كان الملياردير
الفلسطيني منيب المصري في لندن مؤخراً، حيث أعلن في مقابلة أنه استعان بمحامٍ لمقاضاة الحكومة البريطانية بشأن إصدارها
وعد بلفور في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، وعن "
الجرائم" التي ارتكبتها أثناء احتلالها الاستعماري لفلسطين. وقد أعرب المصري عن إيمانه العميق في عدالة النظام القانوني البريطاني، وأعرب عن أمله في أن تؤدي الإجراءات القانونية في النهاية إلى إجبار البريطانيين على الاعتذار.
لكن هذه ليست المحاولة الأولى من نوعها لإجبار البريطانيين على الاعتذار. ففي عام 2017، هددت السلطة الفلسطينية بمقاضاة
بريطانيا إذا لم تعتذر عن وعد بلفور الذي صادفت مئويته في ذلك العام. وقد جاء الرد البريطاني على لسان رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك، تيريزا ماي، التي أعلنت بكل وضوح عن فخرها بوعد بلفور وبدور بريطانيا في إقامة دولة إسرائيل على أنقاض فلسطين والفلسطينيين.
ولكن هل الاعتذار حقا هو ما يحتاجه الفلسطينيون من بريطانيا التي احتلت فلسطين لمدة ثلاثة عقود، فتحت خلالها بلاد الفلسطينيين على مصراعيها للاستيطان اليهودي، مما أدى إلى سرقة وطنهم وإنشاء المستعمرة الاستيطانية اليهودية؟ وماذا عن الفظائع المروعة التي ارتكبتها بريطانيا بحق الشعب الفلسطيني خلال ثلاثة عقود من الاحتلال، وخاصة خلال ثورته الكبرى في 1936-1939 ضد الاستعمار البريطاني والاستعمار الاستيطاني الصهيوني؟ ألا يجب على الفلسطينيين مطالبة بريطانيا بتعويضات عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها؟ لقد قام الكينيّون مؤخراً بالمطالبة بتعويضات عن أعمال القمع والتعذيب الأكثر رعباً ووحشية التي ارتكبتها بريطانيا بحق ثوار الماو ماو في الخمسينيات من القرن الماضي، أليس من الأفضل أن تنفق أموال المليارديرات الفلسطينيين في السعي وراء
تعويضات للشعب الفلسطيني من إنفاقها في سبيل تقديم اعتذار لا معنى له؟
هذه ليست المحاولة الأولى من نوعها لإجبار البريطانيين على الاعتذار. ففي عام 2017، هددت السلطة الفلسطينية بمقاضاة بريطانيا إذا لم تعتذر عن وعد بلفور الذي صادفت مئويته في ذلك العام. وقد جاء الرد البريطاني على لسان رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك، تيريزا ماي، التي أعلنت بكل وضوح عن فخرها بوعد بلفور وبدور بريطانيا في إقامة دولة إسرائيل
هل يمكن لاعتذار قد يجيء متأخرا قرنا ونيف أن يوازي تلك العذابات التي سببتها للشعب الفلسطيني والفظائع المروعة التي ارتكبتها في حقه، لا سيما خلال قمعها للثورة الفلسطينية، الذي كان مختلفا حتى عن نظام قمعها السابق للمقاومة الفلسطينية في العشرينيات والنصف الأول من الثلاثينيات؟ وذلك لا يعني أنها لم ترتكب جرائم ضد الفلسطينيين قبل الثورة - والتي كان آخرها في تشرين الأول/ أكتوبر 1933 عندما قامت الشرطة البريطانية بقتل 26 متظاهراً فلسطينياً غير مسلح في يافا وحيفا وجرح العشرات غيرهم - فقد كان قمع بريطانيا الوحشي أثناء الثورة الفلسطينية من صنف آخر تماماً.
لقد وثقت الصحافة الفلسطينية في ذلك الوقت والمؤرخون والثوار الفلسطينيون الكثير من هذه الفظائع، كما فعلت الصحافة البريطانية والدولية. لقد كان من أوائل أعمال التدمير الفظيعة التي قام بها الجيش البريطاني في حزيران/ يونيو 1936 هو تفجير جزء كبير من المدينة القديمة في وسط يافا، التي كانت المركز التجاري والثقافي الفلسطيني الرئيسي في ذلك الزمن، لإفساح المجال للمركبات العسكرية والجنود للسيطرة عليها ومنع الثوار من الاختباء في أزقتها الضيقة (تم تفجير 15 في المائة من المدينة بأكملها). كما دمر البريطانيون أجزاء من بلدة جنين الريفية في تشرين الأول/ أكتوبر 1938. وشمل القمع البريطاني أيضاً حظر الأغاني الوطنية الفلسطينية ورفع العلم الفلسطيني والمواكب المناهضة للاستعمار. وقد قامت بريطانيا بفرض رقابة صارمة على الصحف وإغلاق الكثير منها لسنوات، بالإضافة إلى ترحيل الصحفيين الأجانب الذين كانوا يغطون الفظائع البريطانية.
وثقت الصحافة الفلسطينية في ذلك الوقت والمؤرخون والثوار الفلسطينيون الكثير من هذه الفظائع، كما فعلت الصحافة البريطانية والدولية
فبينما كان الثوار الفلسطينيون في الحقبة الأولى من الثورة قد أسقطوا عدة طائرات حربية تابعة لسلاح الجو الملكي كانت تحلق على ارتفاع منخفض في أيلول/ سبتمبر 1936، قام مقاتلون فلسطينيون باغتيال مفوض المقاطعة البريطانية في الجليل لويس أندروز وحارسه الشخصي البريطاني، في مدينة الناصرة في أيلول/ سبتمبر 1937.
وكان أندروز، وهو أسترالي من غلاة الصهاينة البروتستانتيين، قد جاء إلى فلسطين محارباً ضمن الغزو البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى، وكان يدعو إلى الاستيطان اليهودي في الجليل ويدعمه، حيث لم تكن يد المستوطنين قد طالت أجزاء تذكر من منطقة الجليل في حينه. ونتيجة لمواقفه وأفعاله هذه استحق أندروز كراهية خاصة من الفلسطينيين. كما خطط أندروز أيضاً لإنشاء منظمة عسكرية يهودية لقمع المقاومة الفلسطينية. وقد كان من المتوقع أيضاً أن يقوم أندروز، تماشياً مع تقرير لجنة بيل البريطانية الصادر في عام 1937 والذي أوصى بتقسيم فلسطين، بطرد الفلسطينيين من منطقة الجليل وتسليم أراضيهم لليهود.
وقد ألقى البريطانيون القبض على قتلة أندروز، واعتقلوا مئات الفلسطينيين في هذه العملية وعرضوهم للتعذيب الشديد، بما في ذلك العنف الجنسي والاغتصاب، ضد النساء والرجال (كان البريطانيون يهتكون عرض السجناء السود الكينيين في الخمسينيات من القرن الماضي بطريقة مماثلة). وقد قام أسترالي آخر كان يعمل في حكومة الانتداب، بالخروج إلى شوارع القدس حاملاً مسدساً في يده وقتل جميع الفلسطينيين الذين صادفهم في طريقه، انتقاماً لمقتل أندروز. أخفى البريطانيون المجزرة التي ارتكبها، وأخرجوه من البلاد وأعادوه إلى المستعمرة الاستيطانية الأسترالية.
وصف السجين السياسي الفلسطيني صبحي الخضرا في تقرير كتبه في آب/ أغسطس 1938 أنواع التعذيب الجنسي وغيره من أنواع التعذيب البريطاني:
أساليب التعذيب كانت مدفوعة بـ"الثأر والتنفيس عن أشد الغرائز وحشية وهمجية، وتعبيراً عن روح الكراهية المركزة التي يكنها ذوو الرقاب الحمراء تجاه المسلمين والعرب، إذ كانوا يقصدون التعذيب من أجل التعذيب وإشباع شهوة الانتقام عندهم، لا من أجل التحقيق أو الكشف عن الجرائم"
"وتتنوع أنواع التعذيب المستخدم، فمن بينها الضرب باللكمات و[الوطء] بالأحذية الثقيلة.. إلى جانب استخدام العصي للضرب والجلد حتى الموت. وكان من بينها أيضا.. إيلاج عصاً في فتحة الشرج للضحية ثم تحريك العصا يمنة ويسرة وإلى الأمام والخلف. ومنها الضغط على الخصيتين باليدين وعصرهما حتى يفقد الضحية وعيه ألماً، وحتى تتضخما إلى الحد الذي يجعل الضحية عاجزاً عن السير إلا إذا نقل رجلاً بعد رجل.. وكان منها أيضاً تجويع الكلاب جوعاً شديداً ثم حفزها ودفعها إلى التهام لحم الضحية وقضم قطع من فخذيه. وكان من بينها أيضاً التبول في وجوه الضحايا.. [وكان من بين أشكال التعذيب الأخرى قيام الجنود] بارتكاب اللواط مع الضحايا، إذ كان ذلك، فيما يبدو، قد حدث لعدد من الأشخاص".
وأضاف الخضرا أن أساليب التعذيب كانت مدفوعة بـ"الثأر والتنفيس عن أشد الغرائز وحشية وهمجية، وتعبيراً عن روح الكراهية المركزة التي يكنها ذوو الرقاب الحمراء تجاه المسلمين والعرب، إذ كانوا يقصدون التعذيب من أجل التعذيب وإشباع شهوة الانتقام عندهم، لا من أجل التحقيق أو الكشف عن الجرائم". وقد نُشر تقرير الخضرا في الصحف العربية في حينه، وأُرسل إلى أعضاء البرلمان البريطاني.
وقد أصبح العقاب الجماعي ضد البلدات والقرى الفلسطينية السياسة المتبعة، كما كان الحال مع التدمير السابق لمدينة يافا القديمة، إضافة إلى استخدام عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء والهدم الجماعي لمنازل الفلسطينيين.
يوثق المؤرخ البريطاني ماثيو هيوز العديد من هذه الفظائع في كتابه عن "تهدئة" بريطانيا لفلسطين. يخبرنا أن استخدام لغة التفوق العرقي الأبيض ضد الثوار كان شائعاً بين الجنود والضباط البريطانيين. وكان قد تم استخدام المدنيين الفلسطينيين كدروع بشرية لحماية الجنود البريطانيين من الثوار في القطارات والمركبات العسكرية، كما تم سجن المعتقلين الفلسطينيين في أقفاص تحت الشمس، حيث مات الكثير منهم من العطش وأشعة الشمس.
كما استخدم البريطانيون السخرة لإجبار الأسرى الفلسطينيين على بناء الطرق، وفرضوا عقوبات مالية على عائلاتهم. وقد تم وضع الفلسطينيين في معسكرات اعتقال، خلف أسلاك شائكة في المستعمرات اليهودية، حيث كان المستوطنون يقومون بإذلالهم. ويكشف هيوز أن "الجنود والشرطة اعتقلوا 528 ألف شخص، لفترات زمنية متفاوتة من أيام إلى سنوات، بعضهم سجن أكثر من مرة، في أماكن مختلفة، وهذا المجموع - الذي تجاوز إجمالي السكان الذكور المسلمين في فلسطين عام 1938 - لا يشمل أي من الاعتقالات التي تمت ما بين شهر كانون الأول/ ديسمبر 1936 وشهر آب/ أغسطس 1937. وهي تعادل 37 في المائة من مجموع سكان فلسطين في عام 1938".
وقد قام جنود وحدة المشاة "بنادق ألستر الملكية"، التي تشكلت من المستوطنين البروتستانت من شمال أيرلندا التي استوطنتها بريطانيا، بقتل الفلسطينيين في قرية البصة في 6-7 أيلول/ سبتمبر 1938، إثر مقتل أربعة جنود بريطانيين في لغم أرضي زرعه الثوار خارج القرية. وقد قتل جنود ألستر 50 رجلاً فلسطينياً بالمتفجرات، وأحرقوا قرية البصة بأكملها، وأجبروا الناجين على حفر مقبرة جماعية للضحايا. وتلا ذلك مجازر أخرى في بلدتي حلحول وبيت ريما. وقد كتب ضابط في الجيش البريطاني في عام 1938 بعد مقتل جنديين من وحدة المشاة الأسكتلندية الملكية، والذي ردت عليه الوحدة بتفجير نصف قرية فلسطينية: "أسفنا الوحيد هو أننا لم يُسمح لنا بتسوية القرية بأكملها بالأرض.. بالتأكيد أنها الطريقة الوحيدة للتعامل مع هؤلاء".
جند البريطانيون المستوطنين اليهود لقمع وقتل الفلسطينيين، وقد استخدموا أيضاً أعداداً هائلة من الشرطة اليهودية في جهاز شرطة الانتداب. وقد طالبت القيادة الصهيونية البريطانيين بالسماح للمستعمرين اليهود بالانضمام إلى البريطانيين والقيام "بدور فاعل" في قمع الثورة الفلسطينية
كما جند البريطانيون المستوطنين اليهود لقمع وقتل الفلسطينيين، وقد استخدموا أيضاً أعداداً هائلة من الشرطة اليهودية في جهاز شرطة الانتداب. وقد طالبت القيادة الصهيونية البريطانيين بالسماح للمستعمرين اليهود بالانضمام إلى البريطانيين والقيام "بدور فاعل" في قمع الثورة الفلسطينية، ورد الجيش البريطاني بشكل إيجابي وسلح المستعمرات اليهودية، ودرب المستوطنين على كيفية استخدام الأسلحة التي زودوهم بها.
كان أحد أكثر مظاهر التعاون أهمية هو "فرق الليل الخاصة"، التي نظمها الضابط البريطاني أورد وينغيت في عام 1938. فقد طلبت بلدية مستعمرة تل أبيب اليهودية من البريطانيين إنشاء "فرق ليلية خاصة" يتم تمويلها من الأموال اليهودية، وكذلك من شركة الكهرباء الفلسطينية المملوكة لليهود وشركة نفط العراق البريطانية. كان النقيب وينغيت، وهو صهيوني بروتستانتي متعصب، في ذلك الوقت ضابطاً في مخابرات الجيش وقد قاتل الثوار الفلسطينيين في الجليل. وقد نشطت فرق موت وينغيت اليهودية في الجليل من حزيران/ يونيو إلى كانون الأول/ ديسمبر 1938، مستخدمة الإرهاب ضد القرويين الفلسطينيين. وقامت بقتل فلسطينيين تعسفياً دون محاكم، وألقت قنابل يدوية على منازلهم، وكانت ترغم الرجال الفلسطينيين على الاصطفاف خارج منازلهم في القرى. وكانت فرق الموت اليهودية تطلق النار على كل رجل ثامن من بينهم لإثارة الرعب في البقية.
وبعد هجوم فلسطيني على المستوطنين اليهود في طبريا، أطلقت فرق الموت اليهودية النار على السكان الفلسطينيين في قرية الدبورية، الذين لم تكن لهم علاقة بالهجوم. وقاموا بجلد قرويين من الذكور، ووضعوا التراب المبلل بالنفط في أفواههم بعد أن فجر الثوار خط أنابيب شركة نفط العراق المملوكة لبريطانيا.
وقد ألقت الشرطة اليهودية قنابل على تلاميذ المدارس فقتلت ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم بين ست وسبع سنوات، ثم قتلت رجلاً أثناء الصلاة، وقتلت بالرصاص جدة تحمل حفيدها البالغ من العمر عامين، وقد أصيب الطفل، ثم شرعوا في إطلاق النار على جميع الرجال. كانت هناك عشرات المليشيات اليهودية المختلفة التي تعمل بالفعل في البلاد داخل وخارج المستعمرات اليهودية، والتي تلقت دعماً بريطانياً. وقد عمل جنود هذه المليشيات كمساعدين لعدد كبير من الشرطة اليهودية الذين حلوا محل الضباط العرب الفلسطينيين الذين تركوا الخدمة خلال الثورة.
إجمالاً، منذ بداية قمع البريطانيين للثورة حتى إخمادها بالكامل في ربيع عام 1939، قُتل ما يقرب من تسعة آلاف فلسطيني (قُتل ما بين 900-1500 منهم على أيدي الثوار لتعاونهم مع البريطانيين والصهاينة) وجرح ما بين 29 ألفا و35 ألفا. في المجموع، قتل البريطانيون ما لا يقل عن عشرة في المائة من السكان الذكور الفلسطينيين البالغين. وقد حكمت محاكم عسكرية بريطانية على 110 من الثوار الفلسطينيين بالإعدام، وتم شنقهم بالفعل.
بدلاً من تمويل الدعاوى القضائية لانتزاع اعتذار غير محتمل تقديمه من قوة استعمارية غير نادمة على جرائمها مثل بريطانيا، ينبغي انتهاج مسار المطالبة بتعويضات عن الجرائم وأعمال التدمير التي ارتكبها البريطانيون ضد الشعب الفلسطيني
بالنظر إلى هذا السجل البريطاني المروع من الفظائع، هل يكفي الفلسطينيين مجرد اعتذار بريطاني؟ فبدلاً من تمويل الدعاوى القضائية لانتزاع اعتذار غير محتمل تقديمه من قوة استعمارية غير نادمة على جرائمها مثل بريطانيا، ينبغي انتهاج مسار المطالبة بتعويضات عن الجرائم وأعمال التدمير التي ارتكبها البريطانيون ضد الشعب الفلسطيني. ويمكن أن يشمل ذلك، بالإضافة إلى الحكومة البريطانية، دعاوى قضائية ضد الشركات والبنوك وشركات التأمين التي كانت متواطئة في هذه الفظائع.
فبينما يُعجب المرء بالتزام الثمانيني منيب المصري وتعهده "ألا ألفظ أنفاسي إلا وقد استرددت حقي وحق أبناء شعبي"، سيكون من الأفضل، لا سيما بحلول الذكرى الرابعة بعد المائة لوعد بلفور بعد بضعة أيام، إنفاق أموال المصري وجهوده في المطالبة بتعويضات للشعب الفلسطيني وفرض عقوبات مالية على بريطانيا، بدلا من مجرد انتزاع اعتذار واهٍ لن يأتي.