في
اليمن عادت
محافظة الحديدة وعاصمتها التي تحمل نفس الاسم، والواقعتان في الساحل الغربي للبلاد إلى تصدر المشهد من جديد، في أعقاب
انسحاب مفاجئ للقوات المشتركة التي كانت تقاتل بالوكالة في هذه المنطقة الحيوية، وتشغل مكاناً استراتيجياً كان يفترض أن يكون تحت سيطرة الجيش الوطني بقيادة وزارة الدفاع في الحكومة الشرعية، ولكن التحالف عمل ما بوسعه لتبقى الحديدة بعيداً عن نفوذ الشرعية.
من وسط مدينة الحديدة وشارعها الرئيس (شارع صنعاء) ومدخلها الشرقي، وجنوب المدينة، ونحو سبعين كيلو متراً من الساحل الواقع جنوب مدينة الحديدة، بما في ذلك مديريتا الدريهمي والتحيتا، انسحب المقاتلون السلفيون وقبلهم انسحب مقاتلون يتبعون العميد طارق محمد الله صالح، وجميعهم يتبعون
الإمارات تمويلاً وتسليحاً، وإن كانت المرتبات تصرف بالريال السعودي؛ في إشارة واضحة إلى أن الرياض حاضرة في قلب المشهد العبثي هناك.
باستثناء رسالة إشعار تطوع بها قبل نحو شهر النائب عن محافظ الحديدة محمد ورق، وكان قد حذر فيها من انسحاب محتمل، جاء هذا الانسحاب بنظر الكثيرين مفاجئاً ليس من حيث التوقيت فقط، ولكن أيضاً من حيث الكيفية، إذ إنه جاء بمثابة تنازل طوعي يكافئ
الحوثيين ويمنحهم نصراً غير مستحق، والأسوأ من ذلك كله أن هذا الانسحاب لم يأت ضمن التزامات الحكومة تجاه اتفاق ستوكهولم، وإلا لكان حريا بالمنسحبين أن يبلغوا البعثة الدولية المعنية بالإشراف على تنفيذ اتفاق الحديدة المعروف اختصاراً باسم "أنومها"، التي أصدرت بياناً أكدت فيه عدم تلقيها إشعاراً من القوات المشتركة بالانسحاب من مواقعها في الحديدة، مما يعني أن اتفاق الحديدة سقط بالكامل وسقطت معه مهمة البعثة لصالح الحوثيين.
جاء هذا الانسحاب بنظر الكثيرين مفاجئاً ليس من حيث التوقيت فقط، ولكن أيضاً من حيث الكيفية، إذ أنه جاء بمثابة تنازل طوعي يكافئ الحوثيين ويمنحهم نصراً غير مستحق، والأسوأ من ذلك كله أن هذا الانسحاب لم يأت ضمن التزامات الحكومة تجاه اتفاق استوكهولم
البعض تشعب كثيراً في تفسير دوافع الانسحاب العسكري للقوات المشتركة من الحديدة، إلى حد أن ثمة من قال إنها مكافأة لإيران مقابل مأرب، كما لو كانت اليمن قد تحولت إلى كعكة على مائدة اللئام الإقليميين.
هناك بعض الفرضيات التي يمكن سوقها لتفسير ما جرى، ومنها أن التحالف ربما خضع للإملاءات الأمريكية بشأن الحديدة، وسعيها إلى إنهاء الوضع الشاذ في هذه المدينة والذي أرهق السكان ونكَّدَ حياتهم. وهذا الشكل من التنازلات قد نراه في مطار صنعاء الدولي قريباً.
ومع ذلك لا يسعني أن أتقبل فكرة أن الولايات المتحدة حريصة على السكان قدر حرصها على وضع الحديدة تحت تصرف الحوثيين دون منغصات، لكي تثبت إدارة الرئيس جوزيف بايدن أنها عكسُ إدارة ترامب، وأنها أسهمت بالفعل في التخفيف ومن الوطأة الإنسانية للحرب.
وإذا كان التحالف قد قدم التنازل للإدارة الأمريكية، فلماذا تم ذلك بعيداً عن الشرعية؟ ثم ألا يجسد ذلك بالكامل توصيف وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي الذي أحدث أزمة كبيرة بين
السعودية ولبنان، عندما قال إن الحرب في اليمن عبثية؟.. أليس ما جرى في الحديدة تأكيداً لهذا البعد العبثي للحرب؟
لذلك أجدني أميل إلى وجهة نظر براجماتية تتصل أكثر ما تتصل بالمزاج الذي يحكم قرارات ولي عهد أبو ظبي، الذي كان قد أصدر أوامر لقواته في معسكر العلم بشبوة بالانسحاب دون تنسيق مع أي طرف، وبالتزامن مع سيطرة الحوثيين على الأجزاء الشمالية الغربية من محافظة شبوة، ولا يزال يحتفظ بوجود عسكري في ميناء بلحاف لتصدير الغاز الطبيعي المسال؛ المتوقف بسبب هذا الاحتلال.
أميل إلى وجهة نظر براجماتية تتصل أكثر ما تتصل بالمزاج الذي يحكم قرارات ولي عهد أبو ظبي، الذي كان قد أصدر أوامر لقواته في معسكر العلم بشبوة بالانسحاب دون تنسيق مع أي طرف، وبالتزامن مع سيطرة الحوثيين على الأجزاء الشمالية الغربية من محافظة شبوة، ولا يزال يحتفظ بوجود عسكري في ميناء بلحاف لتصدير الغاز
وأخلص هنا إلى تأكيد أن انسحاب القوات المشتركة بتشكيلتها الغريبة، ليس إلا انعكاساً لسلوك إماراتي سيكوباتي يرى أنه من المناسب معاقبة اليمنيين الذين لم يتقبلوا المقاربة العسكرية ذات الطبيعة العدوانية للإمارات في إطار التحالف، وليظهر كم هم اليمنيون وخصوصاً الواقفين في صف الشرعية؛ ضعفاء ولا يمتلكون خيارات.
هذا التقييم قد يبدو صحيحاً، لكن من المهم أن نؤكد هنا أن ضعف جانب الشرعية يمثل حصيلة مباشرة لسياسات انتهجها التحالف، وشملت إضعاف الجيش الوطني وقطع الإمدادات والتسليح النوعي والمرتبات، وشملت في أخطر مراحلها دعم أعمال عسكرية وانقلابات ضد السلطة الشرعية في مناطق عديدة في جنوب البلاد؛ أدت إلى أن تخضع العاصمة المؤقتة لنفوذ عصابات مسلحة تتلقى دعماً سخياً من التحالف. وربما يفتح الانسحاب المفاجئ من الحديدة المجال أمام الشرعية لمواجهة سيناريوهات أسوأ؛ يتسع لها النهج الخياني لهذا التحالف الأرعن.
فقد تحملت الحكومة الأعباء السياسية والسيادية لتفاهمات استكهولم، دون أن تتمكن من ممارسة أية صلاحيات في أراض يفترض أنها تدخل ضمن صلاحياتها السيادية والدستورية. لقد ضغط الأمريكيون على ولي العهد السعودي، وبدوره أوعز للحكومة اليمنية للقبول بتوقيع اتفاق الحديدة ضمن عدة تفاهمات أخرى، كان ذلك في كانون الأول/ ديسمبر 2018، ثم وجدت الحكومة نفسها بعد ذلك عرضة للإملاءات، حتى على مستوى الفريق المفاوض الذي تشكل ضمن اللجنة المشتركة والتي ضمت ممثلين عن الحوثيين.
لم يكن أحد ينتظر من هذه الخليط غير المتجانس من القوات أن يحقق أهداف الدولة اليمنية في الساحل الغربي، والشعور بالإحباط تجاه دور العميد طارق صالح وقواته مستمر، لأن الأمر في تقديري يتعلق بنهج التحالف الذي أظهر نوايا مبكرة تجاه مصير الحرب في اليمن، الـتي قرر أن يخوضها بلا أهداف واضحة، وبواسطة مقاتلين تتجاذبهم أجندات وأهداف أنانية وعقائدية مشوهة.
يعزى ذلك إلى توجس التحالف غير المنطقي تجاه شركائه الحقيقيين، وفي مقدمتهم الجيش الوطني، وإمكانية أن ينجر هذا التحالف إلى ما يريد هذا الجيش تحقيقه وخلفه معظم الشعب اليمني، وهو استعادة الأرض والدولة والسيادة، لهذا خاض هذا التحالف حربه في الساحل الغربي دون أن يشرك الجيش الوطني
ويعزى ذلك إلى توجس التحالف غير المنطقي تجاه شركائه الحقيقيين، وفي مقدمتهم الجيش الوطني، وإمكانية أن ينجر هذا التحالف إلى ما يريد هذا الجيش تحقيقه وخلفه معظم الشعب اليمني، وهو استعادة الأرض والدولة والسيادة، لهذا خاض هذا التحالف حربه في الساحل الغربي دون أن يشرك الجيش الوطني. بل إن واحدا من أخطر أهداف هذا التحالف من وراء السيطرة على الساحل الغربي لمحافظة تعز بعيداً عن السلطة الشرعية، هو محاصرة القوة الجمهورية التي تقاتل في هذه المحافظة المحاصرة نيابة عن أكبر كتلة سكانية في البلاد، وتسعى بالفعل إلى هزيمة المشاريع الانقلابية والانفصالية.
إن ما جرى في الحديدة ربما يفسر كيف تمكن الحوثيون من الوصول الى
جنوب مأرب عبر أراض شاسعة من شمال غرب محافظة شبوة، ليعزف المجلس الانتقالي سيمفونيته المعتادة عن "المليشيا الإخوانية" التي تسلم البلاد للحوثيين، فيما أطلقت جماعة طارق، وهم الفرع الشمالي من القوات الموالية للإمارات، حملة تدعو الى توحيد الصف الجمهوري، لكن تركز همّ العميد طارق وقواته على الانتشار في المديريات الغربية لمحافظة تعز، ولنجده أخيراً يفسر الانسحاب من الحديدة، الذي لم يكن له فيه ناقة أو جمل، بأنه إعادة تموضع ورفد لجبهات أخرى وفتح جبهات جديدة، في ادعاءات ترقى إلى التزييف المكشوف.
إن أسوأ شيء في تطورات الحديدة أنها حيّدت اليمنيين وسلطتهم الشرعية، ورجّحت كفة المليشيات والجماعات التي تقاتل بالوكالة. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن القول إنها طبقت سيناريو الانسحاب والتخلي الماكر الذي قد نراه قريبا في مأرب وشبوة، حيث لا يزال التحالف يتواجد عبر الضربات الجوية للطيران الحربي، وهو أمر سيتحول معه التدخل العسكري للتحالف إلى حرب كاملة على اليمن وسلطتها الشرعية، وتمكين للنفوذ الإيراني وأدواته في المنطقة.
twitter.com/yaseentamimi68