طالبان.. كسر النموذج

إنجاز حركة طالبان، بدفع الولايات المتحدة إلى الانسحاب من أفغانستان، بكفاح طال عشرين عاما.. استدعى ارتباكا، في التعامل مع الحالة وتوصيفها، في أوساط تنسب نفسها إلى المقاومة فكرة، وإلى أيديولوجيات متنوعة، قومية ويسارية، وحتى إسلامية. وأما أعداء المقاومة وتياراتها، فأمرهم واضح وارتباكهم من نوع آخر، فـ "سيدة العالم"، بحسبهم، التي يمتحون منها القيم ويستمدون الحماية، تترك عملاءها خلف ظهرها، وتخلّف فشلا ذريعا، في حين أن هؤلاء المتدينين، لا يخرجون من التاريخ، بل يعيدون صياغته!

في الحالتين تمكّن إنجاز طالبان من كسر النموذج، فالقدر الأمريكي، ثبت أنه ليس قدرا، وإن لم تكن هذه هي المرّة الأولى، بيد أنّ الذين يستمدون معنى وجودهم من النموذج الأمريكي، لا يتعلّق موقفهم بالسياسة الأمريكية فحسب، بل بالنموذج القيمي كذلك، الذي يعزّ عليه تهشيمه من قوى، يكفي تدينها، وانتسابها لفضاء غير غربي، لوصفها بالرجعية والظلامية، وقد ووجهت بالتبشير الدائم، بأنّ حركة التاريخ الخطّية إلى الأمام سوف تتجاوزها بالضرورة، لصالح الليبرالية الغربية، وبالرغم من وضوح الخطابات المعادية للمقاومة في سياقاتنا العربية، مما يجعل التوقف معها أقلّ أهمية هنا، فإنّ التصنيف على أساس المعتقد، ونمط الحياة، لأجل توصيف الوقائع.. مشترك بين أوساط ممن ينتسبون للمقاومة وبين أعداء المقاومة.

إنّ الإشكالية تبدأ، باحتكار المقاومة، ثم افتراض أنّ المقاوم لا بد وأن ينتمي لموقف سياسي محدّد، أو اتجاه طائفيّ بعينه، وعليه فإنّ ملحمة المقاومة العراقية، على ما شابها وداخلها، جرى إنكارها، مثلا، من المحور الإيراني المتدين، ويساره غير المتدين، بالتركيز على الشق الأصغر منها، المنتمي للفضاء الطائفي الإيراني.

احتكار المقاومة، هو فعل سياسيّ بامتياز، لتمييز فاعل سياسي، بسمة، يجري إضفاء الكثير من القداسة عليها، وهو أمر ينتهي إلى الإضرار بالمقاومة نفسها، فتطييف المقاومة وتسييسها، (أي باختزالها في طائفة بعينها، أو حركة سياسية بعينها، أو تيار أيديولوجي بعينه)، يخصم من مصداقيتها، ويمارس التضليل على الذات نفسها التي تمارس هذا الاختزال، ولا يقلّ عن ذلك سوءا؛ إضفاء القداسة على المقاوم، الأمر الذي يُدخل الجمهور في مقارنة بين المتخيل والواقع، إذ لا يلزم من كون الإنسان مقاوما لعدوان، أن يكون ملاكا، أو معصوما، أو منتميا لأفكار بعينها، فالمقاومة والحالة هذه فعل دفع العدوان، سواء صدق على المقاومة أن تكون حركة تحرر وطني، أم لا.

إنّ وقائع الفعل، كاستمرار "حماس" بالمقاومة بلا توقف، منذ تأسيسها، أو منذ تأسيسها لحكومتها في غزة، وصبر طالبان عشرين سنة في المقاومة حتى إنجازها بدحر الاحتلال الأمريكي، وملحمة المقاومة العراقية بعنفوانها الذي يفتقر المثيل.. أهمّ من أي سجالات نظرية، أو تستند إلى التصنيف المسبق، والانطباعات والمواقف النفسية.

لم يكن الأمر كذلك، في مرحلة المدّ الثوري اليساري، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حينما انشغلت حركات المقاومة الفلسطينية حينها، في محاولة استدعاء النموذج الثوري المناسب للحالة الفلسطينية، وبات شائعا، وصف بعض التيارات والجيوب والمجموعات الفلسطينية، بأنها ماوية أو سوفييتية أو فيتنامية، ولم يقتصر الأمر على اليسار الفلسطيني، فمن بعد أحداث أيلول، تعاظم التيار اليساري في "فتح"، كما أن "فتح" في نشأتها تعرضت لنقد مكثف من حركة القوميين العرب، التي رأت في استدعاء "فتح" للنموذج الجزائري خيالا لا يناسب الحالة الفلسطينية، وقد نقلت بعض الأدبيات عن ماوتسي تونغ، اعتراضه على ذلك الخيال الفتحاوي، في فهمه لحرب الشعب.

فالاستدعاء، ومحاولة الاستفادة، وبغض النظر عن صوابية المحاولة، (ورغم أنها مغامرة قد يشوبها الإسقاط المتعسف، أو إغفال الفوارق الموضوعية، أو تصفية الحسابات)، هو سلوك مألوف، كفّ عن العمل فقط مع حركات المقاومة، الموسومة بالإسلامية أو بالدينية، باستثناء حزب الله، الذي لم يجد اليسار العربي، والعديد من المثقفين العرب العلمانيين، غضاضة في الإيمان المطلق بمقاومته، بالرغم من مقولته الدينية، مع بقاء الشكّ في مقاومة حركة كـ "حماس" مثلا، لانتمائها للفضاء الإخواني، ولذلك تفسير، لا يتسع له المقام الآن، ولكن ومهما كان السجال وكانت حججه ومقولاته، فإنّ وقائع الفعل، كاستمرار "حماس" بالمقاومة بلا توقف، منذ تأسيسها، أو منذ تأسيسها لحكومتها في غزة، وصبر طالبان عشرين سنة في المقاومة حتى إنجازها بدحر الاحتلال الأمريكي، وملحمة المقاومة العراقية بعنفوانها الذي يفتقر المثيل.. أهمّ من أي سجالات نظرية، أو تستند إلى التصنيف المسبق، والانطباعات والمواقف النفسية.

وإذا كان البعض يتناقض بتأييده حدّ التماهي لمقاومة ذات مرجعية وخطاب دينيين صارخين، ثم يتشكك في أخرى، لأنّ لها مرجعية وخطابا دينيين، فإنّ البعض لتحفّزه الأيديولوجي، يرمي من يهتم بتجربة طالبان (في المقاومة) ويرى إمكانية الاستفادة منها، بأنّه يدعو لاستلهام النموذج بالكامل، وهذا ضرب من الهوس لا شكّ، وهذا فضلا عمن يعجز عن رؤية مقاومة عشرين عاما، كبدت أمريكا ما تقوله الأرقام المهولة، في المال والأرواح، ثم لا يرى في الحدث سوى مناورة أمريكية بخلق مشكلة أفغانية للصين وإيران!

مقاومة طالبان ودلالاتها التاريخية والسياسية شيء، ونموذجها في التدين والحكم، وما قد تؤول إليه تجربتها شيء آخر، وهذه من البدهيات التي لا ينبغي أن يكون ثمة حاجة للاستدراك الدائم بها مخافة سوء الفهم، بيد أنّ العقول المسكونة بالنماذج المتكلّسة، تستدعي مثل هذا التذكير المستمرّ بالبدهيات!