الخارجية الروسية لافروف قد مهّد قبل العدوان على سوريا لسرديته تلك، لكن بفجاجة دون أي اعتبار للديبلوماسية، حين قال في مقابلة صحافية علنية بأن السنة لن يحكموا سوريا، مما عكس نظرتهم لكل ما هو سني بغض النظر عن انتمائه الحزبي، تماماً كما يعكس اليوم في أوكرانيا نظرتهم لكل ما هو غير روسي أو ناطق بالروسية تحت مسمى النازية.
حرص الروس في سوريا على إبراز وجود أسلحة كيماوية لدى الجماعات الثورية السورية، لتبرير سردية غزوهم واحتلالهم، وهو ما كذبه تاريخ سبع سنوات من العدوان، بينما رأى العالم كله استعمال السلاح من قِبل مَن أتت لدعمه ومساندته. واليوم تحرص روسيا على ترويج أكذوبة أن أوكرانيا تسعى لامتلاك سلاح نووي، وهي نفس الحجة التي استخدمتها من قبل أمريكا لغزو العراق، حجة امتلاكه سلاح الدمار الشامل، ليتبين كذبها لاحقاً، ولكن بعد تدمير العراق واحتلاله وتشظيه.
اللافت ان أوكرانيا التي سلّمت طواعية عام 1994 ثلث ترسانة العالم النووية التي كانت بحوزتها، مقابل ضمانات روسية لأمنها، هي نفسها تُتهم الآن بحيازة هذا السلاح مجدداً، فإن كانت لديها النية لذلك، فلماذا سلمته بالأصل؟
تصل الجرأة بالإعلام الروسي الرسمي أن يتهم القوات الأوكرانية بقصف خاركيف، ثاني أكبر مدينة أوكرانية، بهدف قتل المدنيين، تماماً كما كان يقول عن قتل الثوار للمدنيين في الغوطة، وكيف أن الثوار هم من استخدموا الكيماوي ضد حاضنتهم! وقد حرصت الكاميرات الروسية على إبراز استسلام الأوكرانيين، للتأكيد على سهولة الحرب، ووردية الغزو الذي يحصل بلا دماء، لإبقاء المشاهد الروسي مضلَلاً وبعيداً عن الواقع، ولذا رأينا نفس المراسلين الروس وبنفس طريقة التصوير وهم يصورون فتح ممرات آمنة للمدنيين ليهربوا من مدنهم، بعد أن حاصرتها القوات الروسية، تماماً كما حدث من قبل في حلب والغوطة وحمص وغيرها، ليغادر الأهالي دون رجعة. فالمحتل الروسي يريد أرضاً بلا شعب، فالديمغرافيا مكلفة بالنسبة له.
في سوريا تكررت الرواية نفسها، بينما العالم كله رأى إلقاء آلاف البراميل المتفجرة تتساقط كالمطر على رؤوس المدنيين، وفي كل البلدات والقرى والمحلات. ولكن للأسف عدم مواجهة الغرب -صاحب المدفعية الإعلامية القوية- هذه الدعايات الروسية المضللة منذ البداية، هو من جعل تفكيكها ومحو تأثيرها بالكامل صعباً اليوم
تكرر مصطلح "الدروع البشرية" في أوكرانيا حين أصرّ الإعلام الروسي على الترويج بأن القوات الأوكرانية تتخذ من المدنيين دروعاً بشرية، وأنها تختبئ في المدن والحارات وتقوم بقصف القوات الروسية، التي تردّ على مصادر النيران، مما يتسبب في حصول الدمار والخراب التي يتحملها بنظره الجيش الأوكراني. وكلها دعايات سمجة، لا تخفى على العقلاء. ففي سوريا تكررت الرواية نفسها، بينما العالم كله رأى إلقاء آلاف البراميل المتفجرة تتساقط كالمطر على رؤوس المدنيين، وفي كل البلدات والقرى والمحلات. ولكن للأسف عدم مواجهة الغرب -صاحب المدفعية الإعلامية القوية- هذه الدعايات الروسية المضللة منذ البداية، هو من جعل تفكيكها ومحو تأثيرها بالكامل صعباً اليوم.
في الحالة السورية روّج الرئيس بوتين بأنه أتى إلى سوريا لدعم النظام السوري واستعادة سلطة الدولة في غضون ثلاثة أشهر فقط، ولكن اليوم يكمل الغزو الروسي سنته السابعة، وسوريا مقسمة بين أربعة كيانات على الأقل؛ كيان يقود بشار الأسد بدعم الاحتلالين الروسي والإيراني، وكيان تقوده مليشيات قسد الكردية بدعم أمريكي، وكيان للثورة في غصن الزيتون ويحظى بدعم تركي، وهناك كيان في إدلب وما حولها، وتقوده هيئة تحرير الشام.
أما في أوكرانيا فقد سعى الغزو الروسي إلى العزف على نفس السيمفونية بأن الحرب قصيرة، وأنها مجرد عمليات عسكرية خاصة، مهدداً كل من يسميها حرباً أو عدواناً بإغلاق مؤسساته الإعلامية، وهو ما حصل مع عدد من هذه الوسائل، مما يؤكد أن الحقيقة هي الضحية في سوريا وأوكرانيا. لكن ذلك يعمم على كل الأنظمة الشمولية الديكتاتورية التي ترى في حروبها وعدوانها عمليات عسكرية خاصة، تستهدف أهدافاً عسكرية، لا علاقة لها بالأهداف المدنية، بينما الكاميرا لا تكذب، وتفضح كل ذلك بقصف المعتدي للمدنيين ودك ممتلكاتهم.
برز الفشل الإعلامي الروسي مبكراً في هذه الحرب، يوم خرجت بعض وسائل الإعلام المستقلة تصف الهجوم الروسي بالحرب أو العدوان، فجوبهت بالإغلاق والإقفال
فشل إعلامي مبكر
برز الفشل الإعلامي الروسي مبكراً في هذه الحرب، يوم خرجت بعض وسائل الإعلام المستقلة تصف الهجوم الروسي بالحرب أو العدوان، فجوبهت بالإغلاق والإقفال. وهدد بيان حكومي بإغلاق كل من لا يلتزم بالرواية الرسمية، مما دفع مباشرة محطة بي بي سي إلى سحب طواقهما، كون الالتزام بالأوامر الحكومية الروسية سينسف مصداقيتها، أو يعرض طواقهما للخطر إن خالفت الأوامر.
القيادة الروسية تدرك العلاقة الجدلية بين شعبي وروسيا وأوكرانيا، وبالتالي فإن تصوير الحرب على أنها عدوان وقصف لمدنيين ومدن سيحرّك الشارع الروسي، وهذا ظهر منذ الأيام الأولى بمشاركة الآلاف في المظاهرات، التي خرجت في أكثر من 50 مدينة وبلدة روسية، وقد تم اعتقال 7600 متظاهر حتى اليوم.
أما في سوريا فإن الدعاية الروسية التضليلية لم تجد لها من يقف في وجهها إن كان بوجود مراسلين على الأرض يُفنّدون الدعاية الروسية، أو بإغلاق القنوات الروسية أمام المشاهدين كما حصل في الغرب، أو بإغلاق منصات تواصلها الاجتماعي أمام المشاهدين كتويتر وفيسبوك ويوتيوب. فقد أعلنت شركة ميتا المالكة لفيسبوك عن تقييد وصول منصات الإعلام الروسية الحكومية للمشاهدين والمتابعين، وامتد الأمر إلى غوغل ويوتيوب، وردّت روسيا على ذلك بقصف أبراج التلفزيون الأوكراني في خاركيف، بينما غابت سياسات التقييد هذه أيام العدوان على سوريا، فضلاً عن حذف يوتيوب كل مقاطع الثورة السورية، دعماً ومساندة للاحتلال الروسي والإيراني ومعهما نظام الدمية السوري.
ويجد الرئيس الروسي بوتين نفسه وحيداً مع تغييب المعارضة قتلاً، كما حصل مع بوريس نيمتسوف الذي قتل بعد ثلاث ساعات ونصف الساعة من إدانته غزو بوتين للقرم عام 2014، أو مع اعتقال ألكسي نافالني قبل عام تقريباً، وهو الذي يدعو اليوم من سجنه إلى تصعيد الاحتجاجات رافعاً شعار "روسيا ليست بوتين". وتتحدث استطلاعات الرأي اليوم بحسب مركز ليفادا لعام 2021 بأن 52 في المائة من الروس يخشون القمع العام، وأن 58 في المائة يخشون الاعتقال، وهي النسبة الأعلى منذ عام 1994، فالقاعدة أن الاستبداد كلما طال بقاؤه في السلطة زاد انفصاله عن شعبه.
انعكس الفشل الإعلامي الروسي بصمت على مؤسسات إعلامية مستقلة كبرى، مما عنى لشريحة شعبية واسعة أن ثمة حلقات مفقودة في هذه الحرب، وأن ثمة معلومات تخفيها الحكومة، ولكن مع هذا واصل الإعلام الرسمي تصوير الحرب على أنها عمليات عسكرية خاصة، ولا علاقة لها بقصف مدن، تجنباً لإطّلاع الشعب الروسي على الخسائر المدنية. وتعزز الفشل مع ظهور شخصيات عامة كبيرة تندد بالحرب، فقد رفع لاعب التنس المشهور أندري روبلف أمام الكاميرا لافتة "لا للحرب"، واعتذر رئيس الوفد الروسي الرسمي للبيئة عن غزو بلاده أوكرانيا، وانضمت ابنة الناطق باسم الكرملين بيسكوف إلى صفوف المنددين بالحرب، وكتبت على صفحتها على إنستغرام: "لا للحرب".
انعكس الفشل الإعلامي الروسي بصمت على مؤسسات إعلامية مستقلة كبرى، مما عنى لشريحة شعبية واسعة أن ثمة حلقات مفقودة في هذه الحرب، وأن ثمة معلومات تخفيها الحكومة، ولكن مع هذا واصل الإعلام الرسمي تصوير الحرب على أنها عمليات عسكرية خاصة، ولا علاقة لها بقصف مدن، تجنباً لإطّلاع الشعب الروسي على الخسائر المدنية
مّا يقلق بوتين اليوم هو تحوّل موقف الأوليغارشية التي تتحكم بالمال الروسي، لا سيما مع المضايقات والعقوبات التي بدأت تطال الأوليغارشية التي تتخذ من عواصم غربية ملاذاً لها. ودعا الملياردير الروسي أوليغ ديرباسكا إلى السلام والمفاوضات.
وقد تبنى مجلس الدوما الروسي بالأمس قراراً بتجريم كل من ينشر من وصفها "أخباراً مزيفة" عن الحرب في أوكرانيا، وحدد عقوبة بالسجن لـ15 عاماً لكل من يرتكب هذه الجريمة حسب وصفه، بينما حكم بالسجن لخمس سنوات على كل من يدعو للاحتجاج على هذه الحرب.
خطاب أوكراني للشارع الروسي
نجح بلا شك الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي في حشد شعبه وراءه ضد الغزو الروسي، وبرزت الوحدة الأوكرانية بقوة وفاعلية، فكان الإعلام عاكساً لواقع سياسي واجتماعي موحد على الأرض، فبدأ الرئيس الأوكراني يعرض على أمهات الجنود الروس القدوم إلى أوكرانيا من أجل تسلّم جثث أبنائهن، بينما التقارير تتحدث عن مرافقة آلات لحرق الجثث مع الجيش الروسي المعتدي، وهو ما تكرر من قبل في سوريا، ولكن لحرق جثث المعتقلين والأسرى.
أما روسيا التي كانت تخاطب شعبها بأن عدوانها في أوكرانيا عبارة عن عمليات عسكرية خاصة، فقد أعلنت عن مقتل 500 جندي من قواتها، وهو العدد الذي لم يحصل للقوات البريطانية طوال فترة احتلالها لأفغانستان الذي امتدّ لعقدين من الزمان، بينما شكل تقريباً ربع عدد القوات الأمريكية التي قتلت في أفغانستان طوال نفس المدة.
كان من المفترض الوقوف أمام التضليل الإعلامي بقوة منذ اليوم الأول في سوريا، ويوم اخترقت روسيا الانتخابات الأمريكية والغربية، أما السماح لروسيا ودعايتها الإعلامية بنشر الأكاذيب والأضاليل لعقد أو أكثر، ثم الانتفاض اليوم لتفكيك الطلاسم الإعلامية الروسية، فهذا حينها هو كيل بمكيالين تضرب مصداقيته الإعلام والسياسة الغربية
أخيراً، فقد عرضت شركة مقرها في أوكرانيا عن مكافأة للقراصنة العالميين الذين يلتحقون بها من أجل مهاجمة وسائل الإعلام الروسية وتهكيرها، أو تقييد وصولها للمتابعين، وقد بلغ عدد القراصنة المنضمين لهذه الحملة بعشرة آلاف قرصان، ومن 150 دولة.
الخلاصة
ليس هناك تضليل إعلامي جيد وآخر سيئ. كان من المفترض الوقوف أمام التضليل الإعلامي بقوة منذ اليوم الأول في سوريا، ويوم اخترقت روسيا الانتخابات الأمريكية والغربية، أما السماح لروسيا ودعايتها الإعلامية بنشر الأكاذيب والأضاليل لعقد أو أكثر، ثم الانتفاض اليوم لتفكيك الطلاسم الإعلامية الروسية، فهذا حينها هو كيل بمكيالين تضرب مصداقيته الإعلام والسياسة الغربية، بالإضافة إلى أنه يكون مثل هذا التضليل قد كسب أرضية ليس من السهل محوها بفترة قصيرة.
الآن يتعين على المؤسسات الإعلامية وعلى الإعلاميين المهنيين مسؤولية كبيرة في تفكيك الكذب والتضليل الروسي ليس في أوكرانيا، وإنما في سوريا وغيرها، للتكفير عن ذنبه وخطئه أولاً، وخدمة للرسالة والمهنة الإعلامية ثانياً، فضلاً عن خدمة للأجيال الراهنة والمستقبلية، فقصف العقول يسبق قصف الأجساد.