عرفت الجزائر منذ استقلالها سبعة رؤساء جمهورية «منتخبين» هم على التوالي أحمد بن بلة (1962-65) هواري بومدين (1965-1978) الشاذلي بن جديد (1978-1992) لمين زروال (1995-1999) عبد العزيز بوتفليقة (1999-2019) وعبد المجيد تبون، الذي ما زال في بداية عهدته (2019) زيادة على من احتل موقع رئاسة الدولة خلال الظروف الاستثنائية التي عاشها البلد، كما هو حال رابح بيطاط وعلي كافي ومحمد بوضياف ولمين زروال عند وصوله للسلطة في 1994 قبل انتخابه.
رؤساء الدولة الذين اختيروا لأداء هذه الوظيفة الحساسة، نتيجة ما يملكون من شرعية ثورية أهلتهم لاحتلال موقع رئيس الدولة في ظروف استثنائية، بعد وفاة الرئيس او استقالته، كما حصل في مثل هذه الأيام من يناير/كانون الثاني 1992 عندما وجدت الجزائر نفسها من دون رئيس ومن دون برلمان، بعد إلغاء نتائج أول انتخابات تشريعية تعددية فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، كما هو معروف. وهو ما حصل من جديد في 2019 عندما تم تعيين رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح لأداء هذه الوظيفة بعد إبعاد بوتفليقة.
كان أول من اعترف بأنه لم يكن مؤهلا لأدائها، لولا الظروف التي حتّمت عليه ذلك، لنكون بذلك أمام أهم المحددات المفسرة لضعف أداء الرئيس الجزائري.. مؤهلاته الشخصية المتواضعة ومستواه التعليمي الأضعف وقلة حيلته وظروف وصوله الى السلطة.
هذه الوضعية التي عاشتها الجزائر من دون رئيس أكثر من مرة، هي التي سنستغلها للحديث عن رؤساء الجزائر لمعرفة كيف ينظر اليهم الجزائريون، وكيف قيموا أداءهم وكيف تعاملوا معهم وهم في السلطة وهم بعيدون عنها، وما هي المكانة التاريخية التي منحت لهم في نهاية الأمر، ضمن هذا المسار السياسي المضطرب؟ رؤساء اختلف الجزائريون حولهم كثيرا لدرجة تصفيتهم الجسدية، كما حصل مع بوضياف في صيف 1992، بعد ستة أشهر فقط من تعيينه في تلك الظروف الصعبة التي عاشها البلد، بعد إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية وظهور البدايات الأولى لما يشبه حربا أهلية طاحنة. محطات تاريخية صعبة أخرى عاشها الرئيس الجزائري، كما كان الأمر مع بن بلة، الذي تم الانقلاب عليه ليقضي أكثر من عقد كامل من حياته في السجن.
حال رؤساء آخرين لم يكن أحسن، إذا عرفنا الاستقالة التي فرضت على الرئيسين الشاذلي بن جديد 1992 من قبل المؤسسة العسكرية، وبوتفليقة الذي أبعده الحراك الشعبي 2019 بعد تخلي المؤسسة العسكرية عنه، وهي التي جاءت به للسلطة كأغلبية رؤسائنا، إذا استثنيا بومدين الذي جاء بقوة دفع ذاتي كان هو على رأسها.
الشرعية الشعبية الكبيرة التي كان يتمتع بها الرئيس بن بلة، لم تضمن له البقاء كرئيس بعد قرار المؤسسة العسكرية، وجزء مهم من النخب السياسية التخلي عنه، كما سيحصل لكل الرؤساء الذين أبعدوا بعد ذلك، بعد تركهم يراكمون الأخطاء والقرارات السلبية، ليتدخل صاحب القرار العسكري لحسم الأمر في نهاية المطاف، وهو ما جعل رؤساء الجزائر لا يصمدون طويلا في موقعهم على رأس الدولة، فالرئيس بن بلة على سبيل المثال، أحرق جل أوراقه بسرعة خارقة وهو يراكم الأخطاء القاتلة، التي جعلته يبقى معزولا ووحيدا، عندما جاء العسكر لتوقيفه ليلا في مقر سكنه، بعد أن سجن من سجن ونفى من نفى من رفاقه الذين لم يجد أي واحد منهم بالقرب منه ليدافع عنه أو يحميه، ليثبت بن بلة أنه لم يكن مؤهلا أصلا لاحتلال موقع الرئاسة، لولا الظروف المعروفة التي جاءت به.
عكس بومدين الذي خطط وناور منذ مدة طويلة للوصول، ليستمر في موقعه لوقت طويل، كان يمكن أن يكون أطول لولا المرض، لتبقى الصورة الشعبية إيجابية في الغالب عندما يتعلق الأمر بالرئيس بومدين، عكس بن بلة الذي عادته أكثر النخب العسكرية والسياسية، التي لم يعرف كيف يتعامل معها، فخسرها من دون أن يربح الشعب الذي لم يعرف كيف يستغل تجنيده السياسي القوي الحاضر خلال هذه الفترة، بُعيد الاستقلال مباشرة.
ترك بومدين وضعا سياسيا واقتصاديا معقولا جدا للرئيس الشاذلي الذي أتى بعده. كان مقررا ان يُحسن في أدائه وهو يحافظ على إيجابياته، لا أن يفككه ويدخله في الحيط، كما تقول اللغة الشعبية.
الغريب هنا في حالة الشاذلي بالذات أن الصورة الشعبية ما زالت على العموم إيجابية حوله، رغم أنه وجد عندما وصل، بلدا مستقرا وفي حالة اقتصادية معقولة، كان يمكن ان تُعدل وتتجه الجزائر نحو الأحسن، بدل ذلك تركها على أبواب حرب أهلية وانهيار اقتصادي.
هنا كذلك، كما كان الحال مع بن بلة، المؤهلات الشخصية المنعدمة تقريبا تفسر الكثير، بعد أن اكتفى هذا الرئيس الذي لم يكن مُحبا للعمل والجهد، بتوظيف حواسه كأدوات عمل واستغلال أخطاء التجربة البومدينية، من دون أي إضافة، باستثناء ربما الصورة الشخصية الهادئة وأب العائلة التي اقترحها على الجزائريين.
تميزت الفترة الطويلة التي قضاها بوتفليقة على رأس الدولة بالخاتمة السيئة التي ترك بها السلطة، كان يمكن أن توصله الى السجن، الذي عوضه داخله أخوه المستشار. بوتفليقة الذي امتلك شروطا موضوعية لم يحصل عليها أي رئيس جزائري سابق، أهدرها كلها نتيجة لما ميزه من – أكاد أقول عاهات نفسية ـ فقد كان أمامه وقت طويل لتحقيق كل الإصلاحات التي يتمناها أي رئيس، زيادة على الوفرة المالية والتعقل الذي طرأ على الجزائريين بعد تجربة العنف.
هنا كذلك نجد أنفسنا في حالة بوتفليقة أمام حالة شخصية ظهرت على شكل تشبث مرضي بالسلطة واستعلاء وكسل ارتبط بشخصيته منذ تجربة وزارة الخارجية الطويلة، وغيرها من الأمراض النفسية التي عايشها الجزائريون لمدة عشريتين.
ليكون الرئيس الوحيد حتى الآن الذي خرج الجزائريون للمطالبة بإبعاده عن السلطة بشكل جماعي لا غبار عليه، لم يجد أي دعم جدي من المنتفعين من فترة حكمه الذين تواروا عن الأنظار بسرعة فائقة، بمجرد سقوطه.
صورة للرئيس الجزائري والأثر الذي تركه تبين بشكل أساسي، أننا أمام مستويات عدة من المحددات منها ما يميز شخصه من خصائص قد تساعده وقد لا تكون لصالحه، كما كان الحال في أغلب الحالات، زيادة على موقف المؤسسة العسكرية التي تترك المجال لبعض النخب السياسية قليلة العدد للتعبير والدفاع عنه، لتحسم بقاء الرئيس لاحقا على رأس السلطة.. رئيس ما زال مهما جدا قبل وبعد المؤسسات في نظام سياسي يترك مجالا كبيرا لشخص الرئيس، قبل ان يحاسب ويُبعد بشتى الطرق. مهما كان الموقف منه في بداية عهدته ومهما كانت طريقة وصوله. فالعبرة في نهاية الأمر بالخواتيم.
عن القدس العربي