هناك أسباب وجيهة وراء ازدهار سوق «هيدرا» على شبكة الإنترنت المظلمة في روسيا.
ونشرت صحيفة «بيلد»، أكبر الصحف الشعبية انتشاراً في ألمانيا، خبراً عن هجوم كبير من روسيا على النظام المصرفي الألماني، وذكرت أن الجناة ينتمون إلى القراصنة الروس التابعين للدولة من مجموعة «فانسي لازاروس» الشهيرة. وإذا ما وقع الهجوم حقاً -وليس هناك تأكيد رسمي حتى الآن- فسيكون من الصعب كالمعتاد توجيه أصابع الاتهام بشكل قاطع ضد الجهات الفاعلة التابعة للدولة في روسيا، حتى لو ألقى خبراء الأمن السيبراني باللوم عليها. والواقع أن مجموعة من القراصنة السيبرانيين المعروفين باسم «فانسي لازاروس» يمكن بكل سهولة ربطهم بالصين أو كوريا الشمالية أو عدم ارتباطهم بأي حكومة على الإطلاق.
وبسبب حالة الإنكار هذه، كان على الرئيس الأميركي جوزيف بايدن أن يتحرك بحذر عندما حاول رسم «خطوط حمراء» للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قمة الشهر الماضي، إذ لا يمكنه أن يأمر بوتين مباشرة بوضع حد للهجمات السيبرانية. وبدلاً من ذلك، تحدث عن عدم توفير الملاذ لمجرمي الإنترنت -وهي سلسلة من المناقشات حاول بوتين الانحراف عنها بقوله إن روسيا سوف تنظر في تسليم مجرمي الإنترنت إلى الولايات المتحدة، وإنما على أساس المعاملة بالمثل. ولا يمكن اعتبار الأمر بداية لنظام تبادلي شامل، وإنما مجرد حالات تبادل محددة يمكن الترتيب بشأنها من الناحية النظرية البحتة.
إن إنكار تورط الدولة الروسية في الهجمات السيبرانية أقوى من إنكار تدخلاتها في أوكرانيا على سبيل المثال. ومن ناحية أخرى، يبدو الأمر كأنه عار على كل من يعرف أي شيء عن مؤسسة روسية مهمة: سوق الإنترنت المظلمة المسماة «هيدرا» التي يمكن أن تكون الأكبر في العالم، والتي لا يمكن أن توجد في أي مكان آخر. وإلى جانب احتمال كونها وسيطاً رئيسياً لتجارة المخدرات، فلقد ساعدت في بناء شبكة من قنوات غسل الأموال للقراصنة التي يصعب على غير الروس الاستفادة منها.
وفي عام 2018، قُدر متوسط العمر الافتراضي لسوق شبكة الإنترنت المظلمة، أو السوق المظلمة اختصارا -وهي موقع للتسوق على الإنترنت عبر شبكة مشفرة مجهولة مثل متصفح «تور»- بنحو ثمانية شهور. وهي تنهار تحت وطأة الاحتيال أو تقع ضحية إجراءات إنفاذ القانون المتعددة التي تنشط أحياناً بسبب المنافسين. وهي عبارة عن غابة سيبرانية قد اعتاد كل من العملاء والبائعين على الهجرة منها إلى أماكن جديدة، بيد أن الاستثناءات القديمة بين الأسواق المظلمة نادرة الحدوث للغاية.
«هيدرا» هي الاستثناء الذي قضى على جميع الاستثناءات. وقد بدأت العمل في عام 2015، وبلغ حجم أعمالها نحو 9.4 مليون دولار في السنة التالية، وتمكنت من زيادته إلى 1.4 مليار دولار في عام 2020، وهي ما تزال قوية. وتنبع هذه الأرقام من تقرير صادر عن شركة «فلاش بوينت» لمعلومات مخاطر الأمن السيبراني، وشركة «تشين أناليسيس» لتحليل العملات المشفرة، التي تقدر أيضاً أن سوق «هيدرا» باتت تمثل أكثر من 75 في المائة من عائدات السوق المظلمة في جميع أنحاء العالم.
وتتحرك دورة رأس المال المذكورة بالكامل عبر العملات المشفرة. ويضع تحليل شركة «تشين أناليسيس» حصة تدفقات عملة البتكوين من الأنشطة غير القانونية عند نسبة ضئيلة تبلغ «واحد» في المائة فقط، ولكن كما كتبت شركة التحليلات في «تقرير جرائم التشفير» لعام 2021، فإن «أول ما يظهر للعيان هو حصول روسيا على حصة ضخمة بشكل غير متناسب من صناديق السوق السوداء التي ترجع في الغالب إلى (هيدرا)». ولا عجب في ذلك، ففي موسكو، وغيرها من المدن الروسية، أصبحت سوق «هيدرا» مكاناً لشراء العقاقير التي يتم توزيعها في الأغلب بصفتها «كنوزاً مخفية» من قبل مجموعات من صغار رجال العصابات الذين يمكنهم كسب آلاف الدولارات شهرياً من إخفاء العقاقير المبيعة تحت مقاعد الحدائق العامة، أو دفنها تحت الأشجار، أو وضعها أسفل صناديق البريد العامة.
إن السوق غير المشروعة بهذا الحجم وهذا القدم تعد بالضرورة نظاماً بيئياً إلكترونياً كاملاً. وهي تولد الطلب الكبير على خدمات غسل الأموال التي يمكن استخدامها في إضفاء الشرعية على العائدات المتولدة من أنواع أخرى من الجرائم السيبرانية أكثر من تجارة المخدرات. ويصف تحليل شركة «تشين أناليسيس» وشركة «فلاش بوينت» حدوث تغيير كبير في ممارسات «هيدرا» لإدارة الأموال في عام 2018.
وحتى يتمكن البائعون من سحب أموالهم من «هيدرا»، يتعين عليهم تحويل هذه الأموال إلى الروبل الروسي من خلال مجموعة محددة من مقدمي الخدمات المحليين. وهذا لا يبعث على الارتياح لدى البائعين. ووفقاً للتقرير، فإن بعض بائعي المخدرات يفضلون الآن التعاملات المالية النقدية خارج بيئة «هيدرا»، ودفن كميات الأموال بأسلوب تسليم العقاقير الممنوعة نفسه. ولكن طبقاً لتقرير الشركتين المذكورتين، فإن الاعتماد على الخدمات المحلية والروبل الروسي جعل تتبع مسارات غسل الأموال إلى «هيدرا» أمراً عسيراً، بل يكاد يكون مستحيلاً.
وهذا بالطبع يجعل البنية الأساسية للمال في «هيدرا» ذات قيمة عالية لأنواع مجرمي الإنترنت المحليين كافة. ويحتوي «تقرير جرائم التشفير» على دراسة حالة لسمسار العملات المشفرة الروسي غير الرسمي الذي يستخدم العملات المشفرة بصورة مفرطة، والذي حصل على 265 مليون دولار من العملات المشفرة منذ أن أرتاد هذا النشاط في عام 2018، ربما من قبيل المصادفة. كان جزءاً كبيراً من المال يأتي من «هيدرا»، لكن هناك تدفقات أخرى جاءت من سلالات واحتيالات برمجيات الفدية المختلفة. كما ساعد سمسار العملات المشفرة العملاء على تحويل البتكوين التي حصلوا عليها بصورة غير مشروعة إلى أموال نقدية.
تقول وزارة العدل الأميركية إنها تمكنت من استعادة جزء من الفدية التي دُفعت إلى القراصنة الذين تمكنوا من تعطيل أعمال شركة «كولونيال» لخطوط الأنابيب في وقت سابق من هذا العام. ولكن عندما تمت استعادة البتكوين، كان صانعو برمجيات الفدية قد تمكنوا من تحويل العملة المشفرة إلى الروبل الروسي باستخدام القنوات التي انتشرت حول «هيدرا»، والتي تتغذى بأحجام الأموال والتداولات الموثوق بها.
(الشرق الأوسط اللندنية)