يعد الاتحاد العام التونسي للشغل مؤسسة نقابية عتيدة، ناضلت منذ تأسيسها عام 1946 عن حقوق العاملين في القطاع العام على وجه الخصوص، لكن العديد من النقابيين يأسفون من سلوكه خلال السنوات الأخيرة، ويخشون من تواصل هذا التعاطي الملتبس مع السلطة ومع المنتسبين.
والاتحاد أسسه الزعيم النقابي، فرحات حشاد؛ للدفاع أولا وقبل كل شيء عن الشغالين، ليرحل إثر اغتياله، ما سمح للنظام بأن يجد طريقا داخل المنظمة، فتتغير الأهداف وتتلون وفق حسابات سياسية.
وشقت السياسة الاتحاد، وتربعت على العمل النقابي، خاصة في سنوات ما بعد الثورة، حيث تتالى الاتهامات بانحراف منظمة النقابيين، وتزداد المخاوف من وعلى المنظمة، خاصة مع إجراءات الرئيس قيس سعيد، إذ يعتبر طيف واسع من المتابعين أن المنظمة في تذبذب، ولا موقف واضح لها، مستنكرين وصف سنوات الثورة بالعشرية "السوداء ".
الاتحاد ممزق
ويرى المناضل والنقابي بالاتحاد العام التونسي للشغل مصباح شنيب، في حديث خاص لـ"عربي 21"، أن "الاتحاد يعيش حالة من التذبذب، ولا ينطق نيابة عن منظوريه بما يخدمهم، فهو ممزّق بين إسناد رئيس الدولة والترحيب بتدابيره، وبين الدفاع عن المكاسب الديمقراطية".
اقرأ أيضا: ارتفاع معدل البطالة بتونس.. والحكومة تغازل "اتحاد الشغل"
وأضاف شنيب أن "الأمر يصل ببعض قادة الاتحاد إلى التحدث باسم الشعب بأكمله، معلنين أنه لا سبيل إلى عودة البرلمان الذي عانى منه التونسيون، وهم يعلمون بأن هذه العودة باتت مستحيلة، لأكثر من سبب، ويعلمون كذلك أن الفوضى البرلمانية التي كان يشارك فيها بنجاعة بعض أصدقائهم لم تلق تذمّرا منهم ولا تشنيعا".
ويعتبر النقابي مصباح شنيب بأنه "اليوم انكشف الأمر للتونسيين بأن الاتحاد الذي احترموا قادته التاريخيين، وأسكنوهم في قلوبهم، بات لعبة سياسية يديرها طرف معلوم لصالحه، فيغض الطرف عن تجاوزات الكثيرين ممن أساؤوا إلى الاتحاد، ومرّغوا سمعته في التراب، وينكل بآخرين ممن يدافعون عن اتحاد نظيف يصون حقوق الشغّالين".
ويقول محدثنا إن "الاتحاد يسعى اليوم إلى بناء شراكة مع قيس سعيد، وهو الذي لا يأبه بوجوده ويقطع حبل الود معه، ما يثير مخاوف الاتحاد، ويجعل أمينه العام يعدل باستمرار بيضة القبّان؛ بحثا عن توازن مفقود".
وأكد النقابي شنيب أن "الدور السياسي الذي ينهض به طرف معلوم داخل الاتحاد ببذل جهودا محمومة لتوطيد الصلة مع السلطة التنفيذية؛ للاستقواء على معارضي الانقلاب. هذا الدور بات مكشوفا، وانتبه إليه التونسيون الذين وقفوا دائما الى جانب الاتحاد؛ وفاء لشهدائه وزعمائه".
وانتهى محدثنا بالقول إن "أبناء الاتحاد وعوا هذه الحقائق، وشرعوا بعد في تنفيذ أي فعل نقابي يخدم منظوريهم، دون عودة إلى القيادة النقابية، والبعض الآخر لم يترددوا في اللجوء إلى القضاء؛ بحثا عن عدالة افتقدوها في منظمتهم".
الاتحاد يرد
وفي رد منه على الانتقادات التي تطال الاتحاد بخصوص تذبذب مواقفه من إجراءات الرئيس قيس سعيد، قال الأمين العام المساعد بالاتحاد العام التونسي للشغل محمد علي البوغديري، في تصريح خاص لـ"عربي 21" ،" إن "مواقف الاتحاد ليست متذبذبة، بل ثابتة، وتتطور وفق المتغيرات، فالاتحاد ساند إجراءات الرئيس منذ اليوم الأول، واقتنع بمطابقتها للدستور وفي فصله الثمانين".
وأوضح الأمين العام المساعد أن "الاتحاد طالب منذ البداية برسم خارطة طريق واضحة، والإسراع بتشكيل الحكومة، ثم اعتبر القرار الذي اتخذه الرئيس في الثاني والعشرين من أيلول/ سبتمبر خطوة على خط بداية تنفيذ خارطة الطريق".
وفي رده عن الانتقادات الموجهة للمنظمة والمتعلقة بتدخله في الحياة السياسية وخروجه عن الدور النقابي، أجاب محدثنا البوغديري: "الاتحاد منظمة وطنية قبل أن تكون نقابية، ودفع حياة مؤسسه الزعيم خالد الذكر، ليس من أجل بنطلون أو رغيف خبز، بل من أجل الكرامة الوطنية، فالاتحاد ساهم منذ تأسيسه في كل المعارك الوطنية (التحرير، بناء الدولة، معركة الديمقراطية)".
وشدد الأمين العام المساعد على أن "المنظمة أطرت الثورة، ثم أدارت الحوار الوطني، وجنبت البلاد الحرب الأهلية، ما مكنها من الحصول على جائزة نوبل للسلام، وحينها لم يقل أحد وقتها ما دخل الاتحاد في السياسة".
اقرأ أيضا: تأخر خارطة الطريق بتونس يشي بغيابها ويعمق الأزمة
وعن استغلال الاتحاد للحظات الأخيرة لإظهار موقفه بعد حسم الأمر للطرف الأقوى، وبروزه في دور المنقض، يقول البوغذيري: "الاتحاد منظمة جماهيرية، تضم قرابة مليون منخرط، وطبيعي أن ندافع عن منظورنا ومصالحه، لكن الوطن فوق الجميع وقبل الاتحاد، وبالتالي ليس صحيحا أن نكون إلى جانب الأقوى، فأجندة الاتحاد هي تونس دون سواها".
الاتحاد والتوزير
ويصف اتحاد الشغل سنوات ما بعد الثورة بـ"العشرية السوداء "، والحال وفق أغلب المتابعين أن جميع الحكومات ضمت أسماء محسوبة عليه.
ويقول النقابي مصباح شنيب: "لا ننكر أن الاتحاد كانت له نضالات مشرفة في محطات عديدة من تاريخ تونس الحديث، غير أنه دخل دوامة الشراكة والفساد، وتذبذب مواقف الاتحاد اليوم مردّه انقطاع الصلة التوافقية بين السلطة والاتحاد، التي بمقتضاها كان الاتحاد يحصل على حصص من التوزير في الحكومة، وحصص من التشغيل يوظف فيها المقربين من النقابيين استمالة لدعمهم".
وأضاف شنيب: "ويرى آخرون أن الاتحاد مورط في الفساد، وذلك بعدم خلاص ديون متراكمة للمالية العمومية، وبات الكل يعتقد اليوم أن الاتحاد يقود البلاد بمقدار ما إلى جانب الحكومة، ويحصل بموجب ذلك على امتيازات عديدة".
ووفق النقابي، فإن "الاتحاد اليوم يخشى من انكشاف الحقيقة؛ لأن قيس سعيد رجل غامض، ولا يعرف غدا أي فعل يأتيه، ولهذا السبب وغيره فإنه يأتي الفعل ونقيضه".
من خارج الاتحاد
يقول رئيس منتدى "آفاق جديدة"، والمحلل السياسي عبد الحميد الجلاصي، في قراءة تحليلية لـ"عربي21" عن اتحاد الشغل ومواقفه: "الاتحاد منظمة سبقت ولادتها نشأة دولة الاستقلال، ثم واكبت كل تقلباتها، وهي منظمة متسعة وذات بنية هيكلية معقدة، وطبيعي أن تكون أدوارها ومواقفها متنوعة، وأحيانا متناقضة، ومطلوب أن يخضع الحكم عليها إلى أقصى درجات التمحيص والدقة".
وعن موقف الاتحاد من "الانقلاب"، يعتبر الجلاصي أن خمسة اعتبارات حددته، وهي المزاج المناهض للتحالف الحكومي في هياكل الاتحاد، خاصة "حركة النهضة" و"ائتلاف الكرامة"، والتوازنات الحزبية والأيديولوجية داخل الهياكل القيادية، وغلبة التيارات الانقلابية، خاصة القوميون، وحسابات المؤتمر القادم في 2022، ومحاولة تجاوز التصدعات بسبب خرق النظام الداخلي، وتعديل الفصل 20 للتمديد للقيادة الحالية".
وعن الاعتبار الرابع والخامس، يشير الجلاصي إلى أن "الموقف الكلاسيكي في التقرب من مركز السلطة، والمراهنة على احتواء قيس سعيد أو مشاركته الحكم، والخشية من إثارة ملفات فساد تشمل مسؤولين نقابيين في مستويات متعددة؛ نظرا لما ذكرناه من تداخل بين النقابي والإداري منذ السبعينات".
وعن وقوف الاتحاد لجانب الصف الأقوى، يرى الجلاصي أن "قيس سعيد أحبط كل المراهنين عليه من أصدقائه أو من الانتهازيين، فهو قد أعلن رفضه لتشريك أي مكون من مكونات المنظومة الفاسدة برمتها، في تقديره، كما أظهر نقص كفاءة لم يكن يتوقعه أو يتمناه حتى ألد خصومه، لذلك فالموسم الآن هو موسم هجرة سفينة تغرق".
وعن "العشرية السوداء"، يرد الجلاصي: "بعد فورة العاطفة، ستحل مرحلة العقل لتقييم متوازن للعشرية، ولتحميل المسؤوليات، وحينها لعل الرأي العام يطلع على الحكام الحقيقيين ممن أفرزهم صندوق الاقتراع، أو تحكموا في مراكز القرار الإداري والمالي، وهذا مهم جدا للمستقبل ولما بعد سقوط الانقلاب".
إيران تعلن استئناف "الزيارات الدينية" إلى سوريا.. لماذا الآن؟
بروكينغز: على الغرب الضغط لإعادة المسار الديمقراطي بتونس
ضبابية سياسية مستمرة بتونس تنذر بانهيار البلاد