تعيش مدينة
إدلب السورية الواقعة على الحدود التركية أكثر أيامها ذكراً وشهرة، بعد أن حرص النظام الطائفي في عقود حكمه على طي اسمها، بل ووصل به الأمر إلى اعتبارها ضمن المدن السورية المنسية على شاشات تلفازه، لكن الثورة السورية التي انحصرت حالياً في هذه المدينة رفعت ذكرها وشأنها، خصوصاً وأن الأحرار من كل
سوريا الذين رفضوا العيش في جلباب الاحتلال والاستبداد فرّوا إليها، وأقاموا فيها الآن، وهم يشكلون سوريا المصغرة واقعاً وفعلاً بعد أن هجر أهالي المدن الرئيسة مدنهم هرباً بأنفسهم وبأهليهم، فاستوطنوا فيها.
حالة من الفرح والسرور تنتاب أهالي مدينة إدلب، مقيمين ومهاجرين لتطورات الأوضاع في أوكرانيا، فكما يقال بأن المظلوم للمظلوم قريب، والمقهور للمقهور نسيب، فكيف إن كان الظالم لهذا المظلوم هو نفسه لكلا المظلومين السوري والأوكراني، فبكل تأكيد فإن فرح السوري حينها بمعاقبة وبخسائر الظالم الروسي ستكون أشد فرحاً وسروراً. السوري هنا في إدلب يرى في تصعيد الأوضاع في أوكرانيا وغوص الروس في الوحل الأوكراني ودعم القوى الغربية للمقاومة فيها ضد الغزاة الروس بصيص أمل في إشغالهم عن إدلب وسوريا بشكل عام، مما قد يوفر فرصة للثوار هنا للانتقام من النظام الطائفي بعيداً عن دعم الغزاة الروس.
الزائر لمدينة إدلب هذه الأيام يرى حياة أقرب إلى الطبيعية، إذا استثنينا المخيمات التي تحفّ بريفها، أما إن تحدثنا عن الحياة اليومية التي تعيشها المدينة، وريفها في القرى والبلدات المنتشرة حولها، فيرى الزائر بسطاً لحالة من الأمن والاستقرار وفّرها جهاز الأمن العام، وحكومة الإنقاذ المحلية التي تشكلت عام 2017، فاستطاعت مع مرور الوقت بسط حالة من الأمن، مكنت المواطن العادي من السير حتى في منتصف الليل من باب الهوى إلى آخر نقطة في المحرر، دون أن يخشى أحداً، لا سيما بعد نجاح جهاز الأمن العام في تفكيك خلايا تنظيم الدولة في الشمال المحرر، عبر مداهمة أوكاره، فقتل من قتل واعتقل من اعتقل، وهرب منهم من هرب، الأمر الذي وفّر حالة من الاستقرار والأمن يتباهى به كل من يقيم هناك.
وتمكن معه الجهاز من ملاحقة اللصوص الذين كثروا في الفترة الأخيرة، لا سيما سُراق السيارات والدراجات النارية، ونجح الجهاز وبقوة في فرض سلطته، والقبض على الكثير من اللصوص والسراق، واستعادة المسروقات لأهلها، ولكن الجهاز هذه الأيام يخوض حرباً مع مروجي ومتعاطي المخدرات وتحديداً حبوب الكبتاغون الذي يسعى النظام الطائفي إلى إغراق المحرر بها، مما يشكل تحدياً حقيقياً للجهاز في القبض على المروجين، وسجن المتعاطين، وحتى التفكير في فتح مصحات لهم، ومشاف لمعالجة المدمنين.
لا يزال السوريون يذكرون كيف استقبلت مدينة إدلب حافظ الأسد عام 1970، حين استقبلته بقذفه بالبندورة والأحذية، فأصرّ هو وابنه القاصر بشار الكيماوي على قرنها دائماً في التلفزيون الرسمي بالمدن المنسية. وبذل أهالي إدلب خلال انتفاضة الثمانينيات جهداً كبيراً لإسقاط النظام المؤسس، فاحتشدوا في مظاهرات صاخبة ضد المقبور حافظ الأسد، وهتفوا مع مدينة حلب التي كانت السباقة في الخروج بالمظاهرات منذ تلك الأيام ضد حكم الأسد، كما شارك شباب مدينة إدلب في عمليات نوعية ضد الحكم الأسدي خلال تلك الفترة.
حديث مدينة إدلب اليوم هو حفظ القرآن، والإجازات التي يحصل عليها الشاب في حفظ القرآن والمتون، فقلما يخلو مجلس دون الحديث عن ذلك. ويتفاخر أهالي إدلب بان ريف المدينة قرب معرة النعمان يضم ضريح الخليفة الأموي الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه الله، حيث تجدد إدلب اليوم - كما تقول بعض نخبها وعلمائها - سيرة أيامه يوم كان الناس يتفاخرون بكم حفظ أحدهم من القرآن والسنة. ففي احتفال بمسجد من مساجد بلدة تفتناز تجد أكثر من 500 قارئ للقرآن الكريم، حيث شاركت في الحفل خمسة مساجد من مساجد البلدة، وعلى مثل ذلك، حال البلدات والمدن في الشمال السوري المحرر بشكل عام.
تشكل جامعة إدلب وبكافة التخصصات معلَماً وصرحاً حضارياً ثورياً لافتاً، حيث تضم هذه التخصصات أكثر من عشرين ألف طالب وطالبة، ويشرف عليها جهاز تدريسي مميز، كان قد انشق معظمه من جامعات النظام السوري والتحق بمناطق الثورة. أما على صعيد المدارس فتنتشر في كل أرجاء المحرر، بكادر تدريسي مميز، ينقصه فقط الرواتب بعد أن توقف الدعم الدولي عن العملية التعليمية، ومع هذا يواصل المدرسون عملهم بدون رواتب على أمل أن يتم دفع رواتبهم قريباً. وبجانب هذه المدراس ثمة مدارس مميزة تضم علمي الدين والدنيا، وهي مدارس الوحي الشريف، وهي مدارس مستوحاة من غزة، وتنتشر في 42 مدرسة وتضم كادراً وطلبة مميزين.
أكثر ما يلفتك في مدينة إدلب الهادئة الجميلة، وقوعها وسط حقول أشجار الزيتون التي يقدر عدد أشجارها بخمسة ملايين شجرة، فضلاً عن أشجار المشمش والدراق والجوز ونحوه، بينما يشق ريفها الغربي نهر العاصي الجميل المتجه نحو تركيا، إذ تنتشر على جنباته القرى والبلدات، كدركوش التي تذكرك وكأنك في فينيسيا الإيطالية، حيث النهر يشق المدينة، وتحف به أشجار التوت والجوز والمشمش، مع أجواء رومانسية في غاية الروعة والجمال، لا سيما في الصيف والربيع، حيث المطاعم المشرفة على النهر الجميل.
تقدم حكومة الإنقاذ بوزاراتها المتعددة خدمات معقولة للسكان وفقاً لإمكانيات والقدرات التي لديها، وعلى رأس هذه الخدمات الكهرباء التي تم استجرارها من تركيا، وقد تم تزويد المدينة بالكامل، وكذلك بلدات الريف الإدلبي، تضاف إليها خدمات النظافة، وتنظيم العقارات، والسجلات المدنية، والمخافر، والمشافي ونحوها.. مما أثار جواً معقولاً من تسيير الحياة في ظل الظروف القاسية التي يعيشها المحرر.
وتوفر البوابة التركية من خلال باب الهوى فرصة للسوريين للإطلال على العالم الخارجي، الذي يعد أيضاً بوابة للأخير نحو السوريين.