هذه المرة، كنت أتمنى لو أنني كنت مخطئاً، كنت أتمنى لو أن الوثيقة التي نشرتها في أيار/ مايو، وتحتوي على تفاصيل خطة قيس سعيد للاستيلاء على تونس، وتقويض الدستور، وإغلاق البرلمان، كانت ملفقة.
حينها سخر البعض مني بسببها، وقيل لي إنه لا يوجد شيء من ذلك، وإن الوثيقة كانت من صنع معارفي من الإسلاميين، والحقيقة أن مصدر الوثيقة كان علمانياً، ومن داخل الرئاسة نفسها.
لم تكن الوثيقة مجرد رسالة عابرة صدف أن وجدت طريقها دون قصد إلى صندوق البريد الرئاسي، كما زعم قيس سعيد نفسه بعد أربعة أيام، حينما أجبر على الاعتراف بأنها كانت وثيقة صحيحة.
لقد كانت خطة راسخة وضعها أقرب مستشاريه إليه.
صرحت الوثيقة التي كشف عنها موقع ميدل إيست آي بأنه بعد أن يتم استدراج كل من رئيس الوزراء هشام مشيشي ورئيس البرلمان راشد الغنوشي إلى القصر، ويحتجزان داخله، سوف يتم تعيين جنرال، هو خالد اليحياوي، قائماً بأعمال وزير الداخلية.
وذلك بالضبط هو الذي حصل صباح الاثنين، حيث تم تعيين اليحياوي ليقود عملية القمع والقهر التي يتعرض لها الآن السياسيون والإعلاميون في تونس.
لم يكتف قيس سعيد بالاستيلاء على جميع السلطات، بل وعين نفسه أيضاً في منصب المدعي العام.
ويجري توصيف إجراءات سعيد باعتبارها رد فعل على الدمار الذي ألحقته الجائحة بالبلاد. ولكن في الفترة التي تم فيها تسريب الوثيقة، لم يكن الفيروس قد تمكن من تونس وعاث فيها فساداً.
في إدارة قيس سعيد كان وزير الصحة عبد اللطيف مكي، وهو نفسه طبيب، عضواً في حزب النهضة، وكان قراره توزيع الكمامات على الناس في الشوارع قد حاز على إشادة عالمية، باعتباره نموذجاً كان ينبغي أن يحتذى في بقية العالم العربي.
لم يكن لانقلاب الأحد أدنى علاقة بالفيروس، بل كان قد خطط له في وقت كان فيه الفيروس تحت السيطرة.
أحد أنصار سعيد، سامية عبو من التيار الديمقراطي، رحبت بتحركات سعيد، وقالت يوم الأحد إن "قرارات الرئيس دستورية وتاريخية، وكان ينبغي على الرئيس اتخاذ تلك القرارات قبل وقت مضى".
انقلاب بكل ما تعني الكلمة من معنى
كانت الوثيقة، التي ختم عليها بعبارة "سري للغاية"، قد وصفت الخطة بأنها "انقلاب دستوري"، إلا أن ما جرى ليلة الأحد تجاوز صفة الدستورية بمراحل.
ينص الدستور على أنه حينما يتم تفعيل الفصل الذي يسمح للرئيس بأن يحوز على سلطات استثنائية، فإنه يتوجب على البرلمان أن يظل في حالة انعقاد، وأنه لا يمكن حله، ولكن في الحقيقة أقدم سعيد على تعليق البرلمان، وحال دون وصول أعضائه إليه.
يتوقف تفعيل الفصل 80 على المحكمة الدستورية، التي حال سعيد دون تمكين البرلمان من تشكيلها، حتى وإن كان بموجب الدستور يختار أربعة فقط من أعضائها الاثني عشر.
عياض بن عاشور واحد من أبرز أستاذة القانون الدستوري في تونس، وكان قد لعب دوراً محورياً في صياغة الوثيقة الانتقالية والدستور وقانون الانتخابات، وكان رئيس الكيان الذي أدار الفترة الانتقالية في عام 2011، وهو رجل علماني، وليس من أنصار الإسلاميين، ومع ذلك يرى بن عاشور أن هذا انقلاب "بأتم معنى الكلمة".
وكذلك هو حال نبيل بفون، رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، الذي قال إن الهيئة في حالة من الصدمة".
جميع المؤسسات التي أقيمت بعد الإطاحة بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وكل ما أوجدته ثورة 2011 من أجل وضع تونس على طريق الديمقراطية، أعربت عن معارضتها لإجراءات سعيد، بغض النظر عن ميولها السياسي.
إذن، لا يوجد ما هو دستوري بشأن هذا الانقلاب، هذا انقلاب بكل ما تعنيه الكلمة، ولا يختلف في شيء عن ذلك الذي أطاح بمحمد مرسي في مصر في عام 2013، وكذلك الذي سعى للإطاحة بالرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا في عام 2016.
لا يوجد ما هو دستوري بشأن هذا الانقلاب. هذا انقلاب بكل ما تعنيه الكلمة، ولا يختلف في شيء عن ذلك الذي أطاح بمحمد مرسي في مصر في عام 2013
فن (المساومة) محرم في عرف سعيد، وهو الذي جاء من خارج الوسط السياسي ولا يوجد من ورائه حزب
لقد كان لديه دافع واحد من إحباط المحاولات المتكررة لترشيح شخصيات لشغل المناصب في المحكمة الدستورية.. وهذا الحافز هو إعاقة تشكل كيان لديه صلاحية الاعتراض على تحركاته واعتبارها غير دستورية
إن الفوضى التي تضرب الحكومة هي الفوضى التي يصنعها بيديه، كما أدركت تونس سريعاً حينما عطل البرلمان واعتقل المعارضين السياسيين.
في لحظة تعلن الرئاسة أنها تلقت ألف جرعة من المطعوم من دولة الإمارات العربية المتحدة، وتنتشر إشاعات بأن عدداً من أعضاء البرلمان ومن المسؤولين قد أخذوا اللقاح، وفي لحظة ثانية تنكر الرئاسة أي علم لها بتلك "الهدية".
الرجل الأخير الذي لا يزال واقفا
على مدى العشرة أعوام الماضية، ما فتئت تونس تنتقل من أزمة سياسية إلى أخرى، ولكنه بشكل أو بآخر تمكنت من النجاة، فاستحقت لقب رجل الربيع العربي الأخير الذي ما زال واقفاً.
لم تكن النهضة مثل الإخوان المسلمين في مصر؛ فقد ساومت وتنازلت تطوعاً عن السلطة، وأبرمت صفقات لشق المعارضة، لكنها في نفس الوقت لم تتمكن من إحداث التغيير الاقتصادي الذي كان البلد في أمس الحاجة إليه. بالنسبة للإنسان التونسي العادي، وخاصة بالنسبة للشباب، كانت الأمور تتجه من سيئ إلى أسوأ.
معظم ذلك الوقت لم تكن النهضة مسيطرة، لا على البلد ولا على الحكومة، بل كانت تقاتل من أجل تشكيل المؤسسات مثل البرلمان ومثل المحكمة الدستورية، والتي كانت ستعزز الديمقراطية في تونس.
فيما لو كانت التجربة التونسية مع الديمقراطية فعلاً في نهايتها، فذلك يعني أن التونسيين سيقبلون بحجة الطغاة في سائر أرجاء العالم العربي، ومفادها أنهم ليسوا جاهزين للديمقراطية، وأنهم لا يناسبهم سوى العيش في كنف الطغاة البشعين.
لا أعتقد أن الربيع العربي قد مات، ولا أعتقد أيضاً أن الشعب التونسي على استعداد للعودة إلى حكم الرجل الواحد. وستثبت الأيام القادمة ما إذا كنت، تارة أخرى، على صواب.
(ميدل إيست آي)
الشعبوية الكارهة للشعب: عن سوء توبيخ اللبنانيين لأنهم لم ينتفضوا من جديد