أنواع الألغام وصعوبة تفكيكها
تزرع القوات المسلحة في أوقات الحروب أنواعا مختلفة من الألغام، سواء لمنع تقدم العدو من جهة القوات الدفاعية، أو لمنع استهداف ما تم استرجاعه من أراض في حالة القوات المعادية، أو لإجبار القوات المعادية على السير باتجاه معين يمكن استهدافها منه ومن ثم القضاء عليها.
وتتنوع الألغام بشكل عام إلى بحرية وأرضية، لكن الأكثر شهرة والأكثر تأثيرا على البشر هي تلك الألغام الأرضية التي تترك لسنوات عديدة وتظل خطرا مكنونا يهدد البشر بشكل عام، حتى بعد رحيل تلك القوات، ما يعني أن زارع تلك الألغام يعلم علما مسبقا أن أجيالا قد تتأثر بما يزرع، ومع ذلك فلا يأبه إلا بأن يحقق هدفه.
والألغام الأرضية نوعان على حد علمي، الأصل فيه ما هو مضاد للدبابات والمدرعات وحاملات الجنود، أو ما يسمى بمضادات الدروع، وهذا النوع ينفجر إذا مر عليه وزن أعلى من 150 كيلوغراما، أما النوع الثاني فهو مضاد للأفراد، وهو الذي يستخدم كما هو واضح من اسمه في منع تقدم الأفراد وينفجر في العادة مع الأوزان العادية أقل من 150 كيلوغراما.
وإن كان زرع الألغام عملية سهلة إلى حد ما، فإن عملية إزالتها وتفكيكها عملية غاية في الصعوبة والتعقيد، لا سيما فترة ما بعد الحروب مع غياب الخرائط واختلاط الأوراق وتموضعات القوى المختلفة على الأرض، فما يكلف به المهندسون في تفكيك تلك الألغام يحتاج إلى دقة ومهارة وتدريب وحذاقة ووعي لما يقومون به، وإلا سيكونون أول ضحايا تلك الألغام. لذا فإن عملية تفكيك حقول الألغام تتكلف كثيرا، سواء في تدريب تلك الطواقم، أو الأدوات التي يستخدمونها، أو في التعويضات المستحقة في حالة الخسائر المتوقعة جراء الأخطاء المحتملة من عمليات التفكيك وتطهير حقول الألغام.
صهيب عبد المقصود وتفكيك الألغام
بصوت هادئ ونبرة متزنة شاهد المصريون الشاب الذي لم يسمعوا منه منذ فترة طويلة في لقاء تلفزيوني، وإن كان الشاب حاضراً على مستوى جماعته ومجتمعه الشبابي اللذين ينشط فيهما منذ أكثر من عشر سنوات، حيث كان رئيساً لاتحاد طلاب كلية الإعلام ومتحدثاً رسمياً باسم اتحاد طلاب جامعة الأزهر، ومسؤول الملف السياسي والإعلامي في المكتب التنفيذي لاتحاد طلاب مصر بعد الثورة. واختاره شباب الجماعة متحدثا رسميا باسمهم في عموم الجامعات المصرية، ما دعا مكتب الإرشاد في حينها إلى الاستجابة لمطلب شباب الجماعة وعينه متحدثا باسم الشباب والطلاب في الإخوان، ما جعله حاضرا في العديد من المناسبات كممثل لصوت الشباب في كل ما يعني الجماعة من قرارات أو أزمات.
ويحظى صهيب بتوافق فرقاء الجماعة بعد الأزمتين الأخيرتين، لما كان له من مواقف تجميعية ودعوات تقريبية، ملتزما ما استطاع الحياد.
وفي أول ظهور رسمي له بعد ذلك الذي ألغي منذ أسبوع على شاشة الجزيرة من غير إبداء الأسباب، ما دفع إلى القيل والقال، لا سيما بعد الصورة الشهيرة والحميمية لرأس النظام في مصر مع أمير قطر والتي سُربت قبيل لقاء المتحدث الشاب مع القناة، ففي النهاية لا تعدم الجماعة منابرها، وظهر على قناة الحوار مع قطبها الأوحد الدكتور عزام التميمي في برنامجه حوار خاص.. قدم صهيب القيادة الجديدة في شخصه، متسلحا بالهدوء والتسامح والأمل والحماسة في نفس الوقت، والتي يحملها الشباب بين جنباتهم، لا سيما شباب التيار الإسلامي الواعي والمؤمن بقضيته والهدف الذي يعيش من أجله، وفي نفس الوقت يعي حجم التحديات وكم المعاناة التي يحملها المصريون والتيار ومن ثم الجماعة.
حاول الشاب بحنكة تحسب له جر الحوار إلى حيث يريد، والرسائل التي يريد، ومن خلفه بالطبع القيادة الجديدة للجماعة. وقد حاول عبد المقصود تفكيك الألغام التي دخل في حقلها، ومنها ما هو ثقيل يفجر المجتمع، ومنها ما يفجر الجماعة ومنها ما يعمل على إعاقة أفرادها وما يؤثر على الجماعة.
قدم المتحدث الرسمي للجماعة اعتذاراً للمعتقلين والمرابطين في مصر عما يحدث من أزمات داخل الجماعة، واعداً بعبور ما يحدث، ومؤكدا أن أزمات أشد قد مرت على الجماعة وعبرتها. واعترف بالأخطاء، مشددا على أن واجب الوقت يحتم مراجعتها ومن ثم عدم تكرارها، وأكد على أن الحاجة تتطلب مبادرة لإخراج المعتقلين السياسيين من كل التيارات، وهو ما يعني مشاركة كل التيارات الوطنية في صياغة هذه المبادرة، حيث أن قضية المعتقلين ليست خاصة بالجماعة بل هي قضية مصرية وإنسانية، على حد وصفه، ما يعني أن كل المعتقلين في خندق واحد وعلى الجميع العمل على حل أزمتهم.
ولعل حديث عبد المقصود المستفيض عن المعتقلين هو حديث لم الشمل وجمع الصف الثوري المصري، حيث أنها القضية الجامعة التي لا يختلف عليها اثنان من شركاء يناير، ما يظهر مساحة التقريب التي يجيد اللعب فيها الشاب الهادئ.
مجسدا الحالة التي دوما أراد أن يظهر بها، حاول صهيب عدم الطعن في المخالفين والمعترضين، بل وبرأ ذمتهم، مؤكدا أن ما يحدث هو خلاف لا يتعدى الخلاف اللائحي، الذي سينتهي بتحقيق يبين فيه كل طرف موقفه، وتفصل اللجنة في الأمر في إطار الأخوة التي حض عليها الإمام المؤسس، على حد تعبيره. وأشار إلى أن من تخندق مع تلك المجموعة بدأ يعود، ومن خرج من قبل مع الأزمة الأولى يتواصلون معه وعاد منهم الكثير. وهذه أراها رسالة يمررها الشاب الذي يحمل مستقبلا أراه واضحا في قيادة العمل العام في مصر لو أتيحت الفرصة إن شاء الله، مفادها أن "كل حلفائك تخلوا عنك يا ريتشارد"، مع الاعتذار لصناع فيلم صلاح الدين.
كما أن الرسالة لأفراد الجماعة أن نحن مسيطرون فدعونا نعمل، وللخارج أن لا تقلقوا علينا فالأمور إلى استقرار، وللنظام أن موتوا بغيظكم فنحن عائدون ونفكك حقول الألغام التي زرعتموها.
الحقل أكبر من أن يفككه فرد ولا جماعة
هذه الرسائل المهمة التي أرسلها صهيب عبد المقصود شملت أيضا رسالة للصف الإخواني بأن مراجعات حقيقية تتم، سواء على مستوى اللائحة أو التنظيم والإدارة وقواعد إفراز القيادات، والاستعانة بالكفاءات المهمشة، ما يطرح مزيدا من الأمل في حقول الألغام التي زرعها النظام من جهة، وأمراض الشيخوخة التي أصابت الجماعة مع الوقت في ظل ما يعرف بالقيادات التاريخية، مع كل الاحترام والتقدير لسنهم وخبراتهم، لكن الأمر حقيقة لا ينكرها إلا من يريد العودة إلى الوراء، ما يعني مزيدا من المشي في المكان بحجة المحافظة على الجماعة.
لكن هل حقا يستطيع إبراهيم منير ومتحدثه الشاب أن يفككا حقل الألغام الذي زرعته قيادات حتى لا يتقدم عليها مخترق؟ كما يطرح نفس السؤال عن حقل آخر داخل الحقل السابق زرعته الأنظمة السابقة من لدن الملك فاروق وحتى قائد الانقلاب الحالي.
لا يمكن أن ينكر عاقل أن الجماعة مخترقة، وهناك مستويات من الاختراق يبدأ من العضو العادي إلى القيادة العليا في المكاتب الإدارية ومجلس الشورى العام وحتى أعضاء مكتب الإرشاد، وهو أمر تحدث عنه الكثيرون من قبلي، ولما وصلت الجماعة إلى سدة الحكم، بل ومن قبلها، كانت الجماعة مستهدفة من مخابرات العالم.
لو شئنا لذكرنا بداية النشأة وموقف المخابرات الإنجليزية من الجماعة، والآن وبعد أن كبرت الجماعة وأصبحت تيارا فكريا يرتبط عضويا أو إداريا أو لا يرتبط، في أكثر من تسعين دولة حول العالم، فإن مخابرات العالم كله تنظر إليها، ولها أطماع فيها. ولو اتفقنا على أن الجماعة هي إحدى الجماعات الأهم في الإسلام الحركي، فإن تفكيك حقول الألغام أكبر من أن يفككها فرد ولا جماعة، بل تحتاج إلى جهود كل مسلم غيور من أجل الانعتاق من الاستعباد الذي فرضه علينا الغرب ووكلاؤه في لحظة ضعف لم ننفك منها.
من أين نبدأ وإلى أين ننتهي؟
وإذا كان الأمر كذلك فإن النظر إلى واجب المراجعة وإعادة التموضع هو حتمي، لكي نسأل أنفسنا سؤالين مهمين هما: من أين نبدأ؟ وإلى أين ننتهي؟
لكن قبل أن نذهب إلى الإجابة على هذين السؤالين، على الجماعة أن تتصالح مع نفسها ومع محيطها. لم أكن يوما منظما في الجماعة، لكني مهتم بأن تتعافى الجماعة مما أصابها من أمراض أثرت على كل غيور على دينه، طالما قدمت الجماعة نفسها على أنها أحد قلاع الحفاظ على الدين والهوية، في زمن التغريب ثم التصهين. ولما كانت ثورة يناير هي الحضن الجامع لمحبي الحرية لمصر، فإن أول خطوات التصالح يجب أن تكون مع شركاء هذه الثورة، ولتجمعنا أهدافها التي حملها شعارنا "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية". وهذه الأهداف بالمناسبة هي من صميم شريعتنا المنبثقة عنها هوية مجتمعنا المحافظ، بل المتدين بطبعه، ولو سفّه المصطلح من سفّه، لكنها الحقيقة التي يريدون أن يطمسوها، كي يعيشوا، فلأنهم لا يتمكنون من العيش في النظافة، فيسعون لتلويث كل شيء ولو شعبا بأكمله.
ولما كانت الجراح مثخنة، فعلينا أن نلملم شتات بعضنا كي نعالج تلك الجراح ولنبدأ بالأصغر، فإذا ما طاب ذهبنا لما هو أكبر حتى نطيب ويصح جسد الجماعة الوطنية ويطيب، وأول العلاجات هو النسيان وتجاوز المواقف (فكم من طعنة بالمداواة وبالوقت تهون).
فلاحظوا أن الجماعة الوطنية كلما ذهبت إلى التقارب وتجاوز الماضي، خرج المرجفون لينكأوا الجراح ولننجر إلى ما دفعونا إليه، والنتيجة تنزلق أقدام الوطن أكثر في الهاوية التي يأخذنا إليها النظام. لذا علينا أن نجتنب التكفير والتخوين، والتهوين والتهويل، ولنضع كل شيء في حجمه من أجل قراءة واقعية للحالة التي وصلنا إليها، متساوي الأوزان قابلين لأنفسنا قبل وطننا..
حالة سلام نفسي نقبل فيه بالآخر، واعين إلى أن هناك من يسعى لمصالحة بصناعة الطوائف ومجموعات المصالح المتربحة من أوجاع الوطن. ومن ثم علينا أن نفكر بطرق إبداعية لخلاص بلادنا مما هو جاثم على صدرها؛ لأن الثقل كبير والبحر عميق، ولا يقدر على إنقاذ الوطن إلا من حمل همّ الوطن بوعي، ما يعني مزيدا من الأفكار الإبداعية.
وأظن أن أجدر من يقوم بالمهمة هذه هم الشباب، فعلى الجميع تمكينهم. ولعل المرحلة السابقة قد أثقلتهم بما يكفي، ليعلموا أن ترك الجدل المهدر للأوقات يوفر وقتا أثمن لتحقيق الغايات. والغايات معلومة، حيث ننتهي إلى وطن حر ناهض، أما التفاصيل فلا يخوض فيها إلا من يريد تعويق المسير، والمسير قادم بالأمل والخير.. "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
خارطة طريق للقيادة الجديدة للإخوان المسلمين
أزمة الإخوان.. النفوس قبل النصوص
رؤية استراتيجية في تغير قيادة الإخوان بتركيا