نشر موقع "نيويورك ريفيو" الأمريكي دراسة مطولة حول نظام الفصل العنصري "الأبارتايد" الإسرائيلي، قال فيها إن عام 2021 قد يؤرخ له في المستقبل باعتباره عام تغيير الموجة لصالح النضال الفلسطيني.
وأضافت الدراسة التي أعدها طارق باقوني أن هذا العام شهد لأول مرة وصف الاحتلال باعتباره نظام فصل عنصري من منظمة إسرائيلية، كما أن هذه المنظمة المرموقة -وهو الأهم بنظر المؤلف- اعتبرت أنه لا يمكن اعتبار الفصل العنصري واقعا فقط في المناطق المحتلة عام 1967، بل هو واقع الحال في كل المناطق التي تسيطر عليها القوات الإسرائيلية في فلسطين التاريخية.
وتستعرض الدراسة معنى نظام الفصل العنصري عمليا بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي، باعتباره ليس مجرد اتهامات خطابية، بل واقعا حقيقيا يعيشه الفلسطينيون يوميا.
الجزء الثاني: دراسة: هكذا حارب الاحتلال النضال الفلسطيني بـ"الأبارتايد" (2)
الجزء الثالث: دراسة: ماذا يعني "الفصل العنصري" بالنسبة لإسرائيل؟ (3)
الجزء الرابع: دراسة: الاحتلال يمعن بـ"الأبارتايد" وتهجير الفلسطينيين (4/4)
وتنفرد عربي21 بنشر ترجمة كاملة للدراسة على أربعة أجزاء. وفي ما يلي الجزء الأول منه:
ماذا يعني الأبارتيد (الفصل العنصري) بالنسبة لإسرائيل؟
طارق باقوني
يتشكل إجماع متنام حول المصطلح، ليس من باب المقارنة الخطابية مع جنوب أفريقيا، وإنما وصفا لنظام هيمنة قائم على تقسيم فلسطين
الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر 2021
قد يفرد المؤرخون في المستقبل عام 2021 بكونه عام تغير الموجة لصالح النضال الفلسطيني، رغم أنه كان يصعب التنبؤ بذلك. فالشهور الأخيرة من عام 2020 كانت من بين الأحلك منذ عقود، حيث شهد إصرار الإدارة الأمريكية على تعزيز الرؤية التوسعية لليمين في إسرائيل، والتي سعت رويداً رويداً لتفكيك الاعتبارات المركزية التي تشكل القضية الفلسطينية: حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم التي أخرجوا منها عنوة في عام 1948، ووضع القدس كعاصمة لفلسطين، وحق تقرير المصير على الأرض التي تحتلها إسرائيل حالياً.
وبنهاية العام، أدارت مجموعة من الدول العربية ظهرها لفلسطين، وراحت تطبع علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع إسرائيل، على الرغم من استمرارها في احتلال فلسطين. بدا الشعب الفلسطيني كما لو أنه تعرض لهزيمة ساحقة بينما إسرائيل مستمرة في ضمها للأراضي المحتلة.
إلا أن الانفراجات جاءت بشكل غير متوقع. ففي كانون الثاني/ يناير 2021، أصدرت "بيتسيليم"، منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية الرائدة، تقريرا اختارت له عنوانا لا لبس فيه، هو: "منظومة للتفوق العرقي اليهودي من نهر الأردن إلى البحر المتوسط: هذا هو الأبارتيد".
وقال مؤلفو التقرير فيه إن مهمتهم التي انتدبوا لها منذ تأسيس المنظمة في عام 1989 –أي تسليط الضوء على الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان في المناطق المحتلة– لم تعد كافية. وبينوا في تقريرهم أن "الوضع قد تغير، وأن ما يحدث في المناطق المحتلة لم يعد بالإمكان معاملته كشيء منفصل عن الواقع في كل المساحة التي تخضع لسيطرة إسرائيل".
لم تكن قوة هذا التقرير تكمن في الاتهام الذي وجه لإسرائيل من منظمة إسرائيلية بأنها تمارس الأبارتيد، فقد كانت ييش دين، منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية الملتزمة بالدفاع عن الفلسطينيين الذين يعيشون تحت وطأة المنظومة العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية قد وجهت تلك التهمة قبل ستة شهور، وذلك أيضا ما فعله عدد من كبار الشخصيات العامة الإسرائيلية.
وبالفعل، لقد حذرت أصوات عديدة إسرائيلية ودولية لسنوات من أن الممارسات الإسرائيلية إذا ما تركت بدون حسيب ولا رقيب يمكن أن تشكل منظومة أبارتيد. إلا أن الشيء المختلف بشأن تقرير بيتسيليم كان تحديها لأسطورة منتشرة، أسطورة يتبناها الكثيرون في المجتمع الدولي، ومفادها أن حكم إسرائيل العسكري في المناطق الفلسطينية المحتلة يمكن أن يعامل كشيء منفصل بشكل أو بآخر عن دولة إسرائيل. ما فعلته منظمة "بيتسيليم" هو أنها صنفت إسرائيل باعتبارها نظاماً واحداً يحكم المنطقة بأسرها.
بعد ثلاثة شهور، أصدرت "هيومن رايتس واتش"، منظمة حقوق الإنسان الدولية الرائدة، هي الأخرى تقريرا شاملا أكد على ما ذكر آنفاً، واشتمل على تحليل قانوني مفصل، خلص إلى استنتاج ماحق يقول إن عتبة تاريخية قد تم تجاوزها: فالسلطات الإسرائيلية ترتكب جرائم ضد الإنسانية تأخذ شكل الأبارتيد واضطهاد الشعب الفلسطيني والتنكيل به.
ناهيك عن الأصل الجنوب أفريقي للمصطلح، يعتبر الأبارتيد محرما دوليا بموجب المعاهدة الدولية الخاصة بمنع جريمة الأبارتيد والمعاقبة عليها، وكذلك ميثاق روما لعام 1998 الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، والذي يحظر أيضاً جريمة التنكيل.
لتبرير زعمهم بأن ثمة أزمة، أشارت بيتسيليم و"هيومن رايتس واتش" إلى عدد من التطورات، ومنها: استمرار إسرائيل بحكم الأمر الواقع في ضم الأراضي الفلسطينية، قوانين الوضع الدستوري داخل إسرائيل والتي تشرعن التفوق العرقي اليهودي، وتمترس نظام التحكم الإسرائيلي بالفلسطينيين والهيمنة عليهم، وموت عملية السلام، وجهود الولايات المتحدة لإقرار وشرعنة هذا الواقع تحت ستار الالتزام الاسمي بحل الدولتين.
بالنسبة للمنظمتين كما هو لكثير من المحللين والنشطاء وصناع السياسة الآخرين، فإن ما جرت عليه العادة من اعتبار احتلال إسرائيل للضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وقطاع غزة أمراً مؤقتاً –وهو بذلك مسألة قابلة للحل في وقت ما خارج حدود وسيطرة دولة إسرائيل– لم يعد توصيفاً دقيقاً للواقع. إذ لا يوجد شيء يمكن الإشارة إليه فيما عدا تأبيد إسرائيل لسيطرتها على كل المنطقة كما عبرت عن ذلك منظمة بيتسيليم في تقريرها.
ثم انطلقت في شهر أيار/ مايو الانتفاضة التي درج الفلسطينيون على تسميتها "انتفاضة الوحدة"، وذلك رداً على تخطيط إسرائيل لطرد عدة عائلات فلسطينية من بيوتهم في القدس الشرقية. خلال أيام وجدت إسرائيل نفسها في مواجهة احتجاجات شعبية نظمها الفلسطينيون في القدس والضفة الغربية، رافقها استنفار جماهيري ضد العنف الذي تتبناه الدولة داخل المدن الإسرائيلية، وكذلك احتجاجات في المخيمات الفلسطينية وداخل المجتمعات الفلسطينية في الشتات. وبينما تكثف القمع الذي تمارسه السلطة الإسرائيلية في القدس وارتفعت وتيرة عنفها، عرض المتشددون في قطاع غزة الخاضع لسيطرة حماس اللجوء إلى المقاومة المسلحة، وأطلقوا رشقات من الصواريخ التي ضربت في أعماق إسرائيل ووصلت مواقع لم تكن قد وصلتها في المواجهات السابقة.
أدى هذا التصعيد لا محالة إلى رد عسكري غير متكافئ من إسرائيل. وحينما تمت الدعوة إلى هدنة كان ما لا يقل عن 248 فلسطينيا في غزة قد قتلوا، بما في ذلك ستة وستون طفلاً، بينما قتل ما يقرب من عشرة إسرائيليين من بينهم طفلان.
نقطة انفجار الانتفاضة كانت حي الشيخ جراح في القدس، والذي برز كعرض وفي نفس الوقت كرمز للمنظومة التي عرفتها منظمة بيتسيليم لحقوق الإنسان باعتبارها سلسلة ممتدة من المؤسسات القانونية والعسكرية والاقتصادية، التابعة مباشرة للدولة أو التي تعمل بالوكالة عنها، هدفها الأساسي هو تعزيز حيازة الأرض للمستوطنات اليهودية من خلال انتزاعها من الفلسطينيين وتشريدهم. بين عشية وضحاها غدا حي الشيخ جراح نموذجاً لما أحدثته الصهيونية في فلسطين منذ ما يزيد عن قرن من الزمن، فجاءت الانتفاضة عنواناً لرفض مساعي تلك المنظومة المستمرة منذ عقود لتقسيم الفلسطينيين وتشظية وحدتهم.
إن فهم الوضع في إسرائيل / فلسطين، ليس على أنه صراع ولا أزمة، وإنما باعتباره نظاماً للفصل العنصري (الأبارتيد) هو الفهم الأصح والتوصيف الأدق لما يعاني منه الفلسطينيون منذ زمن طويل. ما يجري حالياً من تصحيح ضروري لهذا الفهم إنما هو ثمرة نضال الفلسطينيين في المجال الحقوقي منذ أمد، وكان منتظراً حدوثه.
جرت العادة على توجيه تهمة ممارسة الأبارتيد لإسرائيل من خلال العودة تاريخياً إلى الوضع الذي كان قائماً في جنوب أفريقيا ما قبل عام 1994 وإسقاطه من باب المقارنة على الوضع في فلسطين. إلا أن الجديد في الأمر هو التوجه بشكل متزايد وبالغ الأهمية نحو فهم الأبارتيد الإسرائيلي بشكل منفصل وكمنظومة قائمة بذاتها.
ويعد تقرير منظمة هيومان رايتس واتش مساهمة مهمة جداً في هذا المجال، حيث يخلص إلى توصيف حالة قانونية، مسلطاً الضوء على الأبارتيد كجريمة منبثقة عن رغبة إسرائيل في إدامة هيمنة مجموعة عرقية واحدة على مجموعة عرقية أخرى.
يعود هذا النمط من الهيمنة في فلسطين إلى ما يزيد عن قرن من الزمن، وقد اكتسب مع مرور الوقت مواصفات تاريخية وجغرافية معينة خاصة به، لم تلبث أن نفذت إلى الآليات السياسية المعتمدة فيما يسمى عملية السلام. ولذلك فإن مهمة التعرف على مواصفات الأبارتيد الإسرائيلي شرط أساسي لتحقيق السلام العادل في فلسطين.
يعتبر تقريرا بيتسيليم وهيومان رايتس واتش كلاهما، وفي نفس الوقت، مؤشرين على بداية جديدة، كانت في واقع الأمر ثمرة للجهود التي ما فتئ الفلسطينيون وحلفاؤهم يبذلونها. قبل ما يقرب من عشرين عاماً، أثناء الانتفاضة الثانية، شاركت منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية الحق وبديل وعدالة، في مؤتمر ديربان العالمي سنة 2001 ضد العنصرية، والذي أطلق حملة عالمية ضد الأبارتيد لإنهاء "النمط الإسرائيلي من الأبارتيد".
أصدر المشاركون في المؤتمر، والذين مثلوا ما يقرب من ثمانمائة منظمة، بياناً أعلنوا فيه أن إسرائيل "دولة أبارتيد عنصرية" وطالبوا بممارسة "سياسة من العزل الكامل والتام لإسرائيل باعتبارها دولة أبارتيد كما كان عليه الحال مع جنوب أفريقيا".
بعد ذلك، وتحديداً في عام 2005، أطلق الفلسطينيون والنشطاء المناصرون لفلسطين ما أطلقوا عليه اسم "أسبوع الأبارتيد"، والذي تم تبنيه من قبل التيار العام عبر جامعات أوروبا والولايات المتحدة وحول العالم. ثم بعد عام من ذلك، واستلهاماً لتجربة حركة مناهضة الأبارتيد في جنوب أفريقيا، أطلق ائتلاف من المنظمات الفلسطينية في المناطق المحتلة حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، بي دي إس، كحركة ترفع راية النضال من أجل الحرية والعدالة والمساواة. ثم في عام 2007، قدم المقرر الأممي الخاص بالمناطق المحتلة، جون دوغارد، تقريراً لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أشار فيه إلى أن الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ زمن طويل يتضمن عناصر من الاستعمار والأبارتيد.
فما كان من مجلس أبحاث العلوم الإنسانية في جنوب أفريقيا، وانطلاقاً من هذا التصريح، إلا أن بادر بإجراء تحقيق قانوني خاص به، خلص منه إلى أن إسرائيل "باتت مشروعاً استعمارياً يطبق نظام فصل عنصري (أبارتيد)" داخل المناطق المحتلة.
وفي عام 2011، خلصت محكمة راسيل في كيب تاون (بجنوب أفريقيا)، وهي هيئة قضائية استقصائية مستقلة أسسها عدد من الشخصيات المرموقة الممثلة للعديد من البلدان بهدف رصد انتهاكات حقوق الإنسان التي لا يرغب المجتمع الدولي أو لا قبل له في التحقيق فيها، إلى أن "حكم إسرائيل على الشعب الفلسطيني، حيثما كان يقيم، يشكل جماعياً منظومة أبارتيد واحدة ومتكاملة".
وفي عام 2014، أعلم ريتشارد فولك الأمم المتحدة، في تقريره النهائي كمقرر خاص للأمم المتحدة في المناطق المحتلة، بأن الإجراءات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين تشكل منظومة أبارتيد. ثم ما لبث ريتشارد فولك في عام 2017 أن نشر بالتعاون مع شريكته في العمل فيرجينيا تيتلي تقريراً مهماً آخر تحت عنوان "الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الأبارتيد"، وصدر التقرير عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا.
خلص التقرير إلى أن إسرائيل أقامت نظام فصل عنصري (أبارتيد) وفرضته على الشعب الفلسطيني من خلال منظومة قانونية متراصفة وسياسة تنتهج التشظي الاستراتيجي. ثم في عام 2019، قدم ائتلاف من المنظمات الحقوقية الفلسطينية والإقليمية والدولية تقريراً "حول الأبارتيد الإسرائيلي" إلى لجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصري (وهي كيان تابع للأمم المتحدة تحت رعاية مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان). تحدث هذا التقرير عن ملامح نظام هيمنة متساوق يفرض نفسه على الفلسطينيين ككل، بما في ذلك على المواطنين منهم داخل إسرائيل وعلى اللاجئين في الشتات الذين ما لبثوا يحرمون من حق العودة إلى ديارهم منذ عام 1948.
كل هذا العمل مدين إلى حد كبير لعقود من النشاط الحقوقي الفلسطيني الذي لم يكل ولم يمل سعياً لتوسيع رقعة الاعتراف بأن إسرائيل نظام فصل عنصري (أبارتيد). إلا أن الاعتراف بهذه الجهود يثير تساؤلاً حول لماذا تطلب الأمر إقراراً من قبل المنظمات الحقوقية الإسرائيلية والدولية، تأكيداً على ما سعى الفلسطينيون منذ وقت طويل لإسماعه للعالم، حتى يجذب انتباه وسائل الإعلام العالمية وتتناوله في معالجاتها الرئيسية. ولكن، أياً كان الأمر، فإن ذلك لا ينقص من سلطان تلك اللحظة، والمتمثلة في بروز إجماع واسع جعل من الصعب إنكار تلك السمة التي تميز النظام الإسرائيلي أو تلك الوحدة الأصيلة للشعب الفلسطيني.
يهدد هذا الإدراك اعتقاداً ظل راسخاً لما يقرب من قرن من الزمن بأن تقسيم فلسطين، تلك الأرض الممتدة بين نهر الأردن والبحر المتوسط، هو السبيل إلى حل المعضلة الناجمة عن التطلعات اليهودية والفلسطينية نحو تقرير المصير.
ما غدا واضحاً وبشكل متزايد هو أن تبني التقسيم كحل للصراع – ناهيك عن أن يشكل أساساً لتسوية عادلة ودائمة – هو الذي مكن إسرائيل من انتهاج سياسات على مدى عقود هي التي شكلت واقع الأبارتيد الحالي.
كانت مقاربة التقسيم هي خلاصة ما تقدمت به لجنة بيل أيام الإمبراطورية البريطانية في عام 1937، والتي لاحظت متأخرة –بعد عشرين عاماً من وعد بلفور الذي ساعد في خلق المشكلة ابتداءً من خلال التصديق بشكل أحادي على إقامة وطن يهودي في فلسطين– أن "صراعاً يصعب السيطرة عليه قد نشأ بين مجتمعين قوميين داخل الحدود الضيقة لبلد صغير.... فالتطلعات القومية غير متوافقة.. ولا يسمح أي من النموذجين القوميين بعملية دمج تيسر إقامة دولة واحدة".
وبناء عليه، وبعد عقد من الزمن، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 181، والذي دعا إلى إقامة دولتين مستقلتين إحداهما عربية والأخرى يهودية (بالإضافة إلى "نظام دولي خاص يتعلق بمدينة القدس").
في ذلك الوقت، وبينما كانت أغلبية الدول الآسيوية والأفريقية ما تزال رازحة تحت نير الاستعمار، تم اقتراح التقسيم على الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي كانت قد تشكلت لتوها. وكما أشار فايز الصايغ، المفكر الفلسطيني الكبير، في دراسة له صدرت في عام 1965 تحت عنوان "الاستعمار الصهيوني في فلسطين" "لقد أريد غرس دولة غريبة في أرض تربط قارتي آسيا وأفريقيا بدون الحصول على موافقة أي من البلدان الأفريقية أو الآسيوية المجاورة".
بل لم يسع أحد إلى الحصول على موافقة الفلسطينيين، الشعب الذي رفض هو وقادته خطة التقسيم، والذين رأوا فيها أداة استعمارية جديدة لتبرير فرض إقامة كيان أجنبي في أراضيهم، على نسق الممارسات الاستعمارية التقسيمية التي كانت تنتهجها الإمبراطورية البريطانية في كل مكان.
إلا أن المعارضة الفلسطينية اعتبرت غير ذات قيمة ولم يؤبه لها. ولم يلبث الخط الأخضر، الذي يرسم حدود الهدنة التي أوقفت في نهاية المطاف الحرب بين إسرائيل وجيرانها من الدول العربية في عام 1949، أن ثبت التقسيم وجعله من تشريعات القانون الدولي، وذلك على الرغم من أن الأمم المتحدة كانت حينذاك قد حرمت الاستيلاء على الأرض بالقوة واعترفت بحق الفلسطينيين في حق تقرير المصير في تلك الأرض.
احتضنت الولايات المتحدة وغيرها من البلدان، الغربية منها بشكل خاص، دولة إسرائيل المستقلة، وأضفت مشروعية – من خلال الحصول على مباركة الأمم المتحدة – على الاستعمار الصهيوني لما يزيد عن ثلاثة أرباع أرض فلسطين.
على الرغم من كل التظاهر بأن التقسيم سيمهد الطريق أمام تسوية دائمة للصراع إلا أن العكس تماماً كان هو الصحيح كما أثبتت الأيام. فبعد اندلاع الحرب مجدداً في عام 1967، والتي نجم عنها اجتياح إسرائيل واحتلالها لأراض فلسطينية وسورية ومصرية، بدأ يبرز زوراً وبهتاناً تمييز بين "إسرائيل الأصلية"، أي البلد المقام داخل حدود عام 1948 – والتي غدت دولة تتمتع بعضوية كاملة في المجتمع الدولي ومشروع التوسع الاستعماري ما بعد الخط الأخضر.
يتجاهل هذا الفصل الوهمي الواقع التاريخي بأن مشروع الاستيطان المستمر منذ عقود خارج الخط الأخضر ما هو إلا استمرار لعملية القهر والإخضاع التي فرضت على أهل البلاد الأصليين، وهو واقع جرب واختبر وما زال مستمراً حتى هذا اليوم.
إذن، بالنسبة للفلسطينيين، لم تكن نقطة التحول التي تعرفت عليها كل من بيتسيليم وهيومن رايتس واتش في الواقع نقطة تحول على الإطلاق، وإنما معلم من معالم طريق طويل. فحتى قبل أن يبدأ الاحتلال الإسرائيلي اتهم الفلسطينيون إسرائيل بممارسة الأبارتيد ضد شعبهم. في دراسته المشار إليها آنفاً، والصادرة عام 1965، كتب الصايغ يقول: "بينما يقر رسل الأبارتيد من الأفريكانر في جنوب أفريقيا بخطيئتهم بكل جرأة، يلجأ ممارسو الأبارتيد الصهاينة في فلسطين إلى الخداع لإثبات براءتهم منه".
حينما وضع الصايغ دراسته تلك كان مواطنو إسرائيل من الفلسطينيين يعيشون تحت الحكم العسكري، وهم الذين وصفهم الصايغ بأنهم "البقية الباقية من الشعب العربي الفلسطيني الذين بقوا صامدين في ديارهم برغم كل الجهود التي بذلت لقلعهم منها وطردهم".
لئن كانت إسرائيل قد أنهت حكمها العسكري المفروض على الفلسطينيين داخل إسرائيل في ديسمبر من عام 1966، إلا أنها ما لبثت بعد ما يقرب من ستة شهور فقط أن فرضت نفس النظام تقريباً على الفلسطينيين الذين يعيشون في الجانب الآخر من الخط الأخضر.
كانت معاناة تلك البقية الباقية من الفلسطينيين، الذين يعاملون من الدولة التي تحكمهم كما لو كانوا طابوراً خامساً فيها، بمثابة الكبش الذي يقود القطيع في تحليل الصايغ، الذي أشار إلى الكيفية التي تعامل بها إسرائيل كل من خضع لسيطرتها من الفلسطينيين. لطالما اعتبر الفلسطينيون فكرة فصل "إسرائيل الأصلية" عن مشروعها داخل الأراضي التي احتلتها فيما بعد فكرة باطلة، ومن هنا جاء تركيز النضال الفلسطيني على تحرير فلسطين بأكملها. فكما ورد نص في ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، التي تأسست في عام 1964، فإن "فلسطين بحدودها التي كانت قائمة في عهد الانتداب البريطاني وحدة إقليمية لا تتجزأ".
وإن تقسيم فلسطين الذي جرى عام 1947 وقيام إسرائيل باطل من أساسه. .... ويعتبر باطلا كل من تصريح بلفور وصك الانتداب وما ترتب عليهما." إلا أنه بحلول منتصف سبعينيات القرن العشرين كان نضال منظمة التحرير الفلسطينية قد أخفق في تحقيق أي مكاسب استراتيجية، وبدأت قيادتها في البحث عن قنوات للدخول في مساومة، تمنح بموجبها الاعتراف لإسرائيل، ومعه القبول بالاستيطان الصهيوني في ثلاثة أرباع وطن الفلسطينيين، رجاء كسب الشرعية لدى المجتمع الدولي وتمهيد الطريق نحو تسوية دبلوماسية يحققون من خلالها تقريراً لمصيرهم في فضلة من أرض فلسطين التاريخية. وبهذا فقد تم بالضرورة استثناء المواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل –الذين أطلق عليهم الصايغ مصطلح "البقية الباقية"– من العملية السياسية، كما يطلق عليها، والتي انطلقت في سنوات عقد الثمانينيات من القرن الماضي.
بحلول ذلك الوقت، كان منطق التقسيم قد فرض نفسه، وبات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني محصوراً في المنطقة الواقعة خارج حدود إسرائيل التي كانت قائمة في عام 1948.
دراسة: ماذا يعني "الفصل العنصري" بالنسبة لإسرائيل؟ (3)
دراسة: هكذا حارب الاحتلال النضال الفلسطيني بـ"الأبارتايد" (2)
"الذئب الأزرق".. أداة إسرائيلية لتعقب الفلسطينيين بالضفة