بعد شهور من التوتر والتجاذب السياسي والمحاولات الانقلابية، سقط أول قتيل في مظاهرة سلمية في السودان تطالب برحيل العسكر، بدا المشهد وكأنه لمحة من الماضي القريب البعيد، انقلاب عسكري تواجهه مظاهرات سلمية يعترضها السلاح، فيسقط القتلى وينتهي حلم المرحلة الانتقالية، ليبدأ كابوس حكم انقلابي عسكري جديد.
لا شك أن الوضع من التعقيد بمكان في السودان لا يسمح معه لتقييم سطحي لما يحدث، ولكن الحقيقة التي لا يغطيها غربال، هي أن القيادة العسكرية أطاحت بالحكومة المدنية في غياب أي تفاهم دستوري أو شرعية انتقالية، وبغض النظر عن تقييم أداء الحكومة المدنية أو المواقف الشعبية منها، فإن الشعب السوداني حين خرج ضد نظام البشير، كان نداؤه الإطاحة بالسياسي العسكري، واليوم تعود البدلة العسكرية إلى الحكم وقد استبدلت من بداخلها.
ليست المشكلة في أن يكون الساسة من خلفية عسكرية، العديد من القادة حتى في الدول الديمقراطية العتيدة ارتدوا اللباس العسكري وتدرجوا في الرتب، ولكن آخر عهدهم بنياشينهم كان تحولهم نحو السياسة، فمن مبادئ الدولة الحديثة أن القيادة السياسية بصبغتها المدنية هي المرجعية، حتى في القرار العسكري. ولو تساءل أحدهم ما الفرق؟ فالإجابة بسيطة، العسكري مدرب على الطاعة العمياء والحلول الحاسمة، بينما ساحة السياسة هي مكان للحوار المجتمعي المنفتح والحلول التوافقية، الثقافة العسكرية مكانها ميدان المعركة الذي لا يحتمل إلا هذه المبادئ، ولكنها في عالم السياسة تصنع أنظمة شمولية تتعامل مع المخالف سياسيا تماما كما تتعامل مع العدو في الميدان، أو على أقل تقدير الجندي عند عصيانه للأوامر.
السودان يشهد اليوم انقلابا جديدا، وهو الذي لم يعدم الانقلابات التي يقودها الجيش سابقا، فمنذ انقلاب عبود عام 1958 ومرورا بانقلاب النميري 1969 وانتهاء بانقلاب البشير عام 1989، أنشأت الانقلابات العسكرية أنظمة متشابهة في المضمون مختلفة في الرايات، اتفقت على العنف والفساد واختلفت على الشعارات اليسارية والإسلامية.
ما زال الوقت مبكرا للحديث عن نظام جديد شكله هذا الانقلاب الأخير، وما زالت الفرصة سانحة لتحول في المشهد، ولكن البدلة العسكرية قلما تسمح لساكنها أن يغادر قصر الحكم إلا محمولا في نعشه أو إلى سجنه. الشعوب العربية يبدو أنها لا تخرج من دوامة المراحل الانتقالية الفاشلة ثم الحكم الشمولي العنيف. خيرا نرجو لسودان الطيبة والأمل وأهله.