عقب وساطات مكثفة لوقف إطلاق النار بين المستعمرة الاستيطانية
الإسرائيلية وحركة
حماس وفصائل
المقاومة الفلسطينية، وعودة الهدوء إلى قطاع غزة والمستعمرة الإسرائيلية بعد قتال دام 11 يوماً، أعلنت كل من المستعمرة الإسرائيلية وحركة حماس النصر في هذه الجولة من المعارك، وإذا كان هناك شك مرجّح بادعاء المستعمرة النصر، فثمة تأكيد على أن المقاومة حققت انتصاراً واحتراماً، في مواجهة جيش يعتبر الأقوى في الشرق الأوسط.
والأهم أن المعركة كشفت تهافت نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، وفشل استراتيجية الردع وتكتيكات مكافحة التمرد الاستعمارية، وبرهنت عن جدوى المقاومة المسلحة في سياق الحروب اللامتكافئة، وعن خرافة نهج الاقتصار على المقاومة السلمية اللاعنفية في التحرر من القوى الاستعمارية.
المعركة كشفت تهافت نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، وفشل استرتيجية الردع وتكتيكات مكافحة التمرد الاستعمارية، وبرهنت عن جدوى المقاومة المسلحة في سياق الحروب اللا متكافئة
لا جدال في أن الجولة الأخيرة من الحرب لن تكون الأخيرة، لكنها على خلاف الجولات السابقة شكّلت حدثاً فريداً في تاريخ حركة التحرر الوطني الفلسطيني، إذ لم تقتصر على الجانب المادي من الحرب بتطور قدرات المقاومة العسكرية، بل على الجانب الرمزي من معركة التحرر، حيث يتردد صدى خطاب فرانز فانون بتفكيك الاستعمار وآلياته في الهيمنة والسيطرة. فالوعي هو الخطوة الأولى للتحرر قبل امتلاك المقومات المادية، والاستعمار لم تتغير أدواته الرئيسة بعيداً عن أساطير الثورة في الشؤون العسكرية، فلا يزال المنطق الاستعماري يستند إلى استراتيجية مكافحة التمرد، التي وضعها الجنرال الفرنسي غالولا في الجزائر وطورها الجنرال الأمريكي بترايوس في العراق وأفغانستان، واعتمدتها المستعمرة في فلسطين.
لا بد أن نطوي آفة النسيان ونتذكر أن مصير تلك الاستراتيجيات منيت بالفشل الذريع، فقد هزمت فرنسا في الجزائر وأمريكا في العراق وأفغانستان، ولن يكون مصير المستعمرة الإسرائيلية مختلفاً. لم يكن فشل الاستعمار نتاج المقاومة السلمية اللا عنفية، فتلك أسطورة شائعة للتخلي عن المقاومة المسلحة، إذ يؤكّد الفيلسوف والمؤرّخ الإيطالي الراحل دومينيكو لوسوردو في كتابه "اللاعنف، التاريخ الكامن وراء الأسطورة" على أنّ فلسفة اللاعنف مبنيّة على ثنائيّة خاطئة بأنّ بإمكاننا أن نختار بين العنف واللاعنف.
تحاول المستعمرة العنصرية الإسرائيلية الترويج لدعاية الانتصار في حروبها في إطار معركة سياسات الوعي، وتحظر أي حديث عن الهزيمة، وهي دعاية عارية عن الصحة. وقد اعترف وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق، أفيغدور ليبرمان، العام الماضي أمام لجنة أمنيّة عسكريّة عُليا في الكنيست وسرّب إلى صحيفة "هآرتس" بأن إسرائيل لم تنتصر في أي من حروبها التي خاضتها منذ احتلال كامل فلسطين حتى الآن، وأضاف أن عدوها الأول واللدود يتمثل في حركتي حماس والجهاد وكل مِن إيران وحزب الله.
إن حديث ليبرمان أن إسرائيل لم تنتصر في أي من حروبها التي خاضتها منذ احتلال كامل فلسطين حتى الآن، يشي بأنها انتصرت في حروبها مع العرب، لكن الحقيقة أن الدول العربية لم تخض أي حرب فعلية مع المستعمرة، والحرب الوحيدة إذا جاز القول هي حرب 1973، وإعلان انتصار ظرفي مشكوك فيه. وبات من المعلوم أنها كانت حرب تحريك لفتح مفاوضات ما سمي بالسلام، والذي قاد لاحقا إلى تطبيع دون حرب أصلاً.
الدول العربية لا تقع صمن مهددات الأمن الإسرائيلي، التي تحولت جيوشها إلى قوات مكافحة إرهاب داخلي، وهي حقيقة ظهرت في وثيقة "استراتيجية الجيش الإسرائيلي" لأول مرة 2015
فالدول العربية لا تقع صمن مهددات الأمن الإسرائيلي، التي تحولت جيوشها إلى قوات مكافحة إرهاب داخلي، وهي حقيقة ظهرت في وثيقة "استراتيجية الجيش الإسرائيلي" لأول مرة 2015، التي وضعت إبان فترة شغل الجنرال غادي آيزنكوت منصب رئيس الأركان العامة لـ"جيش الدفاع الإسرائيلي"، في الفترة 2014- 2019، والذي كتب بالتعاون مع العقيد احتياط غابي سيبوني، وهو زميل أبحاث أقدم في "معهد دراسات الأمن القومي"، ورقة سياسات "توجيهات لاستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي"، حيث يؤكدان على حقيقة خروج الدول العربية من معادلة الأمن.
فقد جاء في الورقة: "اليوم تجد إسرائيل نفسها تبحر في مشهد من التهديدات المتغيرة. فالتحوّل المميّز البارز هو أن خصمها الرئيس لم يعد تحالفاً من الدول العربية مصمماً على تدمير إسرائيل من خلال مناورات برية واسعة النطاق، بل يشمل خصومها اليوم منظمات غير حكومية تنتهج استراتيجية قائمة على هجمات وتوغلات محدودة في الأراضي الإسرائيلية".
إن المرتكزات الأساسية للجيش الإسرائيلي كقوة استعمارية تقوم على عقيدة مكافحة التمرد، كما هو شأن القوى الكولونيالية التقليدية. فمنذ الاستعمار البريطاني، شكلت فلسطين مختبراً لتقنيات قمع الثورات وحركات المقاومة ضد الاستعمار، في إطار عقيدة "مكافحة التمرد"، إذ تستند جذور الممارسات الصهيونية الحالية إلى سياسات القمع البريطانية ضد الثورة الفلسطينية.
ويقوم خطاب عقيدة مكافحة التمرد على نسق تفكيكي (فرق تسد)، عن طريق عزل وتفكيك المجتمعات وبث الخلافات ودعم الانشقاقات، باستهداف الحاضنة الشعبية وعزلها عن "المقاومة، باعتبارها تمرداً على سلطة شرعية، واستهداف المقاومة وعزلها شعبياً ودولياً من خلال شيطنة وتجريم أفعالها، ووصفها بمصطلحات سلبية قدحية بوصمها بـ"الإرهاب" أو "التخريب" أو "العبث". وفي المقابل بقوم الاستعمار بخلق سلطة موالية، يضفي عليها صفات المدح وينعتها بـقوى "السلام" و"الحوار" و"الاعتدال"، وينشئ لها ما تسمى "المناطق الخضراء" كمساحات آمنة خالية من المقاومة، ومقاومة لأي بذور للمقاومة، كما هو حال سلطة أوسلو في رام الله.
تشدد عقيدة مكافحة التمرد الاستعمارية على خلق كيان تصبغ عليه صفة الشرعية، فوجود حكومة محليّة صورية يساعد على تسفيه أعمال المقاومة، ويشرعن عمليات القتل والاعتقال، وتجفيف مصادر التمويل، ويحول دون تحويل المقاومين إلى رموز وأبطال.
وتهيمن على خطاب مكافحة التمرد مسألة "كسب قلوب وعقول الناس"، إذ لا يكف عن استعمال عبارات طنانة مثل "حرصاً على سلامتكم" أو "معاً نوقف الإرهاب" أو "نحو مجتمع آمن"، وفي نفس الوقت لا يقتصر خطاب مكافحة التمرد على نزع شرعية المقاومة ونعتها بالإرهاب، بل يعمل على التبشير بعبثيتها وعدم جدواها.
وضعت المواجهة الأخيرة بين المقاومة الفلسطينية والمستعمرة الإسرائيلية، الأخيرة في مأزق غير مسبوق، حيث فشل الأمن القومي الإسرائيلي في تطبيق عقيدة مكافحة التمرد فشلاً ذريعاً، فقد ارتفعت شعبية المقاومة واتسعت حاضنتها، وتراجعت شعبية السلطة، وتنامى خيار المقاومة
وقد أكد على أهداف عقيدة "مكافحة التمرد"، غادي آيزنكوت وغابي سيبوني، في ورقة السياسات بالقول: "تقوم استراتيجية الأمن القومي (الإسرائيلي) على مفهوم "الجدار الحديدي" لزئيف جابوتينسكي. وبعبارة أخرى، لا يمكن تحقيق السلام إلا بعد أن يدرك أعداء إسرائيل أنّ مساعيهم غير فعالة وتؤدي إلى زيادة معاناتهم الخاصة. ويجب أن يكونوا مقتنعين بأن بإمكانهم تحقيق الكثير من خلال الحوار وليس العنف".
وضعت المواجهة الأخيرة بين المقاومة الفلسطينية والمستعمرة الإسرائيلية، الأخيرة في مأزق غير مسبوق، حيث فشل الأمن القومي الإسرائيلي في تطبيق عقيدة مكافحة التمرد فشلاً ذريعاً، فقد ارتفعت شعبية المقاومة واتسعت حاضنتها، وتراجعت شعبية السلطة، وتنامى خيار المقاومة، وازداد السخط على الاحتلال، وتسارعت وتيرة حركة التضامن العالمية مع القضيىة الفلسطينية، وأصبحت جرائم الاحتلال مفضوحة، وغدت مقولة حق الدفاع عن النفس مهزلة، وباتت أنظمة التطبيع خرساء، وانزوت في زوايا الخزي والعار في بيت ذلها وهوانها.
لعل من أهم ما برهنته المعركة الأخيرة، هو أن الاستقلال والتحرر من الاستعمار لا يتحقق عن طريق سلام بدون عدالة، والأهم أن المقاومة كلمة مفتاحية مقدسة يصعب تدنيسها من لدن دول وجهات وقوى مهولة. فرغم الاختلال الكبير في توزيعات القوة بين الاحتلال والمقاومة، وحصار المقاومة وتجريمها عربياً ودولياً، إلا أنها استطاعت أن تبني قوة كافية للردع، إذ لم يعد الحديث عن تطوّر القدرات العسكرية للمقاومة الفلسطينية عموماً، وحركة "حماس" خصوصاً سراً.
من أهم ما برهنته المعركة الأخيرة، هو أن الاستقلال والتحرر من الاستعمار لا يتحقق عن طريق سلام بدون عدالة، والأهم أن المقاومة كلمة مفتاحية مقدسة يصعب تدنيسها من لدن دول وجهات وقوى مهولة
فقد كشفت المواجهة الأخير عن بعض قدراتها، حيث بدأت مؤسسة الجيش وأجهزة المخابرات الإسرائيليين تتحدث منذ 2014 عن "جيش حماس"، وتخلت عن استخدام مصطلح "الجناح العسكري لحركة حماس"، بالإشارة لكتائب عز الدين القسام، وأصبح يطلق على قائد القسام محمد الضيف، رئيس هيئة الأركان، والذي تحول في المواجهة الأخيرة من بطل إلى أسطورة.
لقد طورت حماس قدراتها العسكرية، ولم تعد قوة بدائية، وأصبح لديها قوات نظامية واحتياط ووحدات نخبة، ومقاتلون بحريون وبريون، وأسلحة متطورة كالصواريخ المتنوعة، والطائرات المسيّرة المتفجرة. ويعتقد الإسرائيليون أن "كتائب القسام" أو "جيش حماس" باتت قوة فاعلة ومؤثرة، بعدما تعاظمت قوتها بشكل كبير ولافت؛ حيث تمتاز الكتائب بتماسك بنيانها التنظيمي، ورؤيتها المتزنة، وثقل فعاليتها على الأرض.
وكان رئيس الحركة في قطاع غزة يحيى السنوار قد صرح عام 2017 أن "عدد المقاتلين في القطاع يقدر بحوالي 70 ألفاً من الشباب، سيخرجون من باطن الأرض بمضادات دروع، وسيطلقون صواريخ ستحيل مدن إسرائيل إلى مدن أشباح"، وأنّهم يملكون مئات الكيلومترات من الأنفاق تحت الأرض، وآلاف الكمائن، وجميعها صنعت في غزة. وقد صرح بعد الحرب أن هذه القوة لم تتأثر وأن الخسائر محدودة جداً.
أظهرت الحرب الأخيرة جانبا من قوة المقاومة، حيث أطلق أكثر من 4300 صاروخ من قطاع غزة في اتجاه المدن المحتلة، وزعم الجيش الإسرائيلي أن القية الحديدية اعترضت 90 في المئة منها، وهو ما أصبح موضع تندر, واستخدمت المقاومة مجموعة متنوعة من التكتيكات لأول مرة، حيث قالت الدفاعات الإسرائيلية أنها أسقطت طائرة بدون طيار، وقال متحدث عسكري إسرائيلي: "إن وحدة خاصة من حماس حاولت التسلل إلى إسرائيل عبر نفق من الجزء الجنوبي من القطاع"، كما جرت محاولة لوحدة الضفادع البشرية.
وفي ترسانة المقاومة مجموعة متنوعة من صواريخ أرض- أرض، بعضها جرى تهريبه إلى غزة، وأكثرها تم تطويره محلياً. ففضلا عن الصواريخ قصيرة المدى، بحوزة حماس مجموعة متنوعة من الأنظمة الصاروخية طويلة المدى يمكنها الوصول للقدس وتل أبيب على حد سواء، وتهديد الشريط الساحلي الذي يضم أكبر كثافة سكانية في الأراضي المحتلة عام 48 والبنية التحتية الحيوية بأكملها.
المواجهة الأخيرة سوف تبدل إلى الأبد منظورات الأمن القومي الاسرائيلي، إذ لم تعد عقيدة مكافحة التمرد الاستعمارية فعالة، وفشلت في جوانبها المادية والرمزية
خلاصة القول أن المواجهة الأخيرة سوف تبدل إلى الأبد منظورات الأمن القومي الاسرائيلي، إذ لم تعد عقيدة مكافحة التمرد الاستعمارية فعالة، وفشلت في جوانبها المادية والرمزية. فقد حققت المقاومة نصراً استراتيجياً، وقلبت تكتيكات كسب العقول والقلوب، وأصبحت تتمتع بشعبية جارفة، وحاضنة كبيرة، ومؤازرة عالمية، وباتت المؤسسة العسكرية الاستعمارية الإسرائيلية تدرك معنى الردع، وتعلم أن اجتياح القطاع هو مغامرة تنطوي على مفاجآت يصعب حسابها.
وهكذا تهاوت أسطورة "جيش الدفاع"، وخرافة الدفاع عن النفس، وكشفت المقاومة عن عورة الاحتلال الكولونيالي، ومُخبره المحلي، وشريكه الدولي، وتابعه الإقليمي، والأهم توشك أن تدفن هرطقات الثورة في الشؤون العسكرية، ومركز الخبرات العملياتية، وعقيدة مكافحة التمرد، فحيث يوجد احتلال تجب المقاومة.
twitter.com/hasanabuhanya