بذل الفكر الإسلامي جهودا معتبرة في بداية الستينيات والسبعينيات في التفاعل مع الفلسفة الليبرالية، ومع بعض مفرداتها التي تطرح تحديا فكريا وقيميا على المرجعية الإسلامية، واهتمت عدد من الكتابات الفكرية الإسلامية بالجواب عن سؤال المساواة بين الجنسين، وذهب البعض منها إلى التأصيل لهذا المفهوم من داخل المرجعية الإسلامية، فيما ذهب البعض الآخر، إلى التدقيق في هذا المفهوم، وتمييزه عن التماثل، واستحضار مفهوم التمييز الإيجابي لصالح المرأة، وكذا التمايز في الوظائف، للجواب عن سؤال التباين في النظر إلى حقوق الجنسين في بعض مقتضيات الشريعة ورؤيتها لأدوار كل منهما.
وعرفت مرحلة الستينيات والسبعينيات وبداية الثمانينيات نوعا مستقلا من الكتابة في الفكر الإسلامي، تم تخصيصه للرد على الشبهات، وألفت كتب مستقلة في هذا المجال، مثلما ما فعل محمد قطب رحمه الله في كتابه "شبهات حول الإسلام"، والذي خصص بعض فصوله للإجابة عن التحديات التي يطرحها مفهوم المساواة بين الجنسين الذي حملته الليبرالية العربية، ودفعته لساحة التداول الفكري والثقافي.
وقد عرف الفكر الإسلامي طورا آخر من التفاعل مع هذا المفهوم، غداة الانشغال بتأصيل فكرة المشاركة السياسية والاندماج في البيئة السياسية، إذ تركز الاهتمام على تأصيل فكرة المشاركة السياسية للنساء، وتطوير تمثيليتهن في المؤسسات السياسية، فبدأت مراجعة الرؤية التقليدية التي كان يحملها الفكر الإسلامي عن أدوار المرأة التربوية، لجهة تأصيل مساواتها للرجل في الفرص الاقتصادية والاجتماعية، وتقلدها لعدد من المسؤوليات والمناصب، مع استثناء بعض المناصب المخصوصة، التي وردت بشأنها بعض النصوص الشرعية، مثل الإمامة العظمى وما يدخل في جنسها، وذلك بحسب التأويل الذي يذهب إليه مفكرو الإسلام.
والواقع، أن هذا التأصيل، كان يروم في الأصل الاقتراب من حقل المشاركة السياسية، وبذل الجهد من أجل الاندماج مع البيئة السياسية، وما يتطلبه ذلك من إبداء بعض المرونة اتجاه مفردات الفكر السياسي الغربي، وسحب بعض الأوراق التي كان يعتمدها الخصوم لإرباك مشاركة هذا الطيف الفكري والسياسي في معترك السياسة، ولذلك، لم يتمكن من تعميق نظره، ومد أفقه لما يمكن أن يؤول إليه مفهوم المساواة بين الجنسين، من مجرد مفهوم مبدئي يتعلق بالمساواة بين الجنسين، إلى فلسفة، تنطلق من خليفة فكرية عميقة، تتمخض عنها رؤى تمتد إلى مختلف الحقول، التربوية والاجتماعية، والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية، ويتأسس على أرضيتها تيار نسواني عالمي، يمتلك آليات الضغط والتأثير في القرار، وتستغل مطالبه من لدن حكومات وجمعيات مدنية غربية، للضغط على الحكومات العربية، لتغيير أطرها الدستورية والقانونية والتشريعي، فضلا عن أنماط في ثقافتها والأدوار الاجتماعية للجنسين.
من المساواة بين الجنسين إلى الجندرية
ليس القصد من هذا النقاش، هو تتبع تطور الجندرية، وكيف انتقل المفهوم من المساواة بين الجنسين، إلى طرح مفهوم الجندر أو الهوية الجندرية، إنما القصد أن يتضح حجم التحدي المطروح على الفكر الإسلامي المعاصر أولا، ثم التنبيه إلى حالة العطالة الفكرية، التي أصابت العقل المسلم، ومنعته من الاشتباك مع هذه الرؤى، التي أصبحت تتسرب إلى المجال التداولي الثقافي الإسلامي، وتتأسس في المنظومة التربوية، دون أن تكون له القدرة على الجواب عنها أو التفاعل معها.
بالأمس القريب، كان الاشتباك يتم بين تصورين، الأول يرى أن الجنسين يحملان نفس الحقوق، وأنه لا يمكن بأي اعتبار من الاعتبارات الدينية أو الإثنية أو اللغوية تبرير التمييز بينهما، وبين تصور آخر، يقر بالمساواة، لكنه يرفض القول بالتماثل، لما يمكن أن يترتب عن ذلك من زعزعة الأدوار الاجتماعية، ومصادمة المرجعية الإسلامية وهدم البناء الأسري.
لكن مع الثقافة الجندرية، تغير المفهوم تماما، فالذكر والأنثى، ضمن هذه الفلسفة (فلسفة النوع)، ما هو إلا الوصف الخارجي للتباين في الأعضاء التناسلية، في حين، تتحدد الهوية الجنسية بالاختيار، ولا يمكن الاستسلام للأدوار الاجتماعية التي أنيطت بالذكر أو الأنثى، لاعتبارات أملتها الشروط الثقافية أو الاجتماعية أو الدينية أو السياسية، ومحاولة ترسيمها كما ولو كانت وظائف ثابتة للمرأة أو للرجل.
وهكذا، لم يعد هناك أي التقاء ولو جزئي بين الجندرية وبين الفكر الإسلامي المعاصر، بخلاف ما كان بين هذا الفكر وبين الفلسفة الليبرالية التي تتبنى مفهوم المساواة بين الجنسين، إذ وقع اللقاء بينهما في عدد من القضايا، وضاقت مساحة الاختلاف إلى حدود كبيرة مع المراجعات التي بذلها الفكر الإسلامي المعاصر لتسويغ فكرة الاندماج في البيئة السياسية ودعم مشاركة المرأة السياسية.
تتمثل الفلسفة الجندرية في كونها لا تفضي مباشرة إلى مترتباتها (تسويغ المثلية الجنسية، والتحول الجنسي)، حتى تبني مفاهيمها بتدرج، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى المناهج التربوية، إذ تسعى إلى تثبيت هذه المفاهيم بالاستعانة بمنهجية بناء المفاهيم (من البسيط إلى المركب)، والتمدد في عدد هائل من الحقول المعرفية الاجتماعية، لاكتساب شرعية واسعة.
بيان اتساع الشقة بين الفكر الإسلامي المعاصر والجندرية واستحالة لقائهما من جانبين، أولهما، أن الهوية الجنسية لم تعد تتحدد بالذكورة والأنوثة التي تظهر مع الولادة عند ملاحظة التمايز بين الأعضاء التناسلية للذكر والأنثى، وإنما تتحدد بالميولات والاختيارات. وثانيهما، أن الوظائف والأدوار التي يؤكد الفكر الإسلامي اختلافهما بين الذكر والأنثى، هي في الفلسفة الجندرية، ليست مرتبطة بالطبيعة، أي بطبيعة الرجل وطبيعة المرأة، وإنما هي أدوار فرضها السياق، أو الشرط الديني أو الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي، وأن تغير هذا الشرط يفرض حتما تغير هذه الأدوار. فبقاء المرأة في البيت، ورعايتها للأطفال، وقيامها بأعباء الأسرة، حسب الجندرية، ليس اختصاصا وظيفيا للمرأة، تنفرد به لخصوصيات فطرية، وجدت في طبيعتها للقيام بهذه المهمة، وإنما هي واجبات فرضت عليها بسبب من سلطة الرجل، والسياق الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي أملى الهيمنة الذكورية.
وهكذا، وتبعا لهذه التحولات في فلسفة المساواة، أو بالأحرى في المآل الذي انتهت إليه (الجندرية)، أصبح الفكر الإسلامي المعاصر يواجه إشكالات جديدة وتحديات أكثر خطورة من السابق، اضحت تحتاج قدرا كبيرا من المواكبة ورصد الحجج وتأصيل النظر في المرجعية الإسلامية لتأمين تفاعل أعمق، وقدرة فكرية على إنتاج الأجوبة، إذ لا يكفي في هذا السياق الحجاجي، نقد بعض المخرجات الأساسية لهذه الفلسفة، أي المثلية الجنسية، والتحول الجنسي، ولكن، يفترض أن يتم رصد مختلف مظاهر هذه الفلسفة في بنائها الفكري، ومفاهيمها التربوية التي يتم بناؤها في مناهج التربية والتكوين.
تحديات المفاهيم التربوية الجندرية
تتمثل الفلسفة الجندرية في كونها لا تفضي مباشرة إلى مترتباتها (تسويغ المثلية الجنسية، والتحول الجنسي)، حتى تبني مفاهيمها بتدرج، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى المناهج التربوية، إذ تسعى إلى تثبيت هذه المفاهيم بالاستعانة بمنهجية بناء المفاهيم (من البسيط إلى المركب)، والتمدد في عدد هائل من الحقول المعرفية الاجتماعية، لاكتساب شرعية واسعة.
فعلى المستوى الأول، تقدم مناهج تدريس اللغة الإنجليزية في المراكز اللغوية الأمريكية، نماذج مهمة من هذا التدرج في البناء، إذ يتم البدء بطرح أسئلة جدلية تتعلق بالرجل والمرأة، و الألوان التي يلبسها كل واحد منهما، ومن يلبس الألوان الناعمة، ومن يلبس الألوان الداكنة والخشنة، ولماذا تلعب البنات بالدمى بينما يلعب الذكور باللعب العنيفة، ولماذا لا تخرج المرأة من البيت إلا لضرورة، بينما يتمتع الرجل بحق الخروج في كل وقت، وهل قدر على المرأة أن تتخصص في بعض الوظائف كمضيفة في الطائرة وممرضة مثلا، وهل يحمل الرجل عقلا أذكى من عقل المرأة؟ ام يستويان في ذلك؟
فتتدرج المفاهيم إلى أن تصل إلى حقل القوانين والتشريعات، فيتم التساؤل عن القيود التي تجدها المرأة في العمل، وهل يجد الرجل مثلها؟ والقيود التي تفرضها القوانين والتشريعات على المرأة دون الرجل، ليصل الأمر في منتهى النقاش، إلى طرح الحق في التغيير القانوني للجنس، وهل ذلك يتعلق بحرية شخصية بغض النظر عن الوضع القانوني لهذه القضية في كل قطر على حدة، بل إن حقل الصراع، يدخل حتى المعجم اللغوي، فتحاول هذه المناهج خلق صراع لساني بين الذكور والإناث حول الاستعمالات اللغوية، ولماذا تجعل بعض اللغات لفظ الرجل مهيمنا على المرأة ودالا عليها؟ ولا تجعل الخطاب إلى المرأة خطابا إلى الرجل؟ ولماذا حينما يراد التعبير عن الإنسانية باللغة الإنجليزية يتم استعمال لفظ الرجل، وحينما يتم التعبير عن أحد الجنسين يتم استعمال الضمير الذي يختص بكل جنس على حدة؟
لا نريد الاستطالة في هذه المنهجية البيداغوجية كما هي مستقرة في كتب تدريس اللغة الإنجليزية، فالقصد التنبيه إلى أن المعركة مع الجندرية، ليست بالسهولة التي يتصور البعض، وإنما يتطلب ذلك فتح الورش البيداغوجي، وتحريك معركة المناهج، بل ومعركة اللغة واللسان، حتى يتم بناء حجج قوية في التفاعل مع الأطروحة الجندرية.
فإذا تعدينا هذا الجانب المرتبط بحقل بناء المناهج التربوية وتأسيس المفهوم في تمثلات المتعلمين من أدنى مستوى تعليمي إلى أعلاه، يبرز مجال آخر أضخم تستغله الجندرية فيه لتقوية مفرداتها وتوسيع امتداداتها، ومحاصرة معارضيها، إذ تلجأ إلى حقول العلوم الاجتماعية، مستعينة بتقنية الإحصاءات والاستطلاعات والاستمزاجات الاجتماعية، فضلا عن الدراسات النفسية والاجتماعية والسياسية، لتجعل من المظلومية النسائية، نقطة انطلاقها لتسويغ الجندرية.
تركز تقنية الإحصاءات على مراقبة وضع المرأة، والتمييز الحاصل ضدها في مختلف المواقع التربوية والاجتماعية، وداخل المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية، فيما تركز الدراسات النفسية على إبطال فكرة اختصاص المرأة بوظيفة التربية وتحمل أعباء البيت، ونفي أي طبيعة فطرية لها تربطها بمهام معينة، لتخلص من ذلك إلى أن الأدوار المنوطة بالجنسين، هي فكرة ثقافية أو دينية، أو واقع أملته السياسة والشروط الاقتصادية والاجتماعية.
وتركز الدراسات الاجتماعية على التحولات الاجتماعية والاقتصادية، وأثرها في تغيير وظائف المرأة، وتقوية وجودها كفاعل اقتصادي، وتركز الدراسات التي تهتم بالأسرة، بتغير أدوار المرأة داخل هذه البنية الاجتماعية، وحدوث انعطافة مهمة لجهة تحولها إلى المعيل الأول للأسرة لإبطال مفهوم القوامة الإنفاقية. في حين تركز دراسات أخرى، تهتم بالبيئة السياسية، برصد تموقع المرأة داخل المؤسسات، وتفسير سبب ضعف تمثيليتها السياسية، وحضورها في المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، وحصر القيود الدستورية والقانونية والتشريعية، وترشيحها لكي تكون مادة الضغط السياسي والمدني، حتى يتم تعديلها وتغييرها.
مهام عاجلة للفكر الإسلامي المعاصر
تتطلب هذه التحديات أن يبدأ الفكر الإسلامي المعاصر ببذل جهد واسع في فهم الظاهرة، وفهم محدداتها وآليات اشتغالها، فالعنصر الأساسي في الفلسفة الجندرية، يقوم على بث الصراع بين الجنسين، واستثمار نتائجه، لبناء طرح فكري جديد يتجاوز الجنسين معا، ويؤسس لفلسفة النوع.
يتطلب الأمر في البدء، العكوف لفهم هذه الظاهرة، ومسار الانتقال من مفهوم المساواة الليبرالي، إلى مفهوم الجندرية الراديكالي، والحجج الفكرية التي يتأسس عليها هذا المفهوم، والأشكال التي يتذرع بها لبناء قاعدته في مناهج التربية والتكوين، والحقول المعرفية التي يتوسل بها بتوسيع امتداداته، والشكل الذي يتم فيه الانتقال من المفاهيم، إلى القانون والدستور والسياسة، والأدوات التي يتم بها تحريك هذه المفاهيم، لبناء لوبيات ضاغطة من المجتمع المدني، والمجتمع السياسي، وكيف تستقبل النظم العربية الحاكمة هذه الأشكال من الضغط، وكيف تتجاوب معها وتتحايل ضدها.
تتطلب هذه التحديات أن يبدأ الفكر الإسلامي المعاصر ببذل جهد واسع في فهم الظاهرة، وفهم محدداتها وآليات اشتغالها، فالعنصر الأساسي في الفلسفة الجندرية، يقوم على بث الصراع بين الجنسين، واستثمار نتائجه، لبناء طرح فكري جديد يتجاوز الجنسين معا، ويؤسس لفلسفة النوع.
معركة الفهم أساسية، حتى يتم الفصل الإجرائي، بين المفهوم في حقله الفكري والمعرفي، والمفهوم كما يجري توظيفه واستعماله في حقل السياسة، لتأتي بعدها معركة جدية، تتعلق بحصر الأوليات الفكرية، والمفاهيم الفلسفية، والتدقيق في الحجج، والكشف عن تناقضاتها، قبل الانتقال إلى معركة المساجلة الفكرية، وعرض هذه المفاهيم على المرجعية الإسلامية، أو القيام بمراجعات في الفكر الإسلامي تمكن من المناظرة الفكرية لأصول هذه الفلسفة.
المؤسف، أن تفاعل الفكر الإسلامي المعاصر مع الجندرية، في أحدث تقليعاتها، لا يزال من حيث الحجم ضعيفا، ومن حيث المضمون محدودا وسطحيا، إذ في الغالب ما تتركز المعركة في دائرة ضيقة، هي المجال الجنسي والأخلاقي، أي مقاومة المثلية والتحول الجنسي، في حين أن هذه القضايا، ما هي إلا إحدى المترتبات الجزئية الناتجة عن الجندرية، وأن جوهر الصراع مع الجندرية، ينبغي أن يأخذ أبعادا أوسع، مما يتعلق بالأسرة، والمجتمع، والوظائف والعلاقات الاجتماعية، ومصير النوع البشري برمته.
رأي في العلاقة بين إضراب الجوع وإضراب الوعي في تونس
الفيروس التاجي.. مراجعة لفلسفة الجسد والأخلاق والحرية معا
مفكر تونسي: هذه استراتيجية استئناف دور الإسلام في العالم