وضعت
الانتخابات
المحلية بالجزائر،
جبهة التحرير الوطني، من جديد في صدارة المشهد السياسي، بعد
سنتين عانى فيهما هذا الحزب الإبعاد وواجه مطالب بعزله سياسيا بسبب تورطه في دعم "العهدة
الخامسة" للرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة.
ولم يكن أكثر
المتفائلين بمصير جبهة التحرير الوطني، يعتقد أن هذا الحزب بإمكانه النهوض مجددا
بعد الصدمة الكبرى التي تعرض لها عندما قام الحراك الشعبي مناديا برحيل الرئيس
السابق ومحيطه من الأحزاب التي دعمت استمراره في الحكم، رغم وضعه الصحي الذي كان
يمنعه من القيام بواجباته كرئيس.
وزاد من تدهور صورة
الحزب وعزلته، اعتقال قادته وأغلب وزرائه وعدد من نوابه ووضعهم في السجن بتهم فساد
وتأثير على العدالة، مثل جمال ولد عباس الذي كان أمينا عاما للحزب، ومحجوب بدة
والطيب لوح ومحمد جميعي وبهاء الدين طليبة وغيرهم، مما جعل قطاعا من
الجزائريين
يحملون هذا الحزب الذي كان يسيطر على البرلمان والمجالس المنتخبة المحلية، مسؤولية
الوضع الذي آلت إليه الجزائر رغم ما أنفق من مئات ملايير الدولارات خلال العشرين
سنة الماضية.
وخلال تلك الفترة،
ارتفعت عدة أصوات تطالب بإحالة جبهة التحرير الوطني إلى المتحف، باعتباره إرثا
وطنيا لكل الجزائريين ولا يجب تركه بين يدي أطراف تتلاعب به وتشوه صورته، وكان من
بين هؤلاء مجاهدون كانوا أعضاء في جبهة التحرير التاريخية وأحزاب سياسية لم تهضم
بقاء هذا الحزب مهيمنا على الساحة، رغم إقرار التعددية الحزبية في البلاد منذ نحو
ثلاثين سنة.
ومع أن الحزب بعد 10
أشهر من الحراك، حاول العودة إلى الساحة متبرئا من تركته الثقيلة، عبر بوابة
الانتخابات الرئاسية نهاية سنة 2019، إلا أنه أخفق مرة أخرى، حيث دعم المرشح عز
الدين ميهوبي، بينما كان الرابح في تلك الانتخابات عبد المجيد
تبون الذي أصبح
الرئيس السابع للجزائر، وكانت المفارقة أن ميهوبي كان ينتمي لحزب التجمع الوطني
الديمقراطي، بينما تبون رغم دخوله كمرشح حر إلا أنه ينتمي نضاليا إلى جبهة التحرير
الوطني، ما أدى بهذا الحزب للدخول مرة أخرى في أزمة داخلية أدت إلى الإطاحة
بقيادته ومجيء أبو الفضل بعجي الذي تزعم الحزب منذ تلك الفترة.
وطوال تلك الفترة، صبر
الحزب على التجاهل الذي كان يقابله به الرئيس تبون الذي لم يستقبل قادته إلا بعد
فترة طويلة، ورسم خطة للعودة عبر تجنب أي مصادمة مع السلطة وتزكية كل مشاريعها
بدءا من تعديل الدستور وانتهاء بكل القوانين التي مرت على البرلمان السابق الذي
كان مسيطرا عليه من أثر الزمن السابق، إلى أن وصلت لحظة الاختبار الحقيقية للحزب،
وهي الانتخابات التشريعية التي جرت في يونيو/حزيران الماضي، واستطاع فيها الحزب نيل
المرتبة الأولى بين الأحزاب عبر تحقيقه زهاء 100 مقعد، وهي نتيجة رغم أنها أقل مما
كان يحصده الحزب في الانتخابات السابقة، إلا أنها كانت بمثابة مؤشر على التعافي
واستعادة الحزب القدرة على البقاء في واجهة السلطة، حتى وإن كان بعيدا عن صناعة
القرار الحقيقي.
ويمكن القول إن
الانتخابات المحلية الأخيرة، قد رسخت أقدام هذا الحزب وأعادته بقوة للواجهة بعد
أحلك فترة عاشها، بحيث أصبح يتصدر اليوم المشهد السياسي، إذ أحرز لوحده حوالي 6400
مقعد بين المجالس البلدية ومجالس المحافظات، وهو ما يؤهله لقيادة العدد الأكبر من
البلديات في الجزائر، وهي نتيجة دفعت بأمينه العام أبو الفضل بعجي للقول، بأن جبهة
التحرير قد أخرست اليوم كل الأصوات التي كانت تنادي بإدخالها للمتحف، وذلك في
تعليقه الأولي على النتائج.
خلفيات النتائج
وعند مناضلي الحزب
وقياداته، لم تأت هذه النتيجة عبثا، فجبهة التحرير يمكنها أن تتعثر لكن لديها
خصائص حسبهم تجعلها تستعيد القدرة على التعافي سريعا، وهو ما تشير له تجارب سابقة
فقد فيها الحزب الريادة لكنه عاد من جديد خاصة سنوات التسعينات.
ويقول القيادي والنائب
السابق عن جبهة التحرير، حسين خلدون، إن السر وراء فوز الحزب أنه متجذر في المجتمع
الجزائري ولديه كتلة تصويتية معتبرة، تجعله يبقى الأول حتى وإن تراجع لأن جبهة
التحرير حسبه، يمكنها في أحسن حالاتها الفوز بعدد أكبر بكثير من المقاعد التي حصلت
عليها.
ويعتقد خلدون في حديثه
مع "عربي21"، أن من أسباب بقاء حزب جبهة التحرير قويا رغم أزماته
الداخلية، أن الأحزاب الأخرى التي ظهرت بعد فتح المجال أمام التعددية الحزبية، لم
تنجح في بلورة برامج تقنع بها الجزائريين وانخرطت في الخيار السهل القائم على
انتقاد حصيلة جبهة التحرير دون تقديم الحلول.
وأضاف المتحدث أن
ظاهرة التعددية لا بد لها من دراسة وافية، تبحث في أسباب عدم ظهور أحزاب قوية
تضاهي جبهة التحرير في وزنه ومكانته
شعبيا.
ولا ينفي خلدون أن
الحزب تعرض لأزمة بعد الحراك بسبب الخيارات التي دعمها، لكنه يؤكد بالمقابل أن
الحراك رفض في الواقع كل الطبقة السياسية ولم يفرق بين موالاة ومعارضة ولم يوفق في
أن يفرز قيادات تتحدث باسمه، ما جعله يتبدد ويصبح لقمة سائغة في وجه أي نقد.
ويرى النائب السابق،
أن تصويت الجزائريين في الفترة الأخيرة لصالح جبهة التحرير، هو نزوع نحو الخيار
الآمن في ظل الوضع الإقليمي والأزمة مع المغرب الذي اختار التحالف مع الكيان
الصهيوني، ذلك أن هذا الحزب يعرف
الجزائريون أنه رغم ما مر به من أزمات لا يمكنه أن يخون البلاد أو يعمل ضدها أو يفرط
في الثوابت الوطنية.
رأي منافسي الجبهة
ويخالف وجهة النظر
هذه، ناصر حمدادوش مسؤول الإعلام بحركة مجتمع السلم التي تنشط في المعارضة، إذ
برأيه كان متوقعا أن تتصدر أحزاب الموالاة القديمة النتائج، بالنظر إلى معطيات
كثيرة تخدمها.
ويقول حمدادوش في
تصريح لـ"عربي21" إن تصدر أحزاب الموالاة القديمة طبيعي، إذ لا تزال
تتغذى من رصيدها السابق من المنتخبين المحليين المتواجدين في كل البلديات
والولايات، كما أن الفئة المشاركة في الانتخابات في معظمها موالاة وليست معارضة.
واعتبر النائب السابق،
أن ترتيب الأحزاب في الانتخابات المحلية في الأصل لا يصح، لأنها انتخابات ذات طابع
محلي وليس وطنيا، وذات بعد شخصي وليس حزبيا، فالانتخاب، حسبه، عادة يكون على الأفراد
(وخاصة مع طبيعة النمط الانتخابي المفتوح الجديد) وليس على الأحزاب والبرامج
والأفكار.
ودافع حمدادوش عن
نتيجة حزبه، مشيرا إلى أن حركة مجتمع السلم تسبح ضد التيار، فهي حزب معارض في بيئة
موالية، لكنها مع ذلك فازت بمقاعد في أكثر من 95 بالمئة من المجالس التي شاركت
فيها.
الإشكال في طبيعة
النظام؟
ولهذه العودة من منظور
علم الاجتماع السياسي، تفسيرات أخرى حسب نوري دريس الباحث في جامعة سطيف بالجزائر.
ويقول دريس في حديثه
مع "عربي21" إن حصول جبهة التحرير على العدد الأكبر من المقاعد في
المحليات نتيجة طبيعية لممارسات السلطة
منذ توقف الحراك.
ويذكر في هذا السياق،
أن السلطة أغلقت جميع مساحات التعبير والنقد السياسي، ورفضت اعتماد أحزاب جديدة
منبثقة عن الحراك، وقطعت بالمقابل الطريق أمام الكثير من المترشحين بتهم
مختلفة وبذلك جعلت جبهة التحرير والأحزاب
المنبثقة منها، الوسائل الأكثر فعالية لمن يبحث عن منصب في الجماعات المحلية، وهذا
لما يتمتع به من امتيازات ودعم مباشر وغير مباشر داخل الإدارة.
وينتهي دريس إلى أن
فوز جبهة التحرير هو نتيجة طبيعية لفرض الرأي الواحد والتفكير الواحد والموقف
الواحد، وهو ما يجعل البلاد حسبه، تعيش شبه أحادية سياسية يتم تسويقها عبر هياكل
حزبية متعددة، بشكل يشبه فترة الحزب الواحد حيث كان التنافس يتم داخل قائمة واحدة.