حتى قبل ستة أشهر مضت كان برنامج مطالعاتي اليومي يتضمن تفقد بوابات الأزهر الإلكترونية، وبالأخص مركز الأزهر للفتوى الإلكترونية، والغياب كان لأسباب خارجة عن إرادتي، والعودة جاءت في ظروف ملتبسة وغريبة، فها أنا يختلط عليّ الأمر، فالتشابه في الموقف بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وبين الأزهر مربك، لا أقصد بالقطع موقفهما من الوشم، بل الموقف من التطورات في أفغانستان.
لأنهي موضوع الوشم سريعا، لأتفرغ للمسألة الرئيسية التي أفكر فيها معكم.
تزامنت عودتي لمطالعة "الأزهر للفتوى الإلكترونية" مع تسارع الأحداث في أفغانستان بصورة مذهلة، فأصبحت أتابعها من منافذ عدة من بينها بوابات ومواقع الأزهر، لكن خبر فتوى تحريم الوشم (التاتو) للرجال والنساء، والإفتاء بأنه يعتبر من "كبائر الذنوب"، لفت انتباهي، بعدما اعترض طريق متابعتي لموقف الأزهر من الأحداث.
مفهوم أن المركز يتلقى أسئلة ويجيب عليها، ومن المفترض أنه لا يبرز إلا ما كان على جانب من الأهمية، فظني أن ما يتلقاه كثير للغاية، وأن ما يبرزه وما يضعه في واجهته الإعلامية يخضع لتقييم خاص عن الأهمية والتوقيت، ومدى انشغال المسلمين بالأمر. لذلك أقدر أن القائمين على سياسات "الأزهر للفتوى الإلكترونية" قرروا أن مسألة الوشم على جانب خطير من الأهمية. ورغم أنني لا أملك تقديرات إحصائية موثوقة عن مدى حجم الظاهرة في المجتمعات الإسلامية، لكنني لا أجادل في أن المسألة منتشرة، لكني أتشكك في "خطورتها"، أو حتى أهميتها.
الواقع، إذن، أن المركز، وهو أحد هيئات الإفتاء التابعة للأزهر، أصدر فتوى "التحريم"، ثم استثنى حالتين فقط من ذلك، وهما أن يكون الوشم علاجا لأحد الأمراض، أو مرسوما بمواد يسهل إزالتها مثل الحناء.
لم تبين الفتوى ما هي الأمراض التي من الممكن أن يكون علاجها "وشما"، ولن تقنع مبررات استثناء "الحناء" راشدا.
* * *
فرغنا من "التاتو" إلى حين، ونبدأ بموقف ماكرون وتشابه موقف الأزهر معه.
قال ماكرون "إن الإسلاميين المتشددين سيسعون للاستفادة من الاضطرابات في أفغانستان.. وأن فرنسا ستبذل قصارى جهدها لضمان تعاون روسيا والولايات المتحدة وأوروبا من أجل تحقيق هدف مشترك، وهو ألا تصبح أفغانستان ملاذا للإرهابيين كما كانت من قبل. هذا تحد للسلام والاستقرار الدوليين في مواجهة عدو مشترك".
كان موقف الأزهر سباقا إلى التنبؤ بالخطر المقبل، والتحذير منه. فقد نشر مرصد الأزهر لمكافحة التطرف، خبرا في أيار/ مايو الماضي - كان ذلك في فترة انقطاعي غير الإرادي عن المتابعة، لكن الموقع يحتفظ بأرشيف ممتاز - يحمل عنوانا يتضمن رؤية مستقبلية: "أفغانستان على صفيح ساخن بعد فشل اتفاقية السلام في الحد من العنف". في التفاصيل أن "مرصد الأزهر لمكافحة التطرف (ذكر) في تقرير له أصدرته وحدة رصد اللغة الفارسية، أن الآمال كانت معقودة على نجاح اتفاقية السلام بين إدارة الرئيس الأمريكي السابق (دونالد ترامب) وحركة
طالبان، والتي وقعت في شباط/ فبراير الماضي، للحد من انتشار العنف في أفغانستان، والتزام حركة طالبان بتعهداتها، لكن المتتبع للأحداث اليومية على الساحة الأفغانية، يلحظ زيادة مطردة في أعمال العنف خلال الفترة التي تلت التوقيع على الاتفاق". ثم يحصي التقرير ما يدعوه بـ"العمليات الإرهابية"، ويلاحظ أنها موجهة إلى "مقرات القوات الدولية على الأراضي الأفغانية، أبرزها قصف قاعدة عسكرية مشتركة للقوات الأفغانية والأجنبية بولاية خوست".
الأزهر يصف مهاجمة القوات الأجنبية الموجودة على الأراضي الأفغانية بأنها "إرهاب"، لا يسميها حتى "أعمال عنف". والاستنتاج الأولى أن الأزهر يمنح لهذه القوات الأجنبية شرعية بالغة الدلالة، تتجاوز حتى الموقف السياسي الواقعي، الذي يستند إلى أن هذه القوات موجودة عبر قرارات دولية (مجلس الأمن) ثم موافقة هيئات تمثيلية أفغانية منتخبة. ما تضفيه تغطيات الأزهر عبر مرصده على وجود القوات الأجنبية هو شرعية دينية، هكذا يمكن فهم صياغة الخبر، في "فقد ذكر تقرير المرصد أن طالبان نفذت خلال شباط/ فبراير الماضي 17 تفجيراً إرهابيّاً، وشنَّت 23 هجوماً مسلحاً على المدنيين وقوات الأمن في 32 ولاية من ولايات أفغانستان، بزيادة بلغت 15% عن شهر كانون الثاني/ يناير ما أسفر عن مقتل 188 شخصاً من المدنيين والعسكريين وإصابة 152 آخرين، بزيادة عن الشهر الماضي بلغت 21%، فيما ازدادت وتيرة التفجيرات الإرهابية خلال آذار/ مارس الماضي بينما سجل 34 هجوماً مسلحاً على المدنيين وقوات الأمن بزيادة بلغت 18% عن شهر شباط/ فبراير"، وفق متابعات مرصد الأزهر التي نفهم منها أن أفغانستان مقبلة على تغييرات يرى الأزهر أنها تتطلب تدخلا دوليا.
* * *
والآن إلى الفقرة المذهلة، التي استبق فيها مرصد الأزهر ماكرون بثلاثة أشهر كاملة، فالتقرير يختتم بدعوة يوجهها مرصد الأزهر (في أيار/ مايو الماضي) إلى "المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته تجاه الأزمة الحالية في أفغانستان والسعي بشكل جدي لإيجاد حلول فعالة لوضع حد لتردي الأوضاع الأمنية في البلاد؛ حفاظاً على أرواح المدنيين الأبرياء ولوضع حد لإرهاب حركة "طالبان" التي ضربت بالقيم الإنسانية والتعاليم الدينية عرض الحائط".
* * *
ما سيلي سيبدو طبيعيا للغاية، فللأزهر بعثة في كابول، وبوابات ومراكز ومراصد الأزهر لا تدخر وسعا كل يوم في وصم "طالبان" بشتى الأوصاف التي تدينها على كل المستويات، ولذلك فلا غرابة من أن تكون بعثة الأزهر الشريف أولى الجهات غير الدبلوماسية التي تستشعر الخطر. فبعد يوم من نشر فتوى تحريم "التاتو" قرر الأزهر الشريف بالتنسيق مع وزارة الخارجية (المصرية) عودة البعثة الأزهرية بالعاصمة الأفغانية كابول، بعد الأحداث الأخيرة التي شهدتها البلاد.
والبعثة الأزهرية بكابول يبلغ عددها 23 فردا، وتقوم بالتدريس بالمعهد الأزهري بمنطقة بهارستان، ويتكون من 13 فصلاً دراسياً لنحو 830 طالبا، المعهد يستقبل الطلاب منذ عام 2009، بعد أن أنشئ بموجب اتفاقية تفاهم بين شيخ الأزهر ووزارة المعارف والتعليم الأفغانية. والمتفوقون من الطلبة يذهبون بعد انتهاء المرحلة الثانوية إلى جامعة الأزهر، في بعثات دراسية يدرسون العلوم الدينية والعلمية أيضا حسب رغبات الطلاب وتوجهاتهم، وتتكفل جمهورية مصر العربية بالمرتبات بالنسبة للمبعوثين الأزهريين، والجانب الأفغاني يتكفل بالإقامة والمعيشة.
الاتفاق وقع بين فضيلة الشيخ الراحل سيد طنطاوي شيخ الأزهر السابق، ووزارة المعارف الأفغانية ممثلة في وزيرها فاروق ورداك. وافتتح المعهد عام 2009، في مقر دار الحفاظ الأفغاني، ويدرس الطلاب فروع اللغة العربية بالكامل من نحو وصرف وبلاغة وأدب، أما من العلوم الشرعية فيدرسون الحديث والتفسير والتوحيد والسيرة النبوية المشرفة، بالإضافة إلى حفظ القرآن الكريم، فمن الصف الأول إلى السادس يتعين على الطالب أن يحفظ 18 جزءا من القرآن، وقبل إتمام الشهادة الثانوية يجب عليه أن يكمل حفظ القرآن، ويعد ذلك جواز المرور للتخرج، والحصول على بعثة دراسية في جامعة الأزهر بمصر.
وجود بعثة الأزهر تعليمي بحت، هكذا يبدو في الأساس حين أقره طنطاوي، فلماذا يستشعر أعضاء البعثة الخطر، ويلوذون بدار السفارة خشية من "طالبان"؟ هل المراصد والبوابات والمراكز التي أفرطت في دعم وجود القوات الأجنبية في أفغانستان، حتى بدت في بعض التغطيات والتقارير كأنها تتسولها البقاء، هي سبب الخشية؟
بعد يومين أعلن الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية عودة بعثة الأزهر من أفغانستان، وأنه قد يتم إرسال طائرة حربية لإعادة أعضائها.
* * *
لم يبق لدي سوى خبر لم أجد ظلا له في كل مواقع الأزهر، لكني ورغم عدم تمكني من التوصل إلى تأكيد أو نفي له من مصدر في الأزهر، لدي رغبة في التفكير في مآلات وضع ما يتحدث عنه الخبر موضع التنفيذ.
نشر الخبر في الأسبوع الأخير من تموز/ يوليو الماضي، قبل أن تأخذ وثبة طالبان الحربية إيقاعها المتسارع، وعنوانه: "مع تمدد طالبان.. باكستان تواجه الإرهاب فكريا بمساعدة الأزهر". التفاصيل تخبرنا بأنه "مع تصاعد خطر نفوذ حركة طالبان المتزايد في أفغانستان، تسعى باكستان المجاورة لتأمين جبهتها الداخلية، ليس فقط بالمواجهة الأمنية والعسكرية للجماعات الإرهابية والعناصر المتطرفة، بل بالمواجهة الفكرية أيضا". وهنا يأتي دور الأزهر، فباكستان تعتمد - بحسب الخبر - على دعم مؤسسة الأزهر الشريف في مصر لتأهيل أئمة باكستان، خاصة أئمة الجيش الباكستاني، على مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف ودحض الخطاب الديني المتشدد.
ثم يؤكد التقرير الصحفي أن مصادر في مشيخة الأزهر، كشفت عن وجود "تنسيق واتصالات مستمرة" مع الجانب الباكستاني، لتدريب أئمة قيادة القوات المسلحة الباكستانية، ضمن برنامج تدريب الأئمة بالأزهر. وأن شيخ الأزهر، الإمام الأكبر أحمد الطيب، كان قد وافق على طلب رئيس هيئة الأركان المشتركة بالقوات المسلحة الباكستانية، الفريق أول نديم رازا، لتدريب دعاة الجيش الباكستاني على مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف، وتزويدهم بالمعرفة الكافية في هذا المجال.
* * *
الآن، ومن دون فذلكة، وبكل جدية، ماذا سيفعل، أو للدقة ماذا سيقول الأزهر إذا ما قامت حركة طالبان في فترة ليست ببعيدة بمعاقبة كل من يرسم وشما، وأقامت حلقات للمعاقبة وإزالة الوشم علانية في الساحات العامة؟
سؤال جدي، وليس سخرية، واقعي وليس افتراضيا.