ست ساعات من العطل غير المسبوق في خدمات عدد من منصات التواصل الاجتماعي أشهرها "فيسبوك" و"أنستغرام" و"واتساب" أعادت تذكير مئات الملايين حول العالم بالحيز الذي صارت تشغله هذه المواقع في حياتنا، وأطلقت الخيال حول شكل هذا العالم لو اختفت منه هذه المواقع.
ليس لعاقل منصف أن ينكر الإضافة الإيجابية لهذه المواقع في حياتنا، فقد عززت التواصل بين البشر، وصار بوسع المرء أن يتواصل مع أهله وأحبائه في أقصى الأرض كما لو كان بينهم ويشاركهم حياتهم وأخبارهم لحظة بلحظة.
هذه المواقع فجرت الطاقات المدفونة ومنحت منبرًا لمن لا منبر لهم للكتابة والتعبير والإبداع، وكم من ذي قدرة مغمور أظهرته هذه المواقع دون حاجته إلى مال ومنبر رسمي مما يقتضيه الإعلام التقليدي، كل ما يقتضيه الإعلام الجديد هو امتلاك قدرة جذب للناس وهمة للعمل والانتشار.
هذا الفضاء يحسب له أنه رفع مستوى الشجاعة في المجتمعات، وحطم كثيرًا من دوائر المسكوت عنه والمحرم مناقشته، ويسر تشكيل الآراء والتوجهات، وقد ساهمت هذه المواقع في إحداث إزاحة في بعض قيم المجتمعات.
لا يمكن أن ننسى دور مواقع التواصل الاجتماعي في تفجير الثورات العربية واستعمالها في التحشيد والتنسيق وصولًا إلى نزول الناس إلى الميدان، وتشكيل آراء عامة في الشارع لا تستطيع الحكومات تجاوزها.
لكن الصورة لا تمضي بهذه الإيجابية إلى النهاية..
فقد تعامل كثير مع الناس مع مواقع التواصل بديلًا عن العالم الحقيقي، واستنزفت هذه المواقع أوقات الناس ومشاعرهم وطاقاتهم.
خلقت هذه المنصات شعورًا وهميًا في النفوس بالعمل والإنجاز، وقد أدى هذا إلى تراجع فاعلية الناس في الواقع، وأضر إدمان هذه المواقع بحرارة التواصل الاجتماعي، لقد تحول المشهد داخل كثير من البيوت في كثير من الأوقات إلى تجمع من الأفراد المتناثرين، كل واحد فيهم يحدق في شاشة جهازه، أكثر من كونه تجمعًا إنسانيًا حقيقيًا يتبادل فيه الناس المشاعر والحديث.
أضرت مواقع التواصل الاجتماعي بالخصوصية، فقد صار بوسع الشركات الكبيرة معرفة أدق التفاصيل عن كل واحد فينا من خلال القدرة التقنية لتلك الشركات على امتلاك البيانات بشأن مستعمليها حول اهتماماتهم وعلاقاتهم وشبكات تواصلهم وأحاديثهم والأماكن التي يرتادونها، لقد خلقت هذه المنصات شعورًا أن زمان الخصوصية قد انتهى وأن هناك من يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم.
أضرت مواقع التواصل الاجتماعي أيضًا بالنسيج الأخلاقي، خاصة في المجتمعات المحافظة التي يفرض فيها المجتمع ضوابط عامة، لكن وجود هذه المواقع يسر القفز من فوق أسوار البيوت المحصنة ونسج علاقات بعيدا عن أعين المجتمع وقيوده، وهو ما قاد إلى حالات تفكك أسر وتقويض علاقات، في مجتمع غير مهيأ للانفتاح المفاجئ.
إن تعاظم الأشياء في حياة الإنسان يضر بكيانه الروحي، في زمن التكدس والكثرة يتراجع شعور الإنسان بالقيمة الروحية التي هي جوهر وجوده، وبقدر ما مثلت مواقع التواصل الاجتماعي فرصة لخدمة الإنسان وتيسير تواصله ، بقدر ما أضر إدمانها بحرية الإنسان النفسية وامتلاكه مساحةً خاصةً به للخلوة والتأمل والسباحة في عالمه الداخلي.
إدمان منصات التواصل الاجتماعي من قبل مئات الملايين جعل هؤلاء في حالة استلاب وارتهان، والمرء قوي بقدر تخففه من الأشياء، وضعيف بقدر تعلقه بالأشياء. التعلق في ذاته هو طريق الاستعباد والسيطرة، وقد عززت الشركات الكبرى من شعور الناس بعدم القدرة على العيش دون خدمات مواقعهم، وقد بدا هذا التوجه واضحًا في بيان مؤسس فيسبوك بعد عودة خدمات الموقع إذ كتب على صفحته: " إنني أعلم كم تعتمدون على خدماتنا للبقاء على تواصل مع الأشخاص الذين تهتمون بهم"، وظهر أثر هذه المواقع في ملء حياتنا في التفاعل الكبير عبر العالم مع تعطل هذه المواقع وتصدر هذا الخبر التغطيات الحية للفضائيات وتصريحات السياسيين وأسهم البورصات. إذن فالحاجة الإنسانية الطبيعية إلى التواصل تم حوسبتها وتحويلها إلى أداة بيد أثرياء العالم لجني الأرباح الطائلة، وهذا يعني تضخم دور هذه الشركات في حياتنا بالقدر الذي فقدنا فيه كثيرًا من حريتنا.
إن تعاظم الأشياء في حياة الإنسان يضر بكيانه الروحي، في زمن التكدس والكثرة يتراجع شعور الإنسان بالقيمة الروحية التي هي جوهر وجوده، وبقدر ما مثلت مواقع التواصل الاجتماعي فرصة لخدمة الإنسان وتيسير تواصله ، بقدر ما أضر إدمانها بحرية الإنسان النفسية وامتلاكه مساحةً خاصةً به للخلوة والتأمل والسباحة في عالمه الداخلي.
لا أدري كيف سيمضي هذا الصراع بين الإنسان والتكنولوجيا، لكن إن كانت تنظيراتنا تغني شيئًا فإننا نرجو ألاتطغى هيمنة التكنولوجيا إلى القدر الذي يتحول فيه الإنسان واحتياجاته إلى سلعة تتداولها الشركات الكبرى وأن نبقي في حياتنا مساحةً للروح، فإن الإنسان إذا خسر روحه لم تغن عنه الوفرة شيئًا.
هل ننقذ بلادنا أم ننتظر القادم؟
تبعات "انقلاب" الشركاء على "الانتقال" في السودان!