ربما توجز عودة المخرج خالد يوسف الكثير عن المشهد السياسي والثقافي في مصر. وإذا كان الشأن الثقافي هو ما يعنيني في هذا المقال، فربما ينبغي أن نمهد ببعض المعلومات الهامة عن تاريخ خالد يوسف الثقافي مع الاكتفاء بنقاط التلاقي مع اختياراته السياسية.
خالد مخرج معروف، كان محسوبا على المعارضة السياسية المصرية في عصر مبارك، له عدة أفلام قبل ثورة يناير اعتبرها البعض إرهاصا بالغضب المنذر بها. وشأن كثير من الفنانين عارض الإخوان المسلمين معارضة صريحة، وكان له دور معروف في تصوير مظاهرات 30 يونيو، لكن ذلك ليس موضوع المقال.
الأمر الذي نحاول تأمله هنا هو كيفية رؤية المثقف المصري التنويري لنفسه ولما يمثله. المشكلة بالتحديد أن خالد يوسف لا يكاد يطرح تصورا محددا عن دوره كمخرج أو مثقف مناضل خارج دائرة معارضة الإسلاميين، فبعد انحياز فني وسياسي لثورة يناير، واختيار موقع على يسار حكم الإخوان، ارتمى في أحضان نظام 30 يونيو، وسخر معرفته بالسينما لخدمة جنرال يقتل المتظاهرين في الشوارع بلا رحمة.
قد يدافع خالد عن نفسه بأنه كان على يسار السلطة يوم 30 يونيو، باعتبار أن الرئيس يومها كان الدكتور محمد مرسي، وكان خالد يصور متظاهرين معارضين لحكمه، لكن كيف يفسر خالد تأييده الصريح للمرشح عبد الفتاح السيسي، الذي خاض الانتخابات سنة 2014 على ظهر دبابة؟!
اقرأ أيضا: انتقادات شديدة بمصر لعودة خالد يوسف.. ماذا قال النشطاء؟
بل الأغرب من ذلك، أنه كان حمدين صباحي مرشحا في تلك الانتخابات وهو صديق قديم لخالد، فما الذي مثّله السيسي وقتها من قيم الحرية والعدل حتى يدعمه خالد دون صديقه صباحي؟
هذا نوع من النضال عجيب. ليس لأنه مخالف لمعنى النضال، بل لأنه ينحو به منحى يمينيا فاشيا، طالما هاجمه المثقفون والتنويريون في الثقافة الأوروبية، لأن الانحياز للمستضعف والمهمش لا يتجزأ. ومن هنا تأتي كارثية استقبال عدد من المعارضين المصريين المحسوبين على اليسار لخالد، بعد عودته من فرنسا.
بالطبع لا بد من بعض التفصيل هنا..
بعد تأييد السيسي سنة 2014، وبعد سلسلة قرارات وأداءات قادت مصر نحو مزيد من الحضيض السياسي والثقافي، وبعد حبس شعراء وكُتاب وصحفيين أكثر من أي وقت مضى، ظل خالد يوسف صامتا، ثم كأي ناصري مصري أصيل، ثارت ثائرته عند التنازل عن تيران وصنافير للسعودية.
لدى هؤلاء المثقفين جملة من الأوهام، أهمها أن الدولة مقدسة بغض النظر عما تفعله، والشكليات والشعارات مهمة جدا، لذا يعد التنازل عن جزيرتين جريمة كبرى مع أن النظام الذي تنازل عنهما لم يتوقف عن الانتهاكات ضد المصريين وتعذيبهم وإفقارهم وقمعهم، لكن الفنانين والمثقفين الناصريين يرون الجريمة هنا لا هناك، ولا يستوعبون أن الدولة كيان عادي، مجرد جهاز إداري غير مقدس، بل هو معرض للفساد أكثر من أي جهاز إداري آخر على وجه الأرض، فطالما كان نهب مقدرات الشعوب وتركها فريسة للفقر والمرض والجهل من جرائم الدول والحكومات لا الأفراد العاديين.
اقرأ أيضا: فنانة مصرية تتهم المخرج خالد يوسف: أجبرني على مشهد "إغراء"
وحين جاء موعد تعديل الدستور ليبقى السيسي رئيسا مدى الحياة سرب جهاز أمني سيادي معلومة مفادها أن خالد يوسف مكلف بإقناع الفنانين بالفكرة، فصرح خالد بأن ذلك لم يحدث، فتم تسريب فيديو لممارسة جنسية جماعية له مع فنانتين شابتين، قدمتا عقد زواج عرفي.
ثم قبضت الأجهزة الأمنية على الفتاتين، ففر خالد إلى باريس. لم ينطق بحرف، ولم يتضامن مع ضحيتيه، اللتين حبستا بسببه أكثر من أربعة أشهر، ثم أخلي سبيلهما بكفالة مالية بعد تدمير مستقبلهما تماما، حتى إن إحدى الفتاتين أعلنت عن رغبتها في الانتحار رغم إخلاء سبيلها.
بالطبع لم يفسر خالد لماذا جمع بين زوجتين، وهو رجل التنوير الكبير، كما أنه لم يفسر لماذا احتفظ بفيديو لزوجتيه على اللاب توب في بلد يعلم تماما أنها تدار وفق منظومة أمنية لا ترحم.
ولم ينتقد خالد، السيسي، بحرف واحد.
هكذا تبدو عودة خالد من باريس أبعد ما تكون عن عودة بطل منتصر، وهذا ما يجعل موقف المحتفين بعودته سخيفا للغاية (اعتذر منهم خالد داوود بعدها)، فالرجل صرح بأن عودته كانت بموافقة الأجهزة الأمنية ومباركتها، وصرح بترحيبه بموقف تلك الأجهزة، دون أن ينطق بكلمة عن السجناء المحبوسين منذ سنوات، حتى من أبناء التيار المدني ورموزه التي أعلنت تفكيرها في الانتحار كعلاء عبد الفتاح ومحمد أكسجين وعبد الرحمن موكا.. بل إنه صرح أيضا بأنه سيعود للإخراج بالتعاون مع الشركة المتحدة (المملوكة للمخابرات) المتهمة بتشويه الإنتاج الفني في مصر خلال السنوات الأخيرة.
وبعد ذلك كله، يصور خالد يوسف نفسه مناضلا، ويقول: "متمسك بالقضايا القومية الكبرى".
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "عربي21"
الجسد: سلطة الترقّي في السينما
المدينة والأشجار والطرق والاحتلال أيضا (2-2)