يقولون إنه مثل فنلندي، ولم أتحقق من ذلك، فلطالما قرأت وسمعت، مرات يصعب تقديرها، في مواقف حاسمة من يقول: "لا بد أن يشرق الضوء في آخر النفق"، فبات سؤالي التلقائي: "هل دخلنا النفق أصلا؟"، ثم بعد تفكير أصحح وأقول: "هل كان حتما دخول النفق؟".
عاودت طرح السؤال على نفسي بعد أن قرأت مقالا وخبرا.
كنت قد وضعت "الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان" في قائمة "الواجب دراستها بالتفصيل"، فلدي قوائم قراءة متنوعة: العاجل، الذي يحتاج دراسة، المحتمل أن يكون مهما..، وأحيانا يختلط الأمر عليّ، ويرتبك الترتيب.
ظني أن "الاستراتيجية..." في حاجة لدراسة، لذلك حفظت، دون أن أقرأ سوى العنوان، كل ما يتعلق بها من متابعات وتعليقات ومقالات في ملف عنونته "الضوء والنفق والاستراتيجية"، لكني قرأت مقال زياد بهاء الدين "استراتيجية حقوق الإنسان.. ما هي؟".
استعرض زياد مضمونها وطبيعتها القانونية، تاركاً التعرض لها بالتقييم والتحليل إلى مقالات تالية.
في نهاية عرضه خلص زياد إلى "أن الاستراتيجية ليست أداة قانونية مُلزمة، وليس لها أثر مباشر على المواضيع العديدة التي تتناولها، وهي ليست أيضاً برنامجاً حكومياً معتمداً لأنها لم تُعرض على البرلمان للمناقشة، ولم يصدر بها التزام حكومي، كما أن طبيعة اللجنة التي أصدرتها استشارية وليست تنفيذية. مع ذلك فإن الوثيقة يظل لها - في اعتقادي - ثلاثة آثار مهمة: الأول أنها مرتبطة بالدستور، ويمكن اعتبارها من الأعمال المكملة له، والرجوع إليها في المطالبة باحترام الحقوق والضمانات الدستورية، والثاني أنها تخاطب المجتمع الدولي وتمثل التزاماً سياسياً ومعنوياً من جانبنا تجاه العالم، أما الثالث فهو أنها تعبر عن اعتراف الدولة بأن ملف حقوق الإنسان في مصر ليس مقبولاً على حالته الراهنة وبحاجة لإصلاح واسع وعاجل".
استخلاص زياد أكد لي صواب عنونتي للملف، فكأنه يقول "ها هو ضوء في...".
الخبر بدوره كأنه يقول ذلك، أيضا:
"يستعد مجلس النواب لبدء دور انعقاد جديد خلال الأيام القادمة، وسط أجندة تشريعية مُتخمة بالقوانين المرجح مناقشتها إما مقدمة من الحكومة أو مؤجلة من دور الانعقاد الأول. وقالت عضو لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية في مجلس النواب، عبلة الهواري، إن أهم القوانين المرجح مناقشتها في دور الانعقاد المقبل هي ما يتعلق بالاستحقاقات الدستورية، مثل قانون مفوضية التمييز، بجانب تعديلات قانون الإجراءات الجنائية، وقانون الإدارة المحلية، وقانون مناهضة العنف".
المقال والخبر يشيران مرات إلى الدستور والحقوق والضمانات الدستورية والاستحقاقات الدستورية.
لدي ملف عن كل هذا، تغير عنوانه أكثر من مرة. فقبل بضع سنوات كان "عاجل جدا"، ثم "يجب دراسته بعمق وتحليل أكثر"، وتحول إلى "ليس وقته"، وهو حاليا تحت عنوان "الله غالب".
في مرحلة: عاجل جدا، كنت قد حصرت النصوص الدستورية القاطعة التي لفظها مجلس النواب، ومجلس الوزراء ورئيس الجمهورية. "لفظها" كلمة دقيقة في تصوري، لنأخذ مثلا الإدارة المحلية.
لتوضيح المكان الذي تحتله الإدارة المحلية في الدستور، تجب الإشارة سريعا إلى البنية العامة للدستور، فهو يتكون من ستة أبواب، هي: الدولة، المقومات الأساسية للمجتمع، الحقوق والحريات والواجبات العامة، سيادة القانون، نظام الحكم، الأحكام العامة والانتقالية.
الباب الخامس "نظام الدولة" يشغل الجانب الأعظم من نصوص الدستور، والفصل الثاني منه مخصص للسلطة التنفيذية، وهو مقسم لثلاثة فروع: رئيس الجمهورية، الحكومة، الإدارة المحلية.
يتكون الفرع الثالث (الإدارة المحلية)، من تسع مواد (175- 183)، وتنص المادة 180 على: "تنتخب كل وحدة محلية مجلساً بالاقتراع العام السري المباشر، لمدة أربع سنوات، ويشترط في المترشح ألا يقل سنه عن إحدى وعشرين سنة ميلادية، وينظم القانون شروط الترشح الأخرى، وإجراءات الانتخاب، على أن يُخصص ربع عدد المقاعد للشباب دون سن خمس وثلاثين سنة، وربع العدد للمرأة، على ألا تقل نسبة تمثيل العمال والفلاحين عن خمسين بالمائة من إجمالي عدد المقاعد، وأن تتضمن تلك النسبة تمثيلا مناسباً للمسيحيين وذوي الإعاقة.
وتختص المجالس المحلية بمتابعة تنفيذ خطة التنمية، ومراقبة أوجه النشاط المختلفة، وممارسة أدوات الرقابة على السلطة التنفيذية من اقتراحات، وتوجيه أسئلة، وطلبات إحاطة، واستجوابات وغيرها، وفي سحب الثقة من رؤساء الوحدات المحلية، على النحو الذي ينظمه القانون.
ويحدد القانون اختصاصات المجالس المحلية الأخرى، ومواردها المالية وضمانات أعضائها واستقلالها".
قراءة كل مواد الفرع الثالث من السلطة التنفيذية (الإدارة المحلية) تعني بالضرورة حتمية تغيير قانون الإدارة المحلية النافذ وقت تعديل الدستور (2014)، ويبدو أن لجنة الخمسين المكلفة بإجراء التعديل "الشامل" كانت ترى أن تغيير القانون يحتاج وقتا، وأنها لا يجب أن تتركه "مفتوحا"، لذلك نصت المادة (242) من الفصل الثاني من الباب السادس "الأحكام الانتقالية" على أن "يستمر العمل بنظام الإدارة المحلية القائم إلى أن يتم تطبيق النظام المنصوص عليه في الدستور بالتدريج خلال خمس سنوات من تاريخ نفاذه، ودون إخلال بأحكام المادة (180) من هذا الدستور".
واضح جدا، وصريح للغاية "بالتدريج خلال خمس سنوات من تاريخ نفاذه"، نفاذ الدستور طبعا، وقد أصبح الدستور نافذا منذ الإعلان عن نتيجة الاستفتاء عليه، ونشره في الجريدة الرسمية يوم 18 كانون الثاني/ يناير 2014.
هذا هو النفق. كان يجب على الحكومة أن تقدم مشروعا للإدارة المحلية إلى مجلس النواب، أو أن يتقدم عدد من أعضاء المجلس بمشروع، ثم يناقش المجلس المقترح ويقره، ليبدأ تطبيق النظام المنصوص عليه في الدستور بالتدريج خلال خمس سنوات من نفاذ الدستور.
وها هي ثماني سنوات مضت ولم يقر قانون جديد للإدارة المحلية وفقا للنظام المنصوص عليه في الدستور.
هل كان حتما دخول هذا النفق؟
سؤال تجب الإجابة عليه قبل البحث عما إذا كان هناك ضوء في آخره أم لا.
سأذكر مثالا آخر لما لفظته السلطتان التنفيذية والتشريعية من نصوص الدستور، وأذهب إلى فنلندا.
المادة 241: يلتزم مجلس النواب في أول دور انعقاد له بعد نفاذ هذا الدستور بإصدار قانون للعدالة الانتقالية يكفل كشف الحقيقة، والمحاسبة، واقتراح أطر المصالحة الوطنية، وتعويض الضحايا، وذلك وفقا للمعايير الدولية.
ما زال لدي بعض الوقت قبل الذهاب لفنلندا.
هناك من فكر في إلغاء هذه المادة، وهناك من يفكر في تعديل آخر للدستور، هناك أنفاق يخطط لها.
المثل الفنلندي له جاذبية بلا شك، جاذبية شديدة تسلب لب كل من يريد طرد اليأس الجاثم فوق إرادته ومخيلته، لكن في فنلندا ما هو أكثر روعة، إنه الشفق القطبي، الذي يظهر في منطقة تسمى "اللبلند". يبدأ الشفق القطبي من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر ويستمر حتى أواخر كانون الأول/ ديسمبر، إلا أن يوم 21 من كانون الأول/ ديسمبر هو اليوم الأمثل الذي ترى به تقريبا كل اللبلند الشفق القطبي، لأن الليل في هذا اليوم هو الأطول على مدار العام، حيث لا تشرق فيه الشمس أبداً. لكن الظلام الذي يحل لمدة 24 ساعة على الأقل لا يعني أن السماء تبدو دائما سوداء، فعند الظهر، هناك بصيص من النور يأتي من السماء، وليس من إشراق الشمس، لأن الشمس لا تشرق. في هذه اللحظة ترى العالم الأزرق الحقيقي، حيث الثلوج تغطي الأرض وتعكس اللون الأزرق المضيء من السماء.
"المخمور" هو من يعتقد أن سيسرق حلم شعب!
المشهد التونسي: حالة استثناء أم "مرحلة انتقالية"؟
الرئيس التونسي: بديل مطلق أم بديل توافقي؟