أعلنت أستراليا الأسبوع الجاري عن إلغائها إتفاقاً كانت قد عقدته في العام ٢٠١٦ مع فرنسا لإنتاج عدد كبير من الغواصات التي تعمل على الديزل وذلك في صفقة يقدّر ثمنها بحوالي ٩٠ مليار دولار وتهدف إلى تطوير قدراتها الدفاعية البحرية لمواجهة المخاطر والضغوط المتزايدة من الصين. لم يكن ذلك هو الجزء الأهم من الخبر، إذ قامت أستراليا باستبدال فرنسا بكل من الولايات المتّحدة وبريطانيا مقابل الحصول على تكنولوجيا متطورة تتضمن تزويدها بغواصات نووية ومعدات عسكرية أخرى.
وما أن ذاع الخبر، حتى انتاب الفرنسيين نوبة غضب عارم لم يحتفظوا به لأنفسهم، وإنّما عبّروا عنه بشكل علني من خلال حملة شعواء شنّها عدد من المسؤولين الفرنسيين على هذه الدول الغربية من بينهم وزير الخارجية الفرنسية ووزيرة الدفاع الفرنسية. ووصف وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان فسخ أستراليا عقد شراء غواصات مع بلاده بأنها "طعنة في الظهر" مشيراً الى أنّ ما فعله الرئيس الأمريكي بايدن يشبه إلى حدّ بعيد سلوك ترامب، قائلا: "هذا القرار الوحشي والأحادي الجانب والذي لا يمكن التنبؤ به يذكرني كثيرا بما كان السيد ترامب يفعله... أنا غاضب وأشعر بالمرارة. لا يمكن لذلك أن يحدث بين الحلفاء".
أمّا وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارليف فقد اعتبرت أن فسخ أستراليا مثل هذا العقد الضخم مع بلادها أمر خطير، ويشكل نبأ سيئاً جداً بالنسبة لاحترام الالتزامات السابقة. ووصفت بارليف في بيان مشترك مع وزير الخارجية الخطوة بأنّها "خيار أمريكي لإبعاد وتهميش حليف وشريك أوروبي مثل فرنسا عن شراكة طويلة الأمد مع أستراليا في وقت تواجه فيه تحدّيات غير مسبوقة". وقد سبق أن دخلت فرنسا في مشادات مع بريطانيا إبّان خروج الأخيرة من الاتحاد الأوروبي. ويأتي الانسحاب الأسترالي من الاتفاق مع فرنسا في وقت أعلنت فيه العواصم الثلاث (سيدني وواشنطن ولندن) عن إنشاء شراكة دفاعية تحت مبادرة "أوكوس".
الصدمة الفرنسية تعبّر بشكل حقيقي عن عمق المأزق الذي تعاني منه باريس وربما العزلة التي تعيشها غربياً. فقد سبق للرئيس الفرنسي أن وصف حلف الناتو بأنّه حلف ميّت دماغياً وقد استجلب ذلك ردود فعل غاضبة ضد فرنسا في حينه.
وبحسب التصريحات التي أدلى بها الرئيس الأمريكي، ستمكن هذه المبادرة الدول الثلاث من الحصول على أحدث القدرات للمناورة وصد التهديدات المتعاظمة، كما ستمكنها من زيادة قدراتها العسكرية.
المفارقة أنّ الهجوم الفرنسي على هذه الدول الغربية تزامن مع انتقاد صيني كذلك خاصّة أنّ بكّين هي المعني الأوّل بهذه المبادة التي تسعى إلى احتواء خطرها المتعاظم لاسيما مع الضغوطات الاقتصادية التي حاولت بكين ممارستها مؤخراً على سدني مقابل مواقف سياسية.
لكن وبالعودة إلى الموقف الفرنسي، فإنّ الصدمة الفرنسية تعبّر بشكل حقيقي عن عمق المأزق الذي تعاني منه باريس وربما العزلة التي تعيشها غربياً. فقد سبق للرئيس الفرنسي أن وصف حلف الناتو بأنّه حلف ميّت دماغياً وقد استجلب ذلك ردود فعل غاضبة ضد فرنسا في حينه. كما اقترح الجانب الفرنسي إشراك روسيا (العدو اللدود للأوروبيين) في منظومة أمنيّة أوروبية للدفاع عن أوروبا في الوقت الذي كانت فيه باريس تحرّض الغرب ضد تركيا بحجّة أنّها تقيم تفاهمات مع روسيا في سوريا!
التحريض الفرنسي ضدّ تركيا آنذاك جاء في الوقت الذي كانت فيه مواقف باريس وموسكو تتقاطع في دعم حفتر في ليبيا وتقويض موقف ومصالح كل من أنقرة وواشنطن ولندن. الفرنسيون حاولوا حينها تحريض اليونان ضد تركيا ومدّها بكل أسباب إشعال فتيل أزمة في شرق البحر المتوسط والتنفّع من الأزمة من خلال بيع اليونان المزيد من الأسلحة والمعدات العسكرية. كما حاولوا تحريض الناتو أيضاً ضد أنقرة لفرض عقوبات عليها عندما ادّعوا أنّ تركيا حاولت الاعتداء على سفن حربية فرنسية. وأخيراً، استعمل الفرنسيون كل ما لديهم من نفوذ وتأثير داخل الاتحاد الأوروبي لتحريض الألمان وباقي الأعضاء على فرض عقوبات على تركيا وعرقلة جهودها في سوريا وليبيا وأذربيجان على وجه الخصوص.
كل محاولات فرنسا انتهت بفشل ذريع واليوم تعاني من فشل آخر في ما يتعلق بشراكاتها الغربية ولا يبدو أنّ باريس تبذل أي جهد للتعلّم من أخطائها فضلاً عن محاولة تصحيحها، وهو ما يعكس عنجهيّة كامنة في الوقت الذي تبحث فيه عن مكان فاعل لها، مرّة من خلال محاولة تزعّم موهومة للمجتمع الأوروبي، ومرّة من خلال محاولة إشراك روسيا في تصوّر أمني أوروبي، ومرّة من خلال الاعتقاد بأنّها لا تزال إمبراطورية وأنّ مستعمراتها الخارجية تؤهّلها لتحديد نفوذ الآخرين في إفريقيا في الوقت الذي يزداد فيه هناك نفوذ دول مثل الصين وتركيا وأمريكا فضلاً حتى عن روسيا.
هل ستستفيد فرنسا من الدرس القاسي الذي لازمها هذه المرّة من قبل حلفائها وتستوعب العبر، أم إنّ طبعها سيغلب تطبّعها في نهاية المطاف؟ أعتقد أن رئاستها للاتحاد الأوروبي العام القادم ستكون بمثابة اختبار لمثل هذ الطرح. وهناك من يفترض أن خروج ميركل من المشهد سيضعف ألمانيا مما سيحفّز فرنسا على محاولة تصدّر المشهد. إذا ما حصل مثل هذا الأمر، فهذا يعني أنّ باريس ستبقى تدور في نفس الدائرة.
Twitter: @alibakeer
ما قبل غزو الولايات المتحدة لأفغانستان
طالبان.. المشاكل الحقيقية ستبدأ الآن
بين "المشروع الإبراهيمي" و"إسرائيل" إلى نهايتها.. أين نحن اليوم؟