ليس لشعوبنا أن تتماهى مع حكامها، ولا أن تكون في جيب صديق أو عدو. وعليها أن تُفهِم أنظمة العالم بأنها تتعامل مع حكام لا يمثلون شعوبهم، ومنتوجهم باطل، وبأن فلسطين بوصلتنا السياسية والأخلاقية.
نستطيع القول بأن سياسة إيران في الوسط العربي جدلية، والسبب ينبع من كون نشاطها العسكري وأوراقها السياسية وفعلها وردّات فعلها ينحصر في الوطن العربي، ومشروعها يرتكز على تصدير ثورتها، مما قد ينطوي بشكل أو آخر على احتمالية التوسع بأساليب فَرْض السيطرة والنفوذ والسيادة، وهي أدوات معاصرة للاحتلال عن بُعد. ومن هنا يرى البعض بأن المشروع الإيراني يتصارع مع المشروع الصهيوني في ذات الإقليم والمنطقة. وإن صح هذا فإن تصادم المشروعين بالنسبة للعرب هو تقاطع في الضرر الجسيم، لكون الوطن العربي محلاً لهما.
وكما أن المشروع الصهيوني أدّى إلى حالة استقطاب لحكام مأجورين لخدمته، وإلى فشل أقطار عربية واستباحتها، فإن إيران عندما فاجأت أمريكا والغرب بخروجها من دور "البعبع" لممارسة دور المنافس بمشروع معيق للمشروع الصهيوني وعلى حسابه، قامت (أي إيران) باستقطاب مُضاد في دول عربية أخرى صانعةً أو مستميلة حكاما تابعين لها، وأسهمت بتدمير أقطار عربية وعمقت من حالة الإنقسام العربي.
هذا الاستقطاب لحكام العرب وارتمائهم بين حضني "إسرائيل" وإيران هو طبيعي، لانسجامه مع ارتباطاتهم ومع نهوجهم المملاة عليهم كحكام يفتقدون للشرعية الشعبية. إلا أن استقطاباً مجرماً آخر تولد عن هذا الاستقطاب، ولكن بين إيران وتركيا الدولتين المسلمتين، وشمل الشعب العربي بخاصته وعامته، حيث أصبحت التعبئة السياسية الشعبية باتجاه إيران وتركيا لا باتجاه معركتنا ضد الاحتلال الصهيوني، تناقضنا الأساسي. وهذه الملهاة تكمل صورة حكامنا باتجاه فقدان شعوبنا لشخصيتها السياسية السيادية المستقلة في بلادها، وتحرف بوصلتنا كشعب عربي وتُغطي على الحقيقة وتنعكس علينا بأضرار وجودية.
ولعل القضيتين الملقاتين أمام شعبنا في هذا الصراع البيني هما، القضية الفلسطينية والدين الحنيف. فإيران بعرف أنصارها ستحرر فلسطين، ويتغاضون عن مسألة الدين ويتهمون تركيا بالأطلسي والتطبيع، بينما أنصار تركيا يركزون على طبيعة الدين الحنيف وبُعد إيران عنه، وعلى أن الخلافة ستحرر فلسطين، ويتغاضون عن تورط تركيا بالتطبيع مع الكيان الصهيوني. وهنا أرجو أن أوضح النقاط التالية وبعضها يرقى لمُسلَّمات، كقاعدة للتقييم.
1- الدولتان قوميتان بقيادتين إسلاميتين. وبهذا، طبقاً لتطور الفكر السياسي الدولي والتجارب على الأرض، فإن رجل الدين المؤمن بالقيم والتعاليم الدينية وبقدرتها على إعادة إصلاح الأمور ولديه العزم الصادق لفعل هذا، نجده عندما يتسلم الحكم يصطدم بعدم قدرته على المضي بموجب قيمه الدينية، وبعجزه عن الانعزال عن المستقرات في النظام الدولي وقوانينه، وبتعددية الرؤى الداخلية في بلده، فيتخلى مُجبرا عن استخدام القواعد الدينية في إدارة سياسته. والخلاصة نحن أمام قيادتين سياسيتين، وسياسيتين فقط.
2- ولكون خلفية القيادتين دينية، فقد اتجهتا لاستثمار الدين حتى لا أقول استخدامه. فإيران تستثمره في خارج حدودها وتحديداً في الوطن العربي، وتدخل في هذا الإطار القضية الفلسطينية كورقة ضاغطة لخدمة معطيات صراعها مع المعسكر الغربي. وبهذه الجزئية الفلسطينية، إذا استبعدنا السلبيات والغايات، لا بد من الاعتراف بأن سياسة إيران تتقاطع مع مصلحتنا، وقد قدمت الكثير من خلال حزب الله وحماس، بينما القيادة التركية تستثمر الدين في الداخل لكسب التأييد الشعبي وتعزيز الحكم، ولما يتيسر في سياساتها الخارجية، لكنها عاجزة تماماً عن استثماره في القضية الفلسطينية، بل إن القضية تُستخدم حجة عليها.
وهنا، إذ لا ننكر التحول التركي الإيجابي البسيط نحو القضية والموقف من "إسرائيل"، ونقدر بأنها في مرحلة تحول سياسي وانفكاك عن الأتاتوركية التي لها متعصبوها في الداخل، إلا أن استمرار تركيا في التماهي مع الأنظمة العربية والتطبيع مع الكيان الصهيوني أمر في المحصلة غير مقبول من أية دولة إسلامية حرة، ففلسطين كلها بمثابة وقف إسلامي..
3- ليكن معلوماً أن مُصطلح "تحرير فلسطين"، لا تستطيع إطلاقه ولو على سبيل المزايدة أية دولة سوى عربية. فالقانون الدولي وقواعده المستقرة وميثاق الأمم المتحدة، وترسخ الدول الوطنية ودساتيرها ومصالحها لا يسمح بهذه المهمة.. وبهذا نلاحظ أن إيران تهدد أحياناً في سياق صراعها مع أمريكا بمصطلح "تدمير إسرائيل"، لا بمصطلح "تحرير فلسطين".
4- تُطلِق إيران أحيانا عبارات تنطوي على رغبتها باستعادة إمبراطوريتها التي شملت يوماً الوطن العربي الآسيوي. وهذا الطموح وإن كان مبنياً على انهيار الحالة العربية لا على قوتها، إلا أنه من شطط القول ضمن المعادلة الدولية القائمة، ولا يؤخذ على محمل الجد، بينما تشير تركيا أحياناً لتاريخها العثماني وبما ينطوي عليه من استعادة الخلافة، وهي تعلم باستحالة تمكنها من ذلك ضمن ذات المعادلة الدولية وبما تسببه كلمة خلافة من رعب عند الأوروبيين واستعداد يصل لتحالف واسع ضدها، ولذلك فالأمر لا يتجاوز مخاطبة عواطف الشعب التركي.
5- طبيعة الصراع الإيراني والخلاف التركي مع أمريكا
أ- الخلافات الإيرانية الأمريكية تتعلق بمصالح البلدين وتضارب استراتيجيتهما في المنطقة، ولا علاقة في هذا من قريب أو بعيد للقضية الفلسطينية من حيث المبدأ، ولكن إيران تستخدمها كعامل ضغط فعال جداً، بينما على الصعيد التركي لا توجد خلافات استراتيجية مع أمريكا وإنما هناك تحول سياسي تركي يقابله تخوف أمريكي– غربي- صهيوني من ترسيخ الديمقراطية في تركيا والانقلاب على نهج أتاتورك المعادي للإسلام، ومن انسلاخ تركيا عن الحضن الغربي.
ب- لا أطماع أمريكية أو صهيونية في إيران وتركيا، بل هناك عملية ترويض. فبالنسبة لإيران، أمريكا تتدرج تنازلياً من مطلب إعادتها لحضن المنظومة الغربية إلى الصداقة والاستيعاب. وفي حالة الفشل سيكون هناك تصميم على ضمان إرضاخها لعدم الاستعداء أو التعرض للمصالح والأطماع الأمرو-صهيونية في المنطقة العربية، وإن استعصى ذلك عندها ستستحدم القوة العسكرية اضطراريا، ومن هنا فإن السلاح النووي لإيران ضمانة لمشروعها.
ج- أما تركيا فهي بموقعها الجغرافي الأوروبي وثقلها العسكري وحساسية تاريخها الإسلامي ووحدة مذهبها مع 90 في المئة من المسلمين؛ أهم وأخطر بكثير لأمريكا وللغرب من إيران، ولذلك فستبقى جهود الغرب قائمة للانقلاب على أردوغان متوازية مع جهود استعادة تركيا لحضنهم. وباعتقادي أن ترسيخ الديمقراطية ضمانة لتركيا، وليس الدوران في فلك الغرب وبمجاملة الكيان الصهيوني والتقرب إليه.
6- إيران وتركيا دولتان مركزيتان بمقدراتهما الضخمة وبقيادتين حرتين. وصحيح أن تحرير فلسطين واجب إسلامي كما هو عربي، إلا أن الواقع المعاصر بات مغايراً للمفترض. وبات تحرير فلسطين شأناً عربياً، ولا يكون - لا سيما في غياب الدور الإقليمي الرادع لأي دولة عربية - إلا بالمقاومة المسلحة التي تستلزم دعم الأصدقاء والأشقاء، ولن يتحقق هذا الدعم على قاعدة مستدامة ونظيفة ومُنتجة ما لم نكن أهلاً له ومُقنعيين. فلا دعم للضعفاء ولغير الأحرار، ولا حقوق ولا مصالح لضعيف ولا تحالف إلا مع القوي.
وبهذا علينا كشعب عربي أن لا نتماهى مع حكامنا، فلا نكون تبعاً أو في جيب صديق أو عدو وأن نتمسك بشخصيتنا السياسية وبمنظورنا وقرارنا، ليكون الأمل بالتغيير قائما، ولتَعرف أنظمة العالم الصديقة والعدوة بأنها تتعامل مع حكام لا يمثلون رؤية شعوبهم، ومنتوجهم باطل، وبأن فلسطين بوصلتنا السياسية والأخلاقية. وأن ننظر للدولتين من خلال شعبيهما المسلمين كرصيد قوي لنا ولقضيتنا الفلسطينية؛ ننقد مواقفهما بما يخصنا بلسانِ وقلمِ الصديق للصديق، ولا نكسب عداوة أي منهما..
عن زيارة محمود عباس المفاجئة إلى تركيا
نافذة حول استراتيجية تركيا في المنطقة.. قوة متنامية وحليف موثوق
المخاطر الوجودية على إسرائيل بعد معركة سيف القدس