ثمة أسطورة يونانية شهيرة تحكي عن سرير "بروكروست".. بطل الأسطورة هو بروكروست، الذي اشتهر بسبب سريره الذي لم يُعرف له مثيل، رغم أنه كان سريرا عاديا، لكن صاحبه هو الذي صنع منه أسطورة.
كان بروكروست يعيش في منطقة أتيكا، وكان يغوي المارة والمسافرين بالمبيت في سريره، وفور أن يأوي المسافر التعس إلى السرير، يسارع بروكروست إلى مطابقة جسد ضيفه مع السرير.
فإذا اختلفا، تدخل بروكروست وبتر أطراف ضيفه إن كان جسده أكبر من مقاس السرير، أو يقيد ضيفه ويشده ليمط جسده حتى تتخلع مفاصله؛ المهم أن يطابق الجسدُ المسكين مقاسَ السرير.
يعتبر الفلاسفة والمفكرون أن "البروكروستية" حالة فكرية ونفسية بائسة، تقود صاحبها إلى فرض قوالب غير منطقية على المعطيات التي يستقبلها، فتكون النتيجة أن تخضع الأفكار والأشخاص والموضوعات التي يتلقاها مع ما القوالب الجاهزة، التي يؤمن بها من قبل.
لذا لا يمكن أن يتغير الإنسان المريض بعقلية بروكروست. وهكذا هم الطغاة دائما؛ لا يكادون يراجعون أنفسهم لحظة.
فإذا كان للديكتاتورية أب بعيد فلعله يكون بروكروست هذا.
يخاف بروكروست من التعدد، يقاوم الاختلاف، بالقدر الذي يهدر به حقوق البشر البسيطة في أن يكونوا أفرادا متنوعين ومستقلين! وكما لا يقبل البروكروستيون تنوع البشر، يقمعون حقوقهم في التعبير عن ذواتهم.
لذا لا نكاد نجد القمع إلا وجدنا معه هذا النوع من التفكير، سواء في الفن أو السياسة أو الأدب.. إنه ذلك الوهم المضحك الذي يصور لصاحبه أنه يملك نسخة واحدة من الحقيقة، وما عداها ضرب من البؤس!
في معظم أحاديثهم، يتحدث الطغاة عن "نسق" ما من الصواب المطلق، الواضح وضوح الشمس بحيث يغدو مَن يعارضه متآمرا أو مجنونا.
وقد يسهل علينا أن نفهم سبب انتشار هذا النمط من التفكير بين طغاة السياسة، من حيث إنهم يرون العالم عبر منظور واحد: هم السادة وسائر الشعب عبيد مرهونون لمصلحتهم.
يسهل علينا فهم ذلك لدى رجال السياسة، أما في الفن، فيبدو الأمر غريبا حقا. فمنذ أيام، قد أوقف هاني شاكر رئيس نقابة المهن الموسيقية المصرية 19 مطربا من مطربي المهرجانات عن الغناء، لأنه يرى أصواتهم غير مناسبة للغناء، كأنه لم يسمع آلاف الأصوات الغنائية في العالم، التي يظهر في بعضها بحة واضحة، أو نوع من عدم النقاء، الذي يراه محبو الفن دالا على الشقاء، ومتسقا مع الطابع الغاضب أو المأساوي الذي يطبع أغاني هذا الفنان أو ذاك.
لم يعد أحد الآن يفكر في أصوات الفنانين كما السابق؛ لا أحد يشترط نقاء الصوت أو حلاوته ونعومته، أو قوته حتى، كما تحرر الناس من قوالب الغناء التي تربّى عليها نقيب المهن الموسيقية السيد شاكر!
عبر قرون، تأسس فهم البشر للفن باعتباره خروجا عن المألوف وكسرا للقيود؛ ظمأً دائما للحرية ورغبة في الانعتاق عبر الإبداع.
لا يكاد تاريخ الفن يذكر لنا مبدعا ذاع صيته وخلد اسمه لأنه يقدس التقاليد البالية، بل نحن يذكر المبدعين والفنانين، الذين خرجوا على المألوف فجدّدوا الشعر والرسم والموسيقى..
لماذا إذن يفكر السيد هاني شاكر على طريقة بروكروست؟
يبدو الأمر مرتبطا بانحطاط المجال العام وفرض التوجه السياسي للسلطة المصرية على شتى مناحي الثقافة والفن.
فالدراما الرمضانية صارت نوعا من التطبيل الفني للأجهزة السيادية، والأغاني الوطنية تتسابق في التغني بجهود وزارة الداخلية، حتى إنها سجّلت سابقة فنية بإنتاج أغنية تفخر بافتتاح سجن جديد، بدلا من الإعلان عن إغلاق سجون مثلما تفعل الدول المتحضرة..
لا يقصد هذا المقال إلى مناقشة فكرة سياسية، بل يحاول أن يتأمل تلك الحالة الفنية العبثية، التي تقبض فيها السياسة القامعة على خناق الفن، فتطرد الفن الحقيقي وتفتح الباب لمخرجين يرصون عبارات النفاق بدلا من سبك أحداث درامية متقنة، وتجعل من السيد هاني شاكر "شاويشا" يحركه السادة الضباط بتوجيهات مباشرة.
قياسا على المجال العام، يرى السيد شاكر في الفنانين فئتين: فئة تشبه السلطة وتتماهى معها، وفئة لا تشبهها مهما كان السبب.
الفئة الأولى مرحب بها، أما الفئة الأخرى فهي آثمة، رجيمة بطبيعتها، مطرودة من المجال العام. عمرو دياب يشبه السلطة؛ ذو مال ونفوذ، له كثير من المعجبين من صفوة المجتمع المصري.. أما مغنو المهرجانات فهم هؤلاء البعيدون عن عالم الكومباوندات الراقية، المحرومون من رضا السلطة.
يصرح السيد شاكر بلا خجل: "دور النقابة إني أحافظ على أعضائي والمهنة والشكل العام ومينفعش نبقى في عصر فيه السيسي ويبقى ده الفن اللي متصدر.." هذا يكاد يلخص كل شيء: الفن في عصر السيسي يجب أن يشبه السيسي وقومه، لا مجال إذن لهؤلاء المطربين البائسين.
من يرغب في الحياة في مصر، عليه أن يشبه رئيسها.. ربما يفسر لنا ذلك تجاوز شاكر عن ويجز فهو خريج الجامعة الأمريكية، أو محمد رمضان، ملك البلطجة الأول في الدراما المصرية، فهو مرضي عنه من طبقة الأرستقراطية العسكرية التي تدير البلد.
من الطريف أيضا أن سبب إيقاف أحد هؤلاء المطربين (حسن شاكوش) هو خلاف شخصي بين شاكوش وزميله رضا البحراوي، اللذين تبادلا الاتهامات والإساءات على حساباتهما على الفيس بوك، ورأى شاكر في كلام شاكوش تطاولا وسوء أدب، فعاقبه بالمنع من الغناء، وهذه سابقة غريبة، فلم نسمع عن منع فنان من ممارسة فنه لأنه "قليل الأدب"!
لا يُعقل أبدا أن تقتصر أي فضاء فني حقيقي على فئة واحدة، تتحدث الإنجليزية بطلاقة وتسكن العاصمة الإدارية الجديدة!