مشهد
المظاهرات السودانية أمس (الأحد)، ذكرني في جانب منه بيوم حصار القصر الرئاسي في عهد الرئيس محمد مرسي، مع الخلاف في جوانب عدة!
فالقابع في القصر الرئاسي
السوداني هو جنرال يؤمن بأن الدنيا تؤخذ غُلاباً، وليس رئيساً مدنياً منتخباً، وفي مصر وعندما وصلنا إلى قصر الاتحادية، لاحظت أن مجموعة من جنود الأمن يقفون على الرصيف الآخر، وهم يقولون للمتظاهرين إنه لا شأن لهم بالأمر، وأن القصر مفتوح لمن يريد أن يدخله، فقط عليهم أن يدفعوا الباب ولن يجدوا أحداً. وكان من ستر الله أن المتظاهرين لم يصدقوهم، واعتبروها محاولة منهم للإفلات من هذا الحصار. وإذ قام صبية بمحاولة تسلق الأسوار، فقد كان الخوف قائماً من أن يكون عدم الوجود الأمني كميناً يستهدف إطلاق الرصاص عليهم إذا صاروا في قبضتهم.
وكنت أقف على هذا الخوف، وأعرف أسبابه، فقد قلت لصديق كان سعيداً بالمشهد، وجاء لحصار القصر ليتنفس هواء الحرية: لا تأخذك الأحلام بعيداً، فإذا نادى المنادي أن الإخوان في طريقهم إلى هنا، فلن يجدوا غيرنا في هذا المكان، لأننا لا نستطيع الجري الذي هو نصف الشجاعة، وهو ما حدث في اليوم التالي، لكنني لم أكن هناك!
بعد ذلك عرفنا أن ما قاله الجنود كان صحيحاً، وأن هناك تواطئاً بين أجهزة القوة، وأن وزير الداخلية الذي رد إليه اعتباره بعد الانقلاب
العسكري وتم تعيينه مستشاراً برئاسة الجمهورية، لم يرد على اتصالات الرئيس محمد مرسي!
كان قرار الثوار في السودان هو الزحف في اتجاه القصر الرئاسي، لإجبار الجنرال عبد الفتاح البرهان على تسليم السلطة للمدنيين، وقد قوبل وجودهم بترحيب من قبل كثير من الضباط، وصل إلى حد العناق بينهم وبين بعض المتظاهرين، الأمر الذي اعتبره أنصار البرهان منذ اللحظة الأولى أداء ليس عادياً
الزحف إلى القصر:
أمس كان قرار الثوار في السودان هو الزحف في اتجاه القصر الرئاسي، لإجبار الجنرال عبد الفتاح البرهان على تسليم السلطة للمدنيين، وقد قوبل وجودهم بترحيب من قبل كثير من الضباط، وصل إلى حد العناق بينهم وبين بعض المتظاهرين، الأمر الذي اعتبره أنصار البرهان منذ اللحظة الأولى أداء ليس عادياً، وأدهش الوزير المقال إبراهيم الشيخ، حتى ظن أن السودان طوى صفحة البرهان، وأن هذا الاستقبال كاشف عن قرار اتخذ بهذا المعنى. صحيح أن هناك مواجهة بالقنابل المسيلة للدموع ألقيت على المتظاهرين، لكن الحفاوة من جانب البعض أوحت بأن قراراً عسكرياً صدر بإنهاء مرحلة البرهان، فماذا هناك؟!
لقد نجح البرهان في استمالة
رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وإذا كان من الواضح أنه لم يكن يرغب في اعادته لموقعه بعد عزله واستضافته، وإطلاق سراحه وفرض الإقامة الجبرية عليه، فإنه سلم في النهاية بأن الموقف من الرجل هو سبب الضغوط الغربية عليه، ولم يكن حمدوك صلباً بما يكفي فخضع بالقول والفعل، وباع الذين اخاتروه في البداية، ربما لأنه وجد قوته في جوار العسكر، فما الذي يمنع أن يكون هو الرئيس القادم، لا سيما وأنه يبدو من غير الملائم - إلى الآن - أن يتم انتخاب عسكري رئيساً للبلاد؟!
ونسي حمدوك أن تمسك الحلفاء من قوى اليسار به هو ما جعل قضيته حية، ومثل غطاء للضغوط الغربية، وبدا الغرب مرتاحاً لإعادته، لكن الحلفاء لم يسلموا بهذه الهزيمة واستمروا يدقون طبول
الثورة، في وقت رأى فيه
المكون العسكري أن القوة العسكرية وحدها لا تكفي وأنه لا بد من غطاء مدني، فجمع من حوله الجماهير العريضة التي تؤيده، على قاعدة أن المصائب يجمعن المصابين، وهم يرون حالة الاقصاء والاستئصال التي مارسها المكون المدني ضدهم، وانشغاله بالمكايدة السياسية عن الإنجاز الحقيقي على الأرض، الأمر الذي كشف عن غباء منقطع النظير، إذ كان على هذه القوى أن تجمع ولا تفرق، وأن ترى قوتها في
المدنيين مع اختلاف توجهاتهم، لكنهم استقووا بتحالفهم مع العسكر ضد خصوهم الإسلاميين!
الجرائم التي ارتكبها المكون المدني باسم لجنة إزالة التمكين، دفعت هؤلاء للاحتشاد حول المكون العسكري الذي لعب على الطرفين، فمكّن حليفه من القيام بمهامه، ثم استقوى بالمضارين من ذلك في مواجهة هذا الحليف في مرحلة لاحقة!
لجنة ضرار:
إن الجرائم التي ارتكبها المكون المدني باسم لجنة إزالة التمكين، دفعت هؤلاء للاحتشاد حول المكون العسكري الذي لعب على الطرفين، فمكّن حليفه من القيام بمهامه، ثم استقوى بالمضارين من ذلك في مواجهة هذا الحليف في مرحلة لاحقة!
إن فلسفة لجنة الضرار المسماة بإزالة التمكين تقوم على أن الرئيس البشير مكن رجاله من مفاصل الدولة ومن الهيئات العامة، وهو ما كان يستدعي لمواجهته أن يُنظر في من استبعد من مواقع بعينها لأسباب مرتبطة بانتمائه السياسي، من أصحاب الكفاءات، ووضع قواعد لشغل هذه المواقع، لكن الذي حدث أنه تمت إزالة تمكين (قد يكون صحيحاً) لصالح تمكين (من المؤكد أنه صحيح)، بدون قواعد، وعزل رؤساء جامعات وعمداء ونحو ذلك لأنهم "كيزان"، ليحل محلهم خصومهم من أهل اليسار!
وكان تمكين النظام السابق لرجاله هو قميص عثمان الذي رفعه المكون المدني في وجه من يطلبون بالانتخابات، فلكي تجرى الانتخابات، لا بد من إزالة هذا التمكين. والحقيقة أن القوم يخافون من الاحتكام إلى الصناديق النزيهة، ولو بعد قرن، وكان لافتاً أنه بعد إزاحة عمر البشير، وقال العسكر لإثبات البراءة إن الانتخابات ستكون بعد عام، ثار المكون المدني وقال بل بعد عامين، فعندما استجاب العسكر لذلك، قالوا بل أربع سنوات. نعلم ويعلمون أنهم لن يكونوا جاهزين نهاية المطاف، وسيطلبون بالمد لو سارت الأمور بدون طمع من العسكر في الانفراد بالسلطة كاملة!
لا يمكن بعد سقوط البشير بقوة الشعب السوداني، أن يتم الحديث عن تغلغل رجاله في مؤسسات الدولة، فلو كان بيدهم القوة لحموا عرشه. ثم إن الانتخابات النزيهة لها قواعدها، وكان يمكن أن يطلبوا ضمانات لإجرائها وليس مبرراً لتأجيلها.
ومن الأخطاء الجسيمة، أنهم وقد احتموا بالعسكر، ظنوا أن الذين باعوا قائدهم الأعلى يمكن أن يفوا بالوعد، ولم تكن استجابتهم إلا تحرفاً لقتال في انتظار اللحظة الحاسمة، فمن قال لهؤلاء إن العسكر يمكن أن يسلموهم رئاسة المجلس السيادي بعد عامين؟ لكن لا أحد يتعلم الدرس من القوى المدنية، وكان الدرس على مرمى حجر من الجارة مصر، عندما استقوى الإخوان بالعسكر في مواجهة الحليف الثوري، ثم استقوى هذا الحليف بالعسكر في مواجهة من لولاهم ما نجحت الثورة، وكانت النتيجة أن أطاح العسكري بالجميع!
من قال لهؤلاء إن العسكر يمكن أن يسلموهم رئاسة المجلس السيادي بعد عامين؟ لكن لا أحد يتعلم الدرس من القوى المدنية، وكان الدرس على مرمى حجر من الجارة مصر، عندما استقوى الإخوان بالعسكر في مواجهة الحليف الثوري، ثم استقوى هذا الحليف بالعسكر في مواجهة من لولاهم ما نجحت الثورة، وكانت النتيجة أن أطاح العسكري بالجميع
ولم يتعلم إسلاميو السودان من الدرس أيضاً، فاندفعوا في اتجاه العسكر يطلبون عندهم العزة، ولو نظروا إلى المرآة لوجدوا أنهم من القوة بمكان لدرجة أنهم يمثلون بديلاً ثالثاً، لكن بعد ثلاثين عاماً من وجودهم في الجوار العسكري لم يجدوا قوتهم إلا في الحماية بقوة السلاح!
وكانت الإجراءات الانقلابية التي اتخذها الفريق البرهان سبباً في إعادة تموضعهم حوله، فكيف يأمنون له وهو من دفع بقائده للسجن، بل واستقام أكثر مما ينبغي فسجن زوجته خروجاً على الأصول التي يعرفها "أولاد البلد"؟ ولو اتسم بصفاتهم لتعامل مع محاكمة البشير على أنها تأتي من باب الضرورة التي تقدر بقدرها، من خلال سجن مريح، ومحاكمة في حدوده ولا تصل البتة إلى أهل منزله!
بيد أنهم نسوا هذا وظنوا أن قوتهم في كنف العسكر، دفعتهم لذلك حملات الاستئصال التي يقوم بها الخصوم اليساريون.
تسليم السلطة:
لقد قال البرهان إنه سيسلم السلطة لحكم مدني بعد المهلة المحددة سلفاً، يعدهم ويمنّيهم، ولا يمكن للمتابع إلا أن يفهم من ذلك أنه يكسب وقتاً ويفوّت الفرصة على المعارضة ليس أكثر! لأن الفترة التي يتحدث عنها كانت بناء على طلب المكون المدني، وقد خرج من السلطة، فما المبرر للتمسك بها؟ ولو خلصت النوايا لكانت الانتخابات بعد شهور من الآن، وبإشراف دولي، ما دامت النية قد انعقدت على تسليم السلطة للمدنيين، وخير البر عاجله، ولو فعل لوضع العربة أمام الحصان!
كما استغلت قيادة الجيش السوداني وملحقاتها (الدعم السريع) احتشاد أحزاب الأقلية حولها لعامين، فها هي الآن تبدو وكأنها أيضاً تريد أن تتجاهل المدنيين الذين دعموها مؤخراً، وأن البرهان يريد أن يختطف السلطة ليكون هو الحاكم الأوحد
إن المظاهرات تطالب بتسليم السلطة لمدنيين، دون تحديد من هو المدني الذي يستأثر بالسلطة والمدني الذي يُحرم منها، وما هي القواعد الحاكمة، مع أن السودان لن يخترع العجلة، فالاحتكام للشعب هو غاية الثورات، وتزوير إراداته هو المحرض عليها، لكن كما أن المكون المدني لا يريد انتخابات، فإن العسكري مثله!
ومن الواضح أنه كما استغلت قيادة الجيش السوداني وملحقاتها (الدعم السريع) احتشاد أحزاب الأقلية حولها لعامين، فها هي الآن تبدو وكأنها أيضاً تريد أن تتجاهل المدنيين الذين دعموها مؤخراً، وأن البرهان يريد أن يختطف السلطة ليكون هو الحاكم الأوحد. وربما لهذا كان الدرس بالترحيب بالثوار الذي ذهبوا للقصر الجمهوري، في رسالة لا تخطئ العين دلالتها، ولا نعتقد أنها تجربة قابلة للتكرار، فسوف يبحث البرهان عن موطن الخلل ويحاول علاجه!
إن حل مشكلة السودان تكون بالدعوة لانتخابات مبكرة تعود فيها الإرادة للشعب، ويكون فيها المدنيون يداً واحدة، وفي المناصب العليا ما يكفي لإرضاء الجميع، قبل أن يلتهم العسكر الجميع!
فإنما يأكل الذئب من الغنم الشاردة!
twitter.com/selimazouz1