لم يكن مستغرباً تناول حادثة الطفل
ريان المغربي، من زوايا متعددة، بعضها يخضع للاستقطاب، وذلك لسببين رئيسين؛ الأوّل اتساع مساحات النقاش العامّ مع تعاظم المنابر الشخصية التي تتيحها التقنيات الحديثة، ومن ثمّ تكثّف الآراء المتجلّية عن النوازع النفسية والفكرية في مساحات تفرض نفسها أمام الرصد والملاحظة والاشتباك، وما يتصل بذلك من سيولة فكرية غير مسبوقة تتسم بقدر كبير من الحيرة والهشاشة، والثاني التشظي العربي في مستويات متعددة من القضايا والخصومات والاختلافات، لتتقدم سجالات، من قبيل نقد الأنظمة وقصورها وآليات اشتغالها وأدوات خطابها في حوادث من هذا النوع، أو أسئلة تفحص في أسباب التركيز على هذه الحادثة من بين العديد من المآسي التي تضرب في الاجتماع العربي كله من أقصاه إلى أقصاه، وذلك إلى خلف
التعاطف العام الذي أريد به في النقاشات التأكيد على مفاهيم وحدة الأمّة وتداعيها بالتراحم.
لستُ أدري، في قلب هذه السجالات، إذا كان قد تقدّم سؤال الأخلاق الفردي، لينافس تلك الأطروحات ذات الطابع السياسي بالدرجة الأولى. والتساؤل هنا دافعه التحفّظ من التورّط في حكم خاطئ لعلّ منشأه قصور في المتابعة، بيد أنّ هذا السؤال من الضروري أن يأخذ موقعه لا في السياق الوعظي فحسب باستثمار الحادثة، ولكن في محاولة فهم ميكنزمات التفاعل الإنساني مع حوداث كهذه في زمن اتساع القدرة الاستعراضية للفرد. فالمقارنة بين المسلكية الأخلاقية الفردية في الحياة غير الاستعراضية وبين الخطابات العامّة في منابر تعظيم القدرة الاستعراضية؛ قد تساعد في تشكيل مفتاح لفهم تلك الآليات ودوافعها.
المقارنة بين المسلكية الأخلاقية الفردية في الحياة غير الاستعراضية وبين الخطابات العامّة في منابر تعظيم القدرة الاستعراضية؛ قد تساعد في تشكيل مفتاح لفهم تلك الآليات ودوافعها
في الإسلام لا انفكاك بين المسؤولية الفردية وبين المسؤولية العامّة، فالالتحام بالهمّ العامّ في الدنيا طريق الخلاص الفردي في الآخرة: "كُلُّ نَفسٍ بِما كَسَبَت رَهينَةٌ"، "وَأَن لَيسَ لِلإِنسانِ إِلاّ ما سَعى"، فحفلت التوجيهات الدينية بتعظيم النفع الفردي في الإطار العام، ولو بالابتسامة، وإرشاد الرجل في أرض الضلالة، والتبصّر للرجل رديء البصر، وإماطة الحجر والشوكة والعظم عن الطريق، والإفراغ من الدلو في دلو الأخ.. والنصوص في ذلك حافلة يصعب حصرها، وهي تلاحظ البداية الفردية في المسؤولية، اندراجاً في النفع العام، ابتداء من هذا المستوى، وصولاً إلى الصورة العمومية الأوضح، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يقتضي ذلك الحضور الدائم للإحساس الضخم بعظم المسؤولية الفردية، على نحو ملازم لا ينفكّ عن الفرد، بلوغاً إلى أن يكون سمة لجماعة المؤمنين كلّها، مما يعني أن هذا الحضور يحتاج حالة لحوحة وصبورة من المجاهدة والمكابدة، في دفع الشحّ، وتجاوز الأنانيات: "يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا كونوا قَوّامينَ بِالقِسطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَو عَلى أَنفُسِكُم أَوِ الوالِدَينِ وَالأَقرَبينَ.."، فلفظ "قوامين" يقتضي الملاحظة الدائمة لأجل الملازمة وعدم الإخلال. والخطاب للمجموع ولكنه يبدأ من المسؤولية الفردية بالشهادة على النفس، ثم على الأقربين، وصولاً إلى الشهادة بالقسط حتى مع العدوّ!
يغيب هذا المعنى كثيراً في طرفي الأمر، من الفرد إلى الجماعة، فالشحّ وتضخّم التمركز حول الذات، قد يحول دون رؤية الحقّ لآخر بات في محلّ خصومة، ففي حين أن من أسباب التعاطف الظاهر مع الطفل ريان كونه طفلاً، فإن عشرات الآلاف من
الأطفال قد قُطعوا عن آبائهم، وحرموا اتصال بنوّتهم لهم، فضلاً عن إحاطتهم بالفقر ودفعهم للعوز والحاجة، بسبب قتل هؤلاء الآباء أو سجنهم، أو حصارهم اقتصاديّاً، لمجرد رأيهم السياسي، أو لمجرد اختلال المنظومة العدلية في الدولة أو في المجتمع. وهنا يتداخل الفردي بالعامّ، فإنفاذ هذا
الظلم يحتاج جنوداً أفراداً، يعملون لصالح منظومة ظالمة، أو أفراداً سلبيين في جماعة أو مجتمع يتسع فيهما الخلل. ومن بين هؤلاء لا بدّ وأنّ الآلاف قد تفاعلوا مع حادثة الطفل ريّان، دون أن يشعروا أنهم يوقعون قهراً على أطفال وأسرهم، قد يفوق القهر القدَري المحفوف بالقصور الإداري الذي وقع على الطفل ريان وأسرته!
نلاحظ في بيئاتنا الاجتماعية المحيطة العديد من المآسي الناجمة عن أصناف من هذا الظلم، بعضها خفي، وخفاؤها قد ينطوي على دليل السلبية وقصور التآلف غير الاستعراضي، وهي بذلك أوسع من ظلم الدولة وجنودها، وتقع حتى في الجماعات المظلومة، حينما تشرع في ظلم نفسها بنفسها
في مستويات أدنى، ولكنها نواة ممارسة المسؤولية الفردية، يوقع بعضنا القهر على الأطفال، بحرمان آبائهم من أجورهم، أو طردهم التعسفي من أعمالهم، أو حرمانهم من حقوقهم، دون حتّى الاستماع إليهم، أو التسوية المسبقة معهم، وكثيراً ما يكون ذلك بالاستناد إلى الانطباعات والظنون أو الأوهام، أو دون أن يحاول الأقدر في هذه العملية أن يضع نفسه ذهنيّاً مكان ذلك الذي وقع عليه الإقصاء أو الحرمان. ولذلك فإنّ التوجيهات الدينية، في الإسلام تبدأ من هذه النواة، بألا يبيع الأخ على بيع أخيه، وألا يخطب على خطبته، ثمّ جاء النهي عن الظنّ، والتجسس، والتحسس (وهو ضرب خفي من التجسس)، والتباغض، والتدابر، وأن يخذل المسلم أخاه أو أن يسلمه، فمن فشل في الأدنى فهو في الأعلى أفشل.
نلاحظ في بيئاتنا الاجتماعية المحيطة العديد من المآسي الناجمة عن أصناف من هذا الظلم، بعضها خفي، وخفاؤها قد ينطوي على دليل السلبية وقصور التآلف غير الاستعراضي، وهي بذلك أوسع من ظلم الدولة وجنودها، وتقع حتى في الجماعات المظلومة، حينما تشرع في ظلم نفسها بنفسها، كما شاع في الاتهامات التي ظهرت في بعض الجماعات (كإخوان مصر) بعد انكسار الثورات العربية، عن مظالم وقطع مخصصات وما شابه، وهو أمر يثير الدهشة بقدر ما يدمي القلب!
هذا الاستدعاء لفحص المسؤولية الفردية، ووضعها على المحكّ في مواضع الاستعراض الأخلاقي؛ لا يقتضي الانتقاص من حالة التعاطف العامّة، ولكنه ضروري ليضع المرء نفسه أمام مرآته، في سبيل حالة عامّة أكثر صدقاً.
twitter.com/sariorabi