قررت سلطة الانقلاب اختتام السنة الإدارية بعملية أمنية صادمة لأغلب
التونسيين من سياسيين وحقوقيين وعموم المواطنين، حيث تمت عملية اختطاف للأستاذ المحامي نور الدين البحيري، نائب رئيس حركة
النهضة ورئيس سابق لكتلة الحركة في البرلمان. والحادثة كما ترويها زوجته تمثلت في اعتراض سيارتين رباعيتي الدفع لسيارتها، حيث كانت صبيحة الجمعة في الساعة الثامنة في طريقها للعمل برفقة زوجها، ثم نزل أعوان بالزي المدني يقتحمون عليهما السيارة بأسلوب عنيف وينهالون عليهما دفعا وضربا وسبابا، ويسحبون من الأستاذة سعيدة هاتفها ومفاتيح سيارتها، ويزجون بزوجها في إحدى السيارتين على مرأى من الجيران الذين تعرضوا بدورهم للتعنيف والشتائم.
العملية لاقت إدانة واسعة من المجتمع المدني والمنتظم السياسي والشخصيات الوطنية والحقوقية والقانونية، رغم صمت رابطة حقوق الإنسان وبرودة
موقف عميد المحامين الذي يتهمه البعض بكونه متواطئا مع سلطة الانقلاب، خاصة بعد قبوله زيارة البحيري في مقر احتجازه دون المساعدة على معرفة مكان الاحتجاز؛ مدعيا بأن أمنيين أخذوه للمكان بعينين معصوبتين، ولم يشارك زملاءه المحامين وقفتهم الاحتجاجية واعتصامهم بمقر هيئتهم.
حركة النهضة عقدت عشية الاختطاف مؤتمرا صحفيا قدمت فيه للرأي العام تفاصيل العملية، ثم أصدر مكتبها التنفيذي بيانا جاء فيه: "و يهم حركة النهضة أن:
1- تعبّر عن إدانتها الشديدة لعملية الاختطاف التي قامت بها عناصر بالزي المدني وما صاحبها من تعنيف الأستاذ البحيري وزوجته، بما يعيدنا إلى البلطجة السياسية النوفمبرية، كما يؤكد ذلك نفي الجهات القضائية أيّ علم لها بما حصل.
2- تحذّر حركة النهضة من الانجرار إلى مربعات الخروج عن القانون والانحراف بالسلطة، واستغلال الظرف الاستثنائي لمنظومة الانقلاب لتصفية الخصوم السياسيين.
الملاحظ أن عملية الاختطاف تمت خارج الإجراءات القانونية ودون علم الجهات القضائية المسؤولة، حيث نفت وكالة الجمهورية والنيابة العمومية ووزيرة العدل والمحكمة العسكرية أي علم لها بعملية الاختطاف
3- تعتبر أن استهداف الأستاذ البحيري يتنزل في إطار التنكيل بالشخصيات الرافضة للانقلاب، والحيلولة دون اجتماعها على مقاومة الانقلاب، والتخذيل عن التحرك المقرر ليوم عيد الثورة 14 جانفي، وتحويل وجهة أنظار الرأي العام عن القضايا الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والعجز عن إدارة شؤون البلاد، واستباق ردود الأفعال الغاضبة عن قانون المالية لسنة 2022، الذي يثقل كاهل المواطنين ويضع المالية العمومية في عجز غير مسبوق.
4- تحمّل حركة النهضة المسؤولية عن حياة الأستاذ البحيري لرئيس سلطة الأمر الواقع
قيس سعيد، ولوزير داخليته توفيق شرف الدين وكل المتورطين في هذه القضية. وتعلم أنها باشرت عبر فريق من المحامين الإجراءات القانونية اللازمة في الغرض".
والملاحظ أن عملية الاختطاف تمت خارج الإجراءات القانونية ودون علم الجهات القضائية المسؤولة، حيث نفت وكالة الجمهورية والنيابة العمومية ووزيرة العدل والمحكمة العسكرية أي علم لها بعملية الاختطاف، قبل أن تُصدر وزارة الداخلية بلاغا جاء فيه: "تُعلم وزارة الدّاخليّة أنه عملا بالقانون المنظّم لحالة الطوارئ، وخاصّة الفصل الخامس من الأمر عدد 50 لسنة 1978 المؤرّخ في 26 جانفي 1978 الذي يُخوّل وضع أيّ شخص تحت الإقامة الجبريّة حفاظا على الأمن والنّظام العامّين، تمّ اتّخاذ قرارين في الإقامة الجبريّة، وهو إجراء ذو صبغة تحفظيّة أملته الضّرورة في إطار حماية الأمن العامّ، وينتهي بانتهاء موجبه.
كما تؤكد الوزارة حرصها على التّقيّد بالضّمانات المكفولة بمقتضى الدّستور والتّشريع النّافذ، خاصّة من حيث توفير ظروف الإقامة الملائمة والإحاطة الصّحيّة اللازمة للمعنيين بهذا القرار".
لاحظوا أن البلاغ لم يذكر هوية أيّ من المحتجزين في الإقامة الجبرية!
العملية تطرح أسئلة عديدة:
أ- من هي الجهة التي تقف وراء عملية الاختطاف؟ هل هي جهة سياسية أم جهة أمنية، خاصة بعد التأكد من عدم وجود أي إذن قضائي بحق الرجل؟
ب- هل يكون قيس سعيد هو صاحب قرار الاختطاف، وهو الذي تعرض في خطاباته المتكررة للأستاذ نور الدين البحيري في عملية تحريض واتهام؟
هل شعر قيس سعيد باتساع دائرة المعارضة لانقلابه وإجراءاته الاستثنائية، خاصة وقد انفض من حوله الكثير من الحلفاء والأنصار
ج- هل شعر قيس سعيد باتساع دائرة المعارضة لانقلابه وإجراءاته الاستثنائية، خاصة وقد انفض من حوله الكثير من الحلفاء والأنصار، وفشل في تثبيت السابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر يوما وحيدا للثورة، بل وعجز عن زيارة محافظة سيدي بوزيد للاحتفال مع أهلها بذكرى الثورة كما وعدهم، فكان لجوؤه إلى عملية نوعية لاستعادة ثقة أنصاره وطمأنتهم بكونه قادرا على النيل من "خصم" كبير هو حركة النهضة؟
د- هل هي رسالة لدول عربية معروفة شريكة في الانقلاب لإثبات الجدارة والحصول على مساعدات مالية في ظل أزمة خانقة؟
ه- هل يريد قيس سعيد تنفيس الأزمة الاجتماعية والسياسية بتوجيه الرأي العام الشعبي والمدني الديمقراطي نحو وجهة مضللة؛ يدعي فيها خوض معركة مع طرف محدد يحمله مسؤولية الأزمة الاجتماعية والسياسية ويغري بقية الأطراف بالاصطفاف معه، كما فعل ابن علي بداية التسعينيات؟
و- والسؤال الأخطر هو: هل يريد قيس سعيد ومستشاروه استفزاز حركة النهضة بعد أن رفضت خيار المواجهة منذ الساعات الأولى للانقلاب، وحيث اعتبرت المعركة ليست بين قيس سعيد والغنوشي ولا بين الانقلاب والنهضة، وإنما هي معركة بين
الاستبداد والديمقراطية، وهذا التكييف العميق والدقيق ترك المنقلبين في التسلل، وأنتج حالة مدنية واسعة تتقوى باستمرار في مواجهة الانقلاب، وهو ما أزعج "غرفة عمليات" الانقلاب وفوت عليها فرصة استعمال "وابل من الرصاص لا حدّ له"، كما توعد المنقلب قيس سعيد عشية فعلته السيئة؟
تونس تبدو اليوم كما لو أنها على منزلق طيني وكل خطواتها وفي أي اتجاه يتهددها انزلاق يتربص بعظام هشة، ولكن الأمل يظل كبيرا في أنها بعين الله، وفي أن عقلاء كثيرين لن يتركوها للعابثين
ز- على ماذا يمكن أن تفتح هذه العملية، خاصة إذا تعرضت حياة الأستاذ نور الدين البحيري للخطر، وقد
أعلنت زوجته أنها تعتبره ميتا بالنظر إلى ما يعانيه من أمراض، وما تعرض له من عنف وما راج من عدم تناوله أدويته، وخاصة بالنظر إلى التكتم الشديد عن
وضعيته الصحية ومكان احتجازه ورفض تمكين زوجته من زيارته؟
هل يسكت المنتظم الحقوقي الدولي على مثل هذه الجريمة وعلى ما قد يترتب عنها أمنيا وسياسيا واجتماعيا؟
تونس تبدو اليوم كما لو أنها على منزلق طيني، وكل خطواتها وفي أي اتجاه يتهددها انزلاق يتربص بعظام هشة، ولكن الأمل يظل كبيرا في أنها بعين الله، وفي أن عقلاء كثيرين لن يتركوها للعابثين الشعبويين.
twitter.com/bahriarfaoui1