سئمنا كل شيء.. هذا هو حال المواطن
اللبناني البسيط القابع على ضفة النهر، يرقب حلا من هنا وحلا من هناك ولا حلول في الأفق، ولا زالت لغة المحاورة الناشفة والجافة لا بل الحادة تخط بيانات المتحاورين، وكأني بحروف البيانات رصاصات تضرب خبط عشواء من تُصِبْ تُمِتْهُ، ولا أب لك يسأم.
انفجرت المواقف، خاصة بعدما تبددت لغة الحوار الجاد وانكسرت الجرة بين بعبدا مقر الرئاسة الأولى، وعين التينة مقر الرئاسة الثانية. فالرئاسة الأولى يبدو واضحا أنها لا تريد سعد
الحريري في سدة السرايا الحكومية، وما يبعثه الرجل من قلق على المحطات القادمة في الساحة اللبنانية؛ من إبرام الحلول مع صندوق النقد وصولا إلى ملفات الترسيم الحدودي حول الثروة الأحفورية، واستحقاقات الانتخابات النيابية ثم الرئاسية، التي فتحت أبواب معركتها منذ اليوم الأول لوصول العماد
عون بعبدا، إضافة إلى الكيمياء المفقودة بين الحريري وباسيل.
وأبعد من ذلك، فإن الرئيس بري لم ينتخب عون ومضى في سياسته الواقعية مهادنا عون، إرضاء لحليف الحليف حزب الله في معركة عنوانها "لا يموت الديب ولا يفنى الغنم". غير أن بري أطلق ما لم يستسغه الرئيس عون في الصميم، حينما كرس سيد البرلمان تكليف الحريري وقطع الطريق على تسمية بديل عنه؛ في وقت كان عون ومعه باسيل قد دخلا فعلا في مرحلة البحث عن مرحلة تلي اعتذار الحريري، بعد أن تأكد لهما جدية قراره في المغادرة بعيدا عن السرايا.
وبدا الرئيس بري في موقع الهجوم من موقعه البرلماني الممسك بقواعد الدستور، مستثنيا دور عون في تشكيل الحكومة ليضعه أمام أمر واقع عنوانه: تمسك الجميع بالرئيس المكلف، فهل هي معركة كسر العظم بين عون وبري ولا عودة فيها؟ وماذا عن الحريري وتكليفه دون تأليف وإلى متى؟ والأدهى، الخلاف الحاصل دستوريا على أنقاض من؟ علما أن الإجابة واضحة بأنها على أنقاض تعب اللبنانيين ووجعهم وأعصابهم المرهقة؛ على أبواب محطات الوقود في حفلة "شحادة" لا تنتهي إلا بمشكلة هنا أو هناك، إن بكلام وزير معيب بحق شعب ذاق الأمرين، أم بدولار يسحق العملة المحلية ولا زال يحلق في أزمة نقدية مالية بلا سقوف.
وللتذكير، فإن البنك الدولي صنفها ضمن إحدى أشرس ثلاث
أزمات اقتصادية في القرن العشرين في العالم. وحديث المؤشرات الاقتصادية لا ينتهي فصولا عندما نتحدث عن أكثر من مليوني لبناني فقير، وللأسف لا زال القيمون يبحثون عن اسم وزير ومذهب وزير آخر وطائفة وزير ثالث ومرجعياته، والناس يئنون حيث مظاهر الدولة تتحلل شيئا فشيئا.
وانطلاقا من فكرة إصرار بري على متابعة مبادرته في جو كسر العظم السائد وانغلاق الأفق، يسأل المراقبون: على ماذا يعول "النبيه" في معركته بمواجهة لحليف الحليف؟
هل يعول على صرخة الناس الآخذة في الصعود، علما أن الغضب وصل مراتب عليا، والأدهى هم الناس الساكتون عن أبسط حقوقهم؟
أم يعول "الأستاذ" على "قبة باط" أو غض طرف من اللاعب الأقوى، حزب الله، لمواجهة سيد بعبدا حتى الرمق الأخير؟
وهل جير الرئيس بري ونسق حملته مع الدور الفرنسي الممتعض أصلا" من فريق الرئاسة إلى حدود العقوبات الفرنسية والأوروبية؟
وماذا عن الرئيس بري وحليفه التاريخي وليد جنبلاط الذي تموضع بطريقة لا تزعج بعبدا ولا تجرح بيت الوسط؟ ولكن ماذا لو فلت الشارع من عقاله في الأيام القادمة؟ فإلى أين؟!
هل فعلا حزب الله في وارد رفع الغطاء عن دعم التيار الوطني الحر في ظروف إقليمية ودولية معقدة، علما أن لغة بعض الحزبيين ترتقي إلى جبهة خلاف؟
المنطق يقول؛ إن الحريري يسابق الزمن لبلورة حكومة قبل الاعتذار الكبير، الذي يبدو محتما في أفق مسدود كهذا، وعليه المواجهة المفتوحة بكل معانيها الوطنية والطائفية وحتى المذهبية، في شارع حانق، خاصة بعد بيان المجلس الشرعي الإسلامي وإضراب الاتحاد العمالي المغلف بالرسائل الحزبية.
فواقع الحال يشي بالأزمات القادمة، التي لا بد أن تصيب الشارع وتحرك شيئا في المياه الراكدة منذ انفجار المرفأ، الذي كسر ظهر الوطن ومزق قلبه.
لقد حان وقت دخول حزب الله جديا في معركة التأليف، حيث غدا
الانقسام واضحا بين الجميع، فالكل مع الكل والكل ضد الكل. فكيف سيدور الحزب الزوايا في لحظة يريد فيها حزب الله الحريري في السرايا منعا للفتنة السنية الشيعية، وعون في بعبدا منعا لإضعاف حليفه المسيحي، والحرص على رضى بري منعا لاهتزاز البيت الشيعي من الداخل، والحرص على عدم انفلات الشارع وعودة المنتفضين؟
فأي معادلة ستنجح في لعبة الاحتضار لوطن قبل الزوال، على ما جاء على لسان ناظر الخارجية الفرنسية ذات يوم قريب؟ الكل بات ينتظر الارتطام الكبير، فهل من يستدرك ما تبقى من وطن في زمن الانقسام والجمود القاتل؟!