حلت ذكرى الفاجعة الكبرى في انفجار العاصمة بيروت (بيروتشيما) في الرابع من آب/ أغسطس ثقيلة على النفوس، خاصة أن التحقيقات لم تنته حتى الساعة، ولا زالت تصطدم بالحصانات النيابية والوزارية والإدارية والقضائية والسياسية، حتى ضاعت الطاسة كما يقال، وبتنا نسمع تفسيرات قانونية تصلح لمجلدات، ولكنها لا تلغي واقعا مريرا عنوانه جملة حقائق لا تعيد 214 شهيدا إلى الحياة؛ فيهم الأطفال والشيوخ كبار السن والأبرياء البسطاء الفقراء من العمال، في بلد تتحدث التقارير عن وصول الفقراء فيه عتبة تفوق النصف بكثير.
واقع مرير يتحدث عن ستة آلاف جريح، فيهم الكثير لا زالوا في المستشفيات مع تقاعس الدولة معهم، وبشر مهجرون عن بيوتهم وساحاتهم وأترابهم وذكرياتهم التي كسرها انفجار بحجم وطن، بات يبكي أبناءه؛ فغدا لسان الحال؛ إن من مات نجا، ومن نجا أصبح في عداد الأموات من هول الصدمات والتراكمات بكل معانيها.
واقع مرير في مرفأ ما زالت شواهده كأنها ساحة معركة، وخسائره الاقتصادية لا تعد ولا تحصى نتيجة توقفه عن العمل من جهة، ومن جهة أخرى كلفة الأضرار التي أصابته، مرورا بتراجع حركة الاستيراد والتصدير لفترة طويلة عن سابق عهدها؛ عندما كان الدخل الصافي للدولة قرابة 400 مليون دولار، ما عدا التهريب الذي يحكى عنه كثيرا، ولا حسيب ولا رقيب ولا فاسد واحدا خلف القضبان.. إلى تلك الخسائر التي لا يمكن تقدير حجمها في الوقت الحالي؛ من دور
لبنان ومرفئه ضمن منظومة شرق المتوسط، وثرواته من الغاز والمياه الدافئة، ولعبة الترسيم التي لن تنتهي مع الإسرائيلي في ظل غياب الراعي الأمريكي عن أداء دوره بنزاهة، ناهيك عن عدم الاستعداد الجدي للأطراف للمضي قدما لإنجاز الترسيم، خاصة مع الظرف الإقليمي والدولي من بغداد حيث المفاوضات الإيرانية- السعودية، وصولا إلى فيينا حيث الموعد مع رؤية الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي للحل مع المجتمع الدولي وأمريكا لإحياء الاتفاق النووي السابق.
ولكن، ماذا عن معضلات مستجدة في دور الجمهورية الإسلامية من اليمن إلى بغداد ودمشق، وصولا إلى بيروت؟ وماذا عن منظومة الصواريخ الباليستية؟ إن الحلحلة في مفاوضات ولقاءات المنطقة ستنعكس بردا وسلاما على لبنان لبلورة حكومة، أو بالحد الأدنى إضفاء مرونة حقيقية بين المفاوضين الداخليين؛ لإنتاج حكومة تبعث الثقة في الداخل المنتفض على واقعه المرير والخارج المنتظر للإصلاحات التي طال انتظارها.
من حجم الواقع المرير اقتصاديا، لا بد من أخذ المبادرة سياسيا من كل الأطراف المعنية الفاعلة والقادرة والمنكفئة، قبل التحول من أزمة أكثريات وأقليات وهمية وأزمة حكومة مستعصية؛ إلى أزمة حكم قد تكون مدخلا إلى التدويل أو التعريب لإنتاج مؤتمر بصيغة الرئيس صائب سلام، حيث لا غالب ولا مغلوب، وضمن إطار لمحطة جديدة أقل من الطائف سياسيا وأوسع من اتفاق الدوحة، لفرز سلطة قادرة على وقف الانهيار والدمار وإعادة الإعمار، وانتشال الواقع الاقتصادي من حضيض الارتطام الكبير، حيث الزوال لكل المكونات، كما قال لودريان ذات يوم، وخاصة أن هامش المناورة يضيق على الجميع.
وعليه وضمن صراع المناورات بين الرئاسات المتناحرة لإخراج حكومة تحمل الثقة للبنانيين والخارج، يبدو المشهد معقدا على الفريق الرئاسي، فهو اليوم بين نارين لن يسلم من أحدهما؛ فإما التسليم بقضاء وقدر لم يساهم فيه، وتاليا حكومة بشروط الميقاتي وخلفه الداعمون له في الداخل والخارج، وعندها لن يحقق من خلال هذا السكوت والرضوخ أي انتصار يترجمه في الانتخابات النيابية المقبلة، أو بالاستمرار بوضع الشروط المانعة للتأليف، وعندها تحمّل تداعيات الوضع الاقتصادي الآيل للمزيد من التدهور في حال فشله في التأليف، خاصة بعد كلام الرئيس ماكرون الأخير في مؤتمر المانحين، بأن أزمة لبنان ناجمة عن
الفساد وتفكك النظام السياسي.
وأكثر من ذلك، عندما أكد ماكرون في مؤتمر المانحين لدعم لبنان، أنه لن يُصرف أي شيك على بياض للنظام السياسي القائم في لبنان. وهنا بيت القصيد والرسالة الواضحة المعالم، حيث أوضح أن الأولوية بالنسبة للبنان ما زالت تشكيل حكومة قادرة على تنفيذ إصلاحات. وفي ما يتعلق بالتحقيق في انفجار المرفأ، قال؛ إن "على ساسة لبنان إعلام الشعب بالحقيقة"، مضيفا أن "أزمة لبنان ليست نتيجة قضاء وقدر، بل نتيجة نظام سياسي يعاني خللا وظيفيا.
وعليه، فهو يرسم مسارا جديدا عنوانه إما العقوبات على المعرقلين أو حكومة، علما أن طريق الحكومة حتى الساعة لا يبدو مفروشا بالورود، خاصة بعد الزيارة الخامسة للرئيس المكلف، حيث قال الرئيس
نجيب ميقاتي بعد انتهاء اجتماعه برئيس الجمهورية العماد ميشال عون: نتقدّم ببطء ومثابرون ومصرّون على تأليف حكومة رافعة. وتابع ميقاتي: "أحرزت والرئيس عون تقدما في موضوع تأليف الحكومة حتى ولو كان هذا التقدم بطيئا". وأوضح أنه ما من تحدّ مع أيّ أحد، ولا أحد متمسك بأيّ حقيبة، وما من حقيبة تعود لطائفة معيّنة دستوريا. ولا داعي لافتعال أي مشاكل غير موجودة؛ في إشارة إلى مشكلة وزارة الداخلية والعدلية وما استجد في الحديث عن المداورة، وتحديدا وزارة المالية.
وأكد ميقاتي أنه لا مكان للاعتذار حتى الساعة، وقال: أنا أسعى لتشكيل حكومة فاعلة ولا داعي لإثارة المشاكل. وأشار إلى أنّ "جلسة اليوم خطوة إيجابية إلى الأمام"، لافتا إلى أنه غير ملتزم بأي مهلة زمنية، وأنه يسعى حتى تشكيل حكومة.
وهنا السؤال: إلى متى سيبقى الميقاتي صامدا وأمامه شروط الرئيس عون وفريقه، وخلفه شروط نادي رؤساء الحكومات السابقين، وعن يمينه سيف العقوبات الدولية على المعرقلين، وعن شماله معارك قضائية وقانونية بالجملة للوصول إلى حقيقة انفجار المرفأ، وفي القلب بلد على شفير الارتطام الكبير والانفجار الاجتماعي الأكبر؟