يقولون (الرئيس عبد الفتاح
السيسي، وحكومته، ومجلس نوابه، وإعلامه) أنهم يبنون "الجمهورية الجديدة".. وأقول: إنهم يبنون شيئا غير طبيعي، يبنون الوهم، فما يجري إعادة تجربة ما جرى إثبات فشله مرات على مدار قرن من الزمن.
سأقدم مثلا واحدا، وقد أعود لأقدم آخرى.
* * *
في كل الدول الحديثة، هناك حاجة لقانون "استثنائي" تلجأ إليه السلطة، وقد يتفهمه المجتمع والأفراد، لمواجهة الحالات الـ"غير طبيعية"، لكن المنطق الذي يستوجب القيام بذلك، يقتضي أن يكون ذلك لأسباب ظاهرة الوضوح، ولفترة زمنية تحددها طبيعة تلك الحالات.
هناك حاجة لقانون "استثنائي" تلجأ إليه السلطة، وقد يتفهمه المجتمع والأفراد، لمواجهة الحالات الـ"غير طبيعية"، لكن المنطق الذي يستوجب القيام بذلك، يقتضي أن يكون ذلك لأسباب ظاهرة الوضوح، ولفترة زمنية تحددها طبيعة تلك الحالات
وعملا بهذا فقد أصدر الملك فؤاد الأول؛ عقب إعلان الدستور، "قانون نمرة 15 لسنة 1923 بنظام الأحكام العرفية"، الذي نصت مادته الأولى على أنه "يجوز إعلان الأحكام العرفية كلما تعرض الأمن أو النظام العام في الأراضي
المصرية أو في جهة منها للخطر، سواء كان ذلك بسبب إغارة قوات العدو المسلحة أو بسبب وقوع إضرابات داخلية"، ثم أدخلت على القانون تعديلات (1940، 1944) أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانت الأراضي المصرية، التي يحتلها الجيش البريطاني، مهددة من قبل قوات المحور (ألمانيا وإيطاليا).
ثم جاء، عقب حريق القاهرة (26 كانون الثاني/ يناير 1952) أغرب تعديل على قانون الأحكام العرفية، وهو "مرسوم بقانون رقم 64 لسنة 1952"، وهذا هو النص (الفريد، التحفة): "ولا يسمع أمام أية جهة قضائية أية دعوى أو طلب أو دفع يكون الغرض منه الطعن في أي إعلان أو تصرف أو أمر أو تدبير أو قرار، وبوجه عام أي عمل أمرت به أو تولته السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية أو مندوبوها، وذلك سواء أكان هذا الطعن مباشرة عن طريق المطالبة بإبطال شيء مما ذكر أو بسحبه أو بتعديله أو بوقف تنفيذه، أم كان الطعن غير مباشر عن طريق المطالبة بتعويض أو بحصول مقاصة أو بإبراء من تكليف أو التزام أو برد مال أو باسترجاعه أو باسترداده أو باستحقاقه أو بأية طريقة أخرى".
* * *
من عجائب الأمور، وربما من طبيعتها في قراءة أخرى، أن الملك فاروق الأول؛ الذي أصدر هذا التعديل على قانون الأحكام العرفية في أيار/ مايو 1952، تعرض (على الرغم من كل، وربما بسبب كل هذه "التقييدات، الاستثناءات، العرفية) إلى ثورة/ انقلاب/ حركة، أطاحت بحكمه بعد أقل من شهرين.
* * *
وكانت "الثورة/ الانقلاب/ الحركة" بطبيعة الحال: استثنائية، خارجة على الأحوال الطبيعية، فعدلت في قانون الأحكام العرفية، ثم بعد أن أضحت صفتها الغالبة، الظاهرة، أنها ثورة تحقق منجزات ومتغيرات هائلة في الواقع المصري والعربي والعالمي، كان من مسعاها أن "تحمي" نفسها، وتلطف من وقع الكلمات، فسنت قانون الطوارئ (القانون رقم 162 لسنة 1958 في شأن قانون الطوارئ) الذي نحيا في ظله من وقت صدوره، إلا للحظات عابرة، فارقة، وملهمة، رفعت فيها حالات الطوارئ.
سأذكر لحظتين: فقبل أشهر قليلة من اغتياله، في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1981، رفع الرئيس أنور السادات
حالة الطوارئ، معلنا أن الأوضاع في البلد أمست طبيعية.
الواقع أنه كما حدث الأمر مع الملك فاروق، وقام ضباط الجيش بثورتهم، بينما الأحكام العرفية مشددة، فإن قطاعات واسعة للغاية من الشعب المصري، من مختلف التوجهات والأفكار، ثارت على حسني مبارك، وهو يستند لقانون الطوارئ
اللحظة الثانية جاءت مع نهاية أيار/ مايو 2012، حين أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة قرارا بانتهاء حالة الطوارئ، ومعلنا، في بيان رسمي "التعهد بحفظ الأمن في مصر لحين تسلم الرئيس الجديد (الرئيس محمد مرسي) بالرغم من رفع حالة الطوارئ".
والواقع أنه كما حدث الأمر مع الملك فاروق، وقام ضباط الجيش بثورتهم، بينما الأحكام العرفية مشددة، فإن قطاعات واسعة للغاية من الشعب المصري، من مختلف التوجهات والأفكار، ثارت على حسني مبارك، وهو يستند لقانون الطوارئ.
* * *
أحكام الطوارئ
حددت "المادة 154" من الدستو المصري المعدل (18 كانون الثاني/ يناير 2014) أحكام الطوارئ، وهذا نصها:
"يعلن رئيس الجمهورية، بعد أخذ رأي مجلس الوزراء حالة الطوارئ، على النحو الذي ينظمه القانون، ويجب عرض هذا الإعلان على مجلس النواب خلال الأيام السبعة التالية ليقرر ما يراه بشأنه. وإذا حدث الإعلان في غير دور الانعقاد العادي، وجب دعوة المجلس للانعقاد فورا للعرض عليه. وفي جميع الأحوال تجب موافقة أغلبية عدد أعضاء المجلس على إعلان حالة الطوارئ، ويكون إعلانها لمدة محددة لا تجاوز ثلاثة أشهر، ولا تمد إلا لمدة أخرى مماثلة، بعد موافقة ثلثي عدد أعضاء المجلس. واذا كان المجلس غير قائم، يعرض الأمر على مجلس الوزراء للموافقة، على أن يعرض على مجلس النواب الجديد في أول اجتماع له. ولا يجوز حل مجلس النواب أثناء سريان حالة الطوارئ".
والواقع أن الرئيس عبد الفتاح السيسي، وحكوماته المتعاقبة (إبراهيم محلب، شريف إسماعيل، مصطفي مدبولي) وبرلمانييه، يتحايلون صراحة وبفجاجة مطلقة على النص الدستوري، فحالة الطوارئ متواصلة دون انقطاع، إلا لبضعة أيام، وهي حيلة تنعدم معها أية صفة دستورية وقانونية للإجراءات المتبعة. فالنص صريح للغاية: "ويكون إعلانها لمدة محددة لا تجاوز ثلاثة أشهر، ولا تمد إلا لمدة أخرى مماثلة". ما الذي يفعله السيسي؟ يعلن حالة الطوارئ، ويمدها فور نهاية الثلاثة أشهر، وحين تنتهي "المدة" ينتظر بضعة أيام (يومين أو ثلاثة على الأكثر) ثم يعلن حالة الطوارئ لثلاثة أشهر، تمد تلقائيا دون حاجة لإجراء، بعدها ينتظر.. ثم يعلن، فيمد، ثم ينتظر.. فيعلن، فيمد. في كل دورة من هذه يدرك جميع هؤلاء جيدا أن هناك تحايل صارخ، وفج، ومقيت.
عبد الفتاح السيسي، وحكوماته المتعاقبة (إبراهيم محلب، شريف إسماعيل، مصطفي مدبولي) وبرلمانييه، يتحايلون صراحة وبفجاجة مطلقة على النص الدستوري، فحالة الطوارئ متواصلة دون انقطاع، إلا لبضعة أيام، وهي حيلة تنعدم معها أية صفة دستورية وقانونية للإجراءات المتبعة
* * *
الأسوأ، والذي يعاند تجارب المصريين طوال قرن من الزمن، أن الرئيس السيسي أدخل، في 27 نيسان/ أبريل 2017، تعديلات على "بعض أحكام القانون رقم 162 لسنة 1958 في شأن قانون الطوارئ"، تضمنت نصوصا أطلقت يد السلطة في القبض على من تشاء، وللمدة التي تراها كافية، ويمكن وفق هذا التعديل القبض على من ارتكب مخالفة مرورية لزمن غير محدد، وهذا هو النص: "لمأمورى الضبط القضائي متى أعلنت حالة الطوارئ التحفظ على كل من توافرت في شأنه دلائل على ارتكابه جناية أو جنحة".
جنحة؟ القبض على من ارتكب جنحة؟..
إلى متى؟
"يجوز بعد استئذان النيابة العامة احتجازه لمدة لا تجاوز سبعة أيام لاستكمال جمع الاستدلالات، على أن يبدأ التحقيق معه خلال هذه المدة".
"يجوز لمحاكم أمن الدولة الجزئية طوارئ، بناءً على طلب من النيابة العامة، احتجاز من توافر في شأنه دلائل على خطورته على الأمن العام لمدة شهر قابلة للتجديد".
شهر قابل للتجديد؟ قابل للتجديد كم مرة؟
قابل لتجديد مفتوح، غير محدد، يمكن إلى نهاية حياته، إلى الأبد.
* * *
الجمهورية الجديدة تقتات على الكوارث والأوبئة، وتحيا خارج المنطق، والحياة الطبيعية.
هكذا نفهم من التعديل الثاني الذي أجراه الرئيس السيسي، في 6 أيار/ مايو 2020، بتعديل بعض أحكام القانون رقم 162 لسنة 1958 في شأن حالة الطوارئ، مرتكزا على تفشي وباء كوفيد- 19، لكنه وإذ توسع في إجراءات يمكن أن تفسر على أنها "ضرورية لمكافحة الوباء"، مد نهجه "الاستثنائي، الأصيل" إلى نهايته القصوى؛ فقد نص القانون على الآتي:
"تتولى قوات الأمن أو القوات المسلحة تنفيذ الأوامر الصادرة من رئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه، فإذا تولت القوات المسلحة هذا التنفيذ يكون لضباطها ولضباط الصف بها اختصاصات مأموري الضبط القضائي.
وتختص النيابة العسكرية بالتحقيق في الوقائع والجرائم التي يتم ضبطها بمعرفة القوات المسلحة.
ويجوز لرئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه أن يسند الاختصاص بالتحقيق الابتدائي في الجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكام هذا القانون إلى النيابة العسكرية.
ومع عدم الإخلال باختصاصات النيابة العسكرية، تختص النيابة العامة في جميع الأحوال دون غيرها بالتصرف النهائي في التحقيق".
سينتهي الوباء، لكن هذه الفقرات من القانون ستظل باقية إلى..
كانت منظمات حقوق الإنسان الدولية قد حذرت الحكومات والدول من الاستناد إلى التدابير "الضرورية" لمكافحة الجائحة كي تعصف بحقوق الإنسان
* * *
قبل نحو أسبوع من إصدار الرئيس السيسي تعديله هذا، كانت منظمات حقوق الإنسان الدولية قد حذرت الحكومات والدول من الاستناد إلى التدابير "الضرورية" لمكافحة الجائحة كي تعصف بحقوق الإنسان، فهناك إقرار بأن الوضع الذي يتسبب به وباء كوفيد- 19 يتطلب في العديد من البلدان في جميع أنحاء العالم اتخاذ تدابير استثنائية لحماية صحة السكان ورفاههم. ولكن نبهت إلى أنه "حتى في حالات الطوارئ العامة، يجب أن تستند هذه التدابير إلى سيادة القانون"، وأنه "يجب استخدام الصلاحيات التي تمنحها حالة الطوارئ ضمن إطار المعايير التي ينص عليها القانون الدولي لحقوق الإنسان، ولا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي يقر بأن الدول قد تحتاج إلى صلاحيات إضافية لمعالجة الحالات الاستثنائية، على أن تبقى محددة في الزمن، وألا تُمارس إلا على أساس مؤقت وأن تهدف إلى العودة إلى الحياة الطبيعية في أقرب وقت ممكن".
* * *
الإجراءات الاستثنائية، حالة الطوارئ، الحياة غير الطبيعية.. ليست مؤقتة، ولا تهدف إلى العودة إلى الحياة الطبيعية، لا في وقت قريب ولا وقت بعيد، إنها ليست فقط مستمرة، لكنها متجددة، يتواصل تشددها، وعدم معقوليتها، وبغيها.