قضايا وآراء

"ويحكم كلكم يبكي.. فمن سرق المصحف؟"

1300x600
لعنونة هذا المقال، اخترنا القولة المنسوبة إلى الإمام مالك بن دينار لأنها مدخل جيد لفهم "روح" الخطابات المهيمنة على المشهد التونسي.

فبعد مرحلة من الغنائيات التي مدارها "الاستثناء التونسي" في المسار الكارثي للثورات العربية - أو فرصة "المصالحة التاريخية" بين الإسلاميين والدساترة في حكومات "التوافق" زمن المرحوم الباجي قائد السبسي، ومن بعدها فرصة تكوين حكومة "ثورية" بعد انتخابات 2019 - أصبحت البكائيات هي القاسم المشترك بين كل الخطابات بصرف النظر عن موقفها من السلطة الحاكمة أو موقعها فيها.

ففي واقع الأزمة الاقتصادية وسوء إدارة الحكومة لأزمة وباء كورونا، وبحكم انسداد المشهد السياسي بصورة غير مسبوقة وغياب أي أفق قريب للتوافق حول تسوية ممكنة، لم يكن أمام أهم الفاعلين الجماعيين إلا تغيير استراتيجياتهم التواصلية باعتماد محورين: من جهة أولى الاعتراف بعمق الأزمة وباستحالة تجاوزها من داخل التوازنات/ الخيارات السياسية والاقتصادية الحالية، ومن جهة ثانية اتهام الخصوم بأنهم سبب هذه الأزمة وتبرئة الذات من أية مسؤولية سياسية أو أخلاقية عنها.
لم يكن أمام أهم الفاعلين الجماعيين إلا تغيير استراتيجياتهم التواصلية باعتماد محورين: من جهة أولى الاعتراف بعمق الأزمة وباستحالة تجاوزها من داخل التوازنات/ الخيارات السياسية والاقتصادية الحالية، ومن جهة ثانية اتهام الخصوم بأنهم سبب هذه الأزمة وتبرئة الذات من أية مسؤولية

الطبيعة البنيوية والتأسيسية للأزمة التونسية

كنا في أكثر من مقال سابق قد أشرنا إلى الطبيعة البنيوية للأزمة الاقتصادية في تونس وإلى الطبيعة التأسيسية لأزمتها السياسية. وتفصيل ذلك - باختزال غير مخلّ يقتضيه المقام - هو أن الخيارات الاقتصادية للجمهورية الثانية هي مجرد مواصلة للخيارات اللاوطنية للجمهورية الأولى بلحظتيها الدستورية والتجمعية (نظام ريعي جهوي زبوني تابع). وقد عملت الفئات المستفيدة من هذا النظام - بإسناد صريح أو خفي من فرنسا ومن محور الثورات العربية المضادة - على تغذية الصراعات الهوياتية وحرف السجال العمومي عن القضايا الحقيقية، كما استطاعت توظيف الديمقراطية التمثيلية، عبر المال السياسي المشبوه وعبر السيطرة على الإعلام الخاص، لخدمة مصالحها المادية والرمزية وجعلها في مأمن من أية مخاطر "إصلاحية"، أي من أية مشاريع قوانين لإعادة توزيع السلطة والثروة على أسس أكثر عدلا وإنصافا.

أما الأزمة السياسية فهي أزمة تأسيسية (ترتبط بالمجلس التأسيسي) وما أوجدته من "ألغام" في مستوى القانون المنظم للسلطات أو القانون الانتخابي وغيرهما. وهو ما يعني - في التحليل الأخير - أنه قد تمت هندسة الحقل السياسي بطريقة تمنعه من الاشتغال الفعّال عبر إيجاد أغلبية مريحة للحكم وأقلية واضحة للمعارضة. وهو خيار "مقصود" فرضته مخاوف النخب العلمانية من "تغوّل" حركة النهضة، تلك المخاوف التي مثلت محور الانقسام السياسي والمجتمعي في تونس إلى حد كتابة هذه السطور.

"ما كل بيتٍ بيت الله.. ولا كل محمدٍ رسول الله"

في سياق البكائيات والشيطنة المتبادلة، يبدو أن الخطوة الأولى لفهم الواقع التونسي هي أخذ مسافة نقدية من جميع "النائحات"، وذلك لصعوبة التمييز بين الثكلى والمأجورة. ورغم أن الكل "يدعي وصلا بليلى"، أي بتونس، في تجلياتها المفاهيمية الحديثة (الوطنية، الثورة، الإصلاح، الإرادة الشعبية.. الخ.. الخ)، فإن واقع ليلى/ تونس يشهد على سقمها وعلى كثرة الأدعياء وأشباه المحبّين من حولها.

ومهما اختلفنا في تحديد دور رئيس الجمهورية في الأزمة الحالية، ومهما تباينت آراؤنا في توصيف حقيقة ارتباطاته الداخلية والخارجية، فإن الإنصاف يقتضى منا التذكير بأن هذا الوافد "الملتبس" على الحياة السياسية لا يفعل غير تعرية أزمة سابقة عليه، والدفع بها نحو نهاياتها المنطقية. وحتى لو سلمنا - جدلا - بوجود مخطط للانقلاب على الانتقال الديمقراطي أو الديمقرطية التمثيلية، فإنه لن يكون إلا تنويعة على مخططات سابقة بدأت بـ"الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة"، مرورا بالمجلس التأسيسي، لتنتهيَ بـ"التوافق" وما عرفته تونس من هيمنة للسردية البورقيبية ومن عودة صريحة للنظام السابق بمنطقه ورساميله البشرية، خاصة قدماء "أكاديمية التجمع" وحلفاءهم في الإدارة والنقابات والمجتمع المدني والإعلام.

من "الأسئلة البلاغية" إلى "الأسئلة الاستفهامية"
مهما اختلفنا في تحديد دور رئيس الجمهورية في الأزمة الحالية، ومهما تباينت آراؤنا في توصيف حقيقة ارتباطاته الداخلية والخارجية، فإن الإنصاف يقتضى منا التذكير بأن هذا الوافد "الملتبس" على الحياة السياسية لا يفعل غير تعرية أزمة سابقة عليه، والدفع بها نحو نهاياتها المنطقية

لتجاوز منطق البكائيات والشيطنة المتبادلة، ولتأسيس ثقافة المراجعات والنقد الذاتي وتحمل المسؤولية، ينبغي على النخب التونسية - سواء أكانت الآن محسوبة على "حزب الرئيس" أو جزءا من الحزام السياسي للحكومة - أن تجيب عن هذه "الأسئلة الاستفهامية"، أي الأسئلة التي تقابل "الأسئلة البلاغية"، بحيث لا تكون مجرد صياغات استفهامية كاذبة لأجوبة موجودة سلفا لدى الذات المنتجة للخطاب: ماذا قدمت هذه النخب واقعيا لتونس منذ رحيل المخلوع، أي منذ أن كان الرئيس قيس سعيد مجرد خبير دستوري لا وزن له في صنع القرار؟ ما الذي منع مجلس النواب من إرساء المحكمة الدستورية في الأجل الذي حُدد لإرسائها، أي بعد سنة من صدور الدستور سنة 2014؟ لماذا عجزت الأحزاب البرلمانية – بعد الاتفاق على القانون الأساسي لهيئة دستورية قارة لمكافحة الفساد سنة 2017 - على التوافق على تركيبة تلك الهيئة لتجاوز الطبيعة الوقتية للهيئة الحالية؟

ما هو دور الشركاء الاجتماعيين في الأزمة الحالية، خاصة الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الأعراف؟ ولماذا يصر هؤلاء "الشركاء" على الخروج من معادلات الخسارة والفشل، أي لماذا تغيب من خطاباتهم حقيقة أنه "على قدر الغُنم يكون الغُرم"؟

هل يحمل الرئيس قيس سعيد حلا للخروج من الأزمة، أم أنه قد تحوّل - باقترابه الخطير من الأطروحات الأيديولوجية وتقاطعه الموضوعي مع بعض مكونات المنظومة القديمة وفرنسا - إلى جزء من تلك الأزمة، رغم تحركه "المشروع" ضد المنظومة السياسية الفاشلة؟ ألا يحتاج النظام السياسي التونسي إلى مراجعات جذرية تجنبه واقع الأزمات التي لا مفر منها بين قرطاج وباردو، في ظل النظام البرلماني المعدل وفي ظل القانون الانتخابي الحالي؟

هل يمكن الخروج من الأزمة الاقتصادية باعتماد الخيارات الموروثة من عهد المخلوع والتي أساسها التداين وغياب العدالة الضريبية وإهمال بناء مقومات السيادة، وعدم المساس بالجوهر الريعي للاقتصاد؟
الأزمة قد بلغت مرحلة لا تهدد فقط بنزع أية شرعية أو مصداقية عن "آلات صيدهم" - أي عن أنساقهم الحجاجية المتنازعة على إدارة الفشل - بل تهدد موضوع صيدهم ذاته: وجود الدولة

ماذا قدم أصحاب السرديات الكبرى - بإسلامييهم وقومييهم ويسارييهم - للثورة أو لمشروع التحرر من هيمنة منظومة الفساد وإملاءات أسيادها إقليميا ودوليا؟ ولماذا تحولوا جميعا إلى حلفاء موضوعيين لورثة المنظومة القديمة ومجرد طابور خامس في خدمة منطق الدولة- الأمة؟

"الدولة الفاشلة" ليست حتمية تاريخية

إننا نطرح هذه الأسئلة رغم وعينا بأن النخب المهيمنة حاليا على الشأن التونسي لا يمكن أن تقدم لها الإجابات التي تقتضيها الموضوعية أو طبيعة التحديات/ الرهانات التي تطرحها المرحلة الحالية. فالإجابة التي تقطع مع المنطق السائد - أي مع آليات إنتاج المعنى المهيمنة حاليا - قد تنسف علة وجودهم ذاتها وتفقدهم جوهر شرعيتهم المزعومة. ولكننا على ثقة بأن الإجابة عن هذه الأسئلة لن تظل معلقة طويلا، وذلك لأن الأزمة قد بلغت مرحلة لا تهدد فقط بنزع أية شرعية أو مصداقية عن "آلات صيدهم" - أي عن أنساقهم الحجاجية المتنازعة على إدارة الفشل - بل تهدد موضوع صيدهم ذاته: وجود الدولة. وهو ما سيجعلنا أمام وضع منفتح من الناحية الواقعية على ممكنين أساسيين: مواصلة إدارة الأزمة بالعقل القديم والدفع بالأوضاع نحو"الدولة الفاشلة"، أو ظهور أصوات عاقلة بين النخب الحالية - أو خارجها - لتقديم بديل جذري يقطع مع سرديات إدارة التخلف والتبعية مهما كانت ادعاداتها و"بكائياتها" الكاذبة.

twitter.com/adel_arabi21