بداية: وددت أن أقتبس فكرة تفسيرية مهمة، تشرح وضع الدولة التركية وسياستها في المنطقة، الفكرة وردت في واحد من أهم الكتب السياسية في العالم؛ كما يعتبر باعتقادي مرجعية استراتيجية لشرح سياسة
تركيا، في المنطقة والعالم.
الكتاب المقصود هنا هو كتاب " العمق الاستراتيجي". لقد عبَّر رئيس الوزراء ووزير الخارجية التركي الأسبق، والمنظر السياسي الأبرز، أحمد داود أغلو، في كتابه المذكور آنفا، عن سياسة تركيا تجاه المنطقة وما ينبغي عليها فعله، بالقول: "باعتبار تركيا دولة قومية قامت على الميراث العثماني - وإن بخصائص جديدة - في بداية القرن الماضي، تجد نفسها مضطرة مرة أخرى لتواجه مسؤولياتها الجيوسياسية والجيوثقافية المتعلقة بهذا الميراث مع نهاية القرن نفسه".
"إن هذه المسؤوليات التي تقع على عاتق تركيا ستفتح آفاقا جديدة وإمكانات جديدة للسياسة الخارجية التركية، وستكون الأكثر تأثيرا في تشكيل الذهنية الاستراتيجية التركية وهويتها في المراحل المقبلة".
وبالفعل هذا هو ما يحدث اليوم، تماما كما رسمه أحمد داود أوغلو، وهو المعروف بمهندس
السياسة الخارجية التركية وعرابها الأساسي. ومن يريد أن يفهم السياسة التركية بشكل موضوعي ومحايد، عليه العودة للكتاب، ليتمكن من قراءة السياسة التركية كما هي، وليس كما يريد هو، أو كما يفعل خصوم تركيا ذوو الدوافع المغرضة حين يتعسفون في قراءة تحركاتها في المنطقة بشكل خاطئ.
إنها باختصار مبدئي: دولة تضع اعتباراً للفضاء الحضاري الذي تنتمي له، أي أنها ترى عمقها الطبيعي هو العمق الإسلامي والعربي، ومستعدة لتسخير قوتها وقدرتها لتحقيق مصالحها ومصالح المنطقة، وليس كما يزعم خصومها أنها تسعى للهيمنة.
لطالما آمنت تركيا أن ما جعل المنطقة مكشوفة أمام الهيمنة الدولية هو ضعف ترابط الدول فيما بينها، وعدم وجود
تحالفات قوية تخفض من التغول الدولي في الشرق الأوسط، ولهذا فهي حين تسعى لتحقيق خطوة كهذه، لا يعني أنها تهدف لاستبدال مهيمن دولي بمهيمن إقليمي أخر، إنها تنظر للمنطقة بعين الأخوة الجيران، وعمقا حساسا بالهوية الإسلامية يؤكد نزوعها المشترك مع الإطار العربي.
إن ما يميز سياسة تركيا تجاه المنطقة أنها تبحث عن نفوذ عادل ومشروع، وتحرص على حراسة مصالح حلفائها كما هي حريصة على مصالحها، كما أنها لا تستلب أتباعها ولا تستغل ضعفهم؛ كي تعقد معهم اتفاقيات مجحفة.. إنها نموذج للحليف الذي لا يخشاه حليفه، حليف يتحرك مسلحاً بالقوة والنزاهة، ويضع اعتبارا للإرث الحضاري والتاريخ الثقافي المشترك بين تركيا والمنطقة، وليس حليفا يمضي وعينه على الكنز والفريسة، مع التنويه إلى أن تركيا مثلها مثل أي دولة تبحث عن مصالحها، لكنها تبحث عن مصلحتها، تحت شعار: فلنربح جميعا، المحالف والحليف، وليس كما يفعل الآخرون ولعلكم تعرفونهم جيدا ولا حاجة لذكرهم هنا.
حسناً، نعود لشرح طبيعة القوة التركية وسياستها كما تتجسد أمامنا في اللحظة الراهنة. لا يجادل أحد في أن تركيا باتت قوة إقليمية مركزية في الشرق الأوسط، وكل فترة تتنامى قوتها بشكل أكبر، وبما يجعلها لاعبا أساسيا في مستقبل المنطقة، ليس من الآن، بل طوال العقدين الأخيرين وبتحديد أكبر خلال العقد الأخير. فالواقع يؤكد لنا كيف تضاعف نفوذها وأثبتت قدرتها على الفعل والتحرك على أكثر من جبهة، وصناعة أثر كبير في توازنات القوى في المنطقة.
على الرغم من التعقيدات الشديدة التي أحيطت بها تركيا في السنوات الأخيرة، ووقوعها أمام مآزق متعددة، بدءاً من القضية السورية والتهديدات الأمنية القادمة من هناك، إلى جانب خذلان الحليف الغربي لها، والعقوبات الأمريكية ضدها، والتوجس الأوروبي منها، وتوتر علاقتها بمصر وبعض دول الخليج، وكل ما خلفه الأمر من انعكاسات سلبية على الوضع الداخلي، سواء محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز/ يوليو 2016، أو التهديدات الاقتصادية وتراجع سعر صرف الليرة بسبب هجمات البورصة التي تعرضت لها، إضافة لأثر العقوبات ضدها... بالرغم من كل هذه الكوابيس، إلا أن السياسة التركية أثبتت حيويتها وتعاملها الفعال على كل الأصعدة.
داخليا، نجحت في ترتيب وضع الدولة وتأمين ديمقراطيتها بشكل أقوى، إلى جانب امتصاص الارتدادات الاقتصادية، وتعزيز قدراتها الداخلية، وبما يخفض قدرة الخصوم وحتى الحلفاء على ابتزازها.
أمنياً وعسكريا، حسمت تركيا أمرها في فرض منطقة عازلة على الحدود السورية، وحيّدت الأخطار المتمثلة في قوات سوريا الديمقراطية، الجناح العسكري السوري لحزب العمال الكردستاني، وهي قوة زرعتها أمريكا وغذتها ودربتها، كي تستخدمها كورقة ضغط على تركيا؛ لكن الأخيرة تمكنت من تقويضها أو على الأقل تكبيلها وإزاحتها وتجريد قدرتها على إلحاق الأذى بتركيا وهذه خطوة لم تكن عادية؛ بل شكلت تحديا حقيقيا لأمريكا، حتى أن أمريكا اضطرت لاحقا لاحتواء الموقف؛ لكنه احتواء الضرورة فحسب.
كما تمكنت تركيا من فرض معادلة سياسية جديدة وغير معهودة في ما يخص علاقتها بحلف شمال الأطلسي" الناتو"، وخلقت حالة من التوازن في سياستها العسكرية بين الناتو وروسيا وبما يصب في مصلحتها القومية. صحيح أن تركيا تعتبر القوة الثانية في الناتو بعد أمريكا، لكن الناتو لم يعمل بمقتضى هذه المكانة التي تحظى بها تركيا في الحلف، ولم يتجاوب مع دعواتها له لدرء التهديدات القومية التي تحيط بها، وهو ما دفعها للتصرف بحرية. وتلك سياسة فعالة، تؤشر لذكاء عال وموازنة شجاعة ومحكمة.
لم تقتصر دينامية السياسية التركية على قدرتها في حراسة مصالحها وفرض معادلات سياسية وعسكرية في علاقتها بمحيطها أو في ما يخص علاقتها بالناتو، بل ذهبت أبعد من ذلك لتأمين مصالحها ومصالح حلفائها بالمنطقة بشكل باعث للإعجاب ومانح للجدارة.
لقد شكل مشهد الجسر الجوي العسكري بين تركيا وقطر حين كانت قطر معرضة لتهديد وجودي من جيرانها، ومشهد الطائرات التركية المسيرة وهي تسند حلفاءها في طرابلس الليبية وتدفع المنقلبين على الدولة بعيدا، ومشهد القوات الأذربيجانية وهي تنتصر بدعم تركي.. كل هذا شكّل تحولا كبيرا في السياسة التركية، سياسة التدخل المشروع والفاعل، بعد سنوات من التردد والحذر.
وبالطبع، في كل تلك المحطات السابقة، قدمت تركيا نفسها كحليف قوي سريع الحركة ولا يخذل حلفاءه، وتلك مواصفات قوة دولية عالية الكفاءة، وليس قوة إقليمية فحسب. وهو ما جعل الأقطاب الدولية تضاعف حساسيتها من تركيا وترغب بلجمها مهما كان الثمن.
لقد تمكنت تركيا من كسر العزلة التي حاول خصومها فرضها عليها، فنحن أمام دولة أرادت أطراف كثيرة تكبيلها، لكنها ابتكرت منافذها البديلة وتحررت من كل الكوابح المحيطة بها، ونجحت في توسيع تحالفاتها خارج خطوط التحالفات التقليدية الميتة. ونعني هنا تحالفها مع أمريكا ورغبتها الممتدة بالانضمام للاتحاد الأوروبي، وما تعرضت له من ابتزاز طويل بسبب ذلك.
إذ لم تقعد تركيا تعبر عن خيبة أملها من حلفائها الدوليين، لكنها مضت تشق طريقها وتعزز قدراتها داخليا وخارجيا، وهذا هو مفهوم السياسة الناجحة؛ التحايل على الظروف وخلق مسارات بديلة، وليس ثمة نموذج عملي لهذه الفكرة، مثلما تثبته سياسة تركيا اليوم داخليا وفي محيطها.
هناك سلوك إضافي ومهم، بالنسبة للخطوات التركية الفاعلة في المنطقة، سلوك يثبت درجة الثقة التركية بقدراتها ومدى تحررها من كل الحواجز الخانقة لها. لقد تمكنت تركيا من بسط سيادتها على المناطق التابعة لها في بحر المتوسط وأرسلت سفنها للتنقيب، وعقدت اتفاقية ترسيم للحدود البحرية مع طرابلس، وبما يعطل خطط دول "حوض المتوسط" ورغبتهم بخنق تركيا وتقييد نفوذها في البحر..
وبهذا تكتمل اللوحة، وترى تركيا اليوم أكثر انطلاقا وبيدها أوراق كثيرة، بل إن خصومها لم يجدوا أمامهم سوى التوقف مع أنفسهم طويلا ومراجعة سياستهم تجاهها، والأشهر الأخيرة تؤكد جنوح كثير من خصوم تركيا لتطبيع علاقتهم بها، ليس لأنهم تخلوا عن دوافعهم في أذيتها، بل لكونها عطلت قدرتهم على القيام بذلك ولم تُبق لهم سوى خيار واحد؛ هو التصالح معها وهو ما يحدث اليوم بالطبع.
الخلاصة:
تنتهج تركيا سياسة المد والجزر، أو ما يسمى في العلوم السياسية "القوة في خدمة السياسة"، حيث تعمل على تفعيل الذراع العسكرية لها حين تتعطل السياسة، وبهذا تفتح آفاق جديدة للدولة وتجبر الخصوم على التخلي عن عنادهم، وهي في لحظة تلويحها بالقوة لا تغلق المنافذ السياسية بل تتركها مواربة. وهنا يكمن التوازن الحكيم، فهي ليست دولة باحثة عن حروب ومشكلات وخصومات؛ لكنها حين يتعنت الخصم تظهر وجهها الحاسم، وبشكل يثبت أنها تحمل البندقية في يد وغصن الزيتون في اليد الأخرى وعلى الخصم أن يختار.
أما بخصوص نزوعها القومي في المنطقة، فهي فرصة تاريخية أمام الدول العربية لإعادة النظر بسياستها تجاه تركيا والتقاط الفرصة لتعزيز التحالف معها، وبما يصب في صالح شعوب المنطقة ويصنع حالة توازن إقليمي ودولي، ويرمم جزءاً من انكشافنا، أعني كعرب أمام العالم.